الخيار الصعب

المصالحة بين الجزائريين.. ضرورة داخلية واتجاة عكس التيار مع الخارج .. فلماذا ؟

TT

بنهاية هذا الشهر، يكون الجزائريون قد أدلوا باصواتهم في 7 انتخابات عامة في غضون 10 سنوات، اي بمعدل عملية انتخابية في كل 17 شهراً. عمليات التصويت هذه، المرتفعة العدد نسبياً، ظلت تهدف لشيء واحد: معالجة المشاكل الكبيرة التي تأتت عن عملية انتخابية واحدة، كانت تلك اول انتخابات عامة تعددية غامرت السلطة بتنظيمها ثم فوجئت بنتيجها، فقررت إلغاءها. لكن يبدو ان استحقاق 29 من الشهر الجاري سيكون مختلفا وعليه يتوقف اجراء اي انتخابات استثنائية عدا تلك المدرجة في الدستور والتي انتظمت بشكل ملحوظ واعطت العملية الديمقراطية في البلاد تقدماً كبيراً. الجزائريون يريدون انتخابات هذا الشهر فريدة وحاسمة وأخيرة في مسلسل معالجة الأزمة. يريدون بها طي صفحة 15 سنة من المعاناة والاقتتال. سيصوتون بـ «نعم» او «لا» على «ميثاق» يتمثل في جوهره بقضية واحدة : العفو عن الذين أخطأوا في حق الوطن، أو الاستمرار في ملاحقتهم عسكرياً وقضائياً وبالتالي تحمل تبعات تمردهم.

ورغم ان الصورة تبدو بسيطة، فان القضية تثير جدلاً كبيراً وسط الجزائريين. والغريب ان معارضي «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» يشتركون في انتقاد المشروع ومعديه، لكنهم ينقسمون عند التفاصيل. فبعضهم ينتقد تسامح المشروع مع المسلحين، والبعض الآخر يلوم ما جاء في الميثاق من تحميل طرف واحد الأزمة وغض الطرف عن «التجاوزات» التي ارتكبها بعض عناصر الامن خلال مواجهتهم للارهابيين. وهذا التباين مؤشر واحد فقط على تعقيدات مشروع السلم.

وتتوزع حجج المعارضين لميثاق السلم من اعداد المشروع من جهة واحدة (الرئاسة) من عدم تعاطي المشروع مع كل مشاكل المجتمع التي نتجت عن الازمة، إلى اتهام السلطة بالتهرب من «المصارحة»، وانتهاء بعرض مشروع الميثاق بطريقة يصعب معها الاعتراض، بمعنى ان بعض المعترضين يمتنعون عن طرح تحفظاتهم التفصيلية خشية ان يفهم بأنهم ضد السلم. وفعلاً التزم عدد من الشخصيات السياسية الوطنية (امثال أحمد طالب الابراهيمي ومولود حمروش) الصمت تجاه مشروع السلم. الا ان مراقبين يعتقدون بان موقفهم هذا نابع من معارضتهم للتركيبة السياسية لنظام الحكم حالياً وليس لمشروع السلم.

ويشير المتحفظون على طريقة عرض ميثاق السلم الى ان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة صار يتعمد اجراء خطوة واحدة تجاه السلم في كل فترة رئاسية (مشروع الوئام خلال الفترة الاولى، والمصالحة خلال الثانية)، بهدف التجديد له، وذلك من خلال اعطاء الانطباع دوماً بان تحقيق السلم الكامل يحتاج الى فترة اخرى للرئيس. ويقول سياسي جزائري ان الرئيس بوتفليقة «سينهي فترته الرئاسية الحالية بموضوع العفو» اي ان هذا الملف سيكون الطاغي على الاجندة السياسية حتى عام 2009 . لكن، بعيداً عن السياسيين الذين يستحيل إرضاؤهم جميعاً، فإن من الصعب انكار ان القطاع الاوسع من المجتمع يتملكه الارتياح ازاء التهدئة الامنية التي طبعت فترة رئاسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ويشعر بان مصالحةً ناقصةً افضلُ من البقاء في حالة اللا حرب واللا سلم. هؤلاء يدركون ان طرح وثيقة سلم والتصويت عليها في تاريخ محدد، سيعطيان انطباعاً نفسياً بان فترة تاريخية قد انتهت واخرى قد بدأت، اي ان انتخابات 29 سبتمبر 2005 ستكون واحدة من المحطات المهمة، إن لم تكن الأهم، في مسلسل حل الازمة.

ويقول مؤيدون لمشروع ميثاق السلم إن الوثيقة المطروحة للاستفتاء تمثل احسن ما يمكن التوصل اليه من خلال التوفيق بين تقاطعات الازمة المعقدة. ويبدو ان الرئيس بوتفليقة قام بعملية ذكية لصياغة هذا المشروع. فقد اطلق الفكرة تحت مسمى «العفو» اول مرة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين لثورة استقلال الجزائر. اراد بذلك رمي الفكرة للمجتمع والوقوف الى كل ما يطرح خلال المناقشات المتعددة. وبالفعل ظل العفوُ والمصالحةُ الموضوعين الرئيسين الطاغيين على النقاش الجزائري خلال العام الماضي، ما مكن، على ما يبدو، الرئيس والمحيطين به، من بلورة رؤية واسعة ومحددة حول ما تراه غالبية فئات المجتمع وايضاً الطبقة السياسية.

وعند إطلاق الصيغة النهائية من المشروع، الشهر الماضي، اتضح ان الرئيس اقتنع بضرورة إلغاء بند «العفو الشامل» من المشروع، واكتفى بعرض العفو عن الذين التحقوا بالعمل المسلح بدافع انفعال او مضايقات من دون ارتكاب أعمال قتل. وربما حدث ذلك بسبب التحفظات التي اثيرت داخلياً وخارجياً بشأن العفو عن المتورطين في اعمال القتل، خصوصا من منظمات الدفاع عن حقوق الانسان. وتضمن المشروع نقاطا اخرى كانت متوقعة مثل تكفل الدولة بملف المفقودين، اي تحمل الدولة تعويض عائلات هذه الفئة بالضبط مثلما فعلت، ولا تزال، تجاه عائلات ضحايا الارهاب. كذلك حاولت الصيغة النهائية الابتعاد عن لغة الاستفزاز او اصدار الاحكام، فاستخدمت مثلاُ عبارة «المأساة الوطنية» بدل الأزمة، وعبارة «السلم» بدل «العفو».

وواضح ايضاً ان الرئيس بوتفليقة عرف كيف يتجاوز طروحات من ارادوا، خلال مناقشة موضوع المصالحة، إخراج الفكرة عن مسارها أو إفراغها من محتواها، اذ تحدث الكثيرون عن ضرورة توسيع العفو ليشمل الحركى (الجزائريون الذين تعاونوا مع فرنسا خلال ثورة التحرير) والمتورطين في الجرائم الاقتصادية وغيرهم. ويبدو ان الجدل السياسي حول ميثاق السلم طغى حتى على بحث الجوانب الفنية التي تعرقل تحقيق المشروع. فالمعنيون الاوائل بمشروع العفو الجزئي (المسلحون الموجودون في الجبال)، ربما لم تصلهم الرسالة كاملة حتى هذه اللحظة. وتفيد الانباء الميدانية بان قادة المجموعات المسلحة منعوا منذ فترة طويلة العناصر الاقل تورطا في اعمال الارهاب من التواصل بالصحف او الاستماع للاذاعة او التلفزيون خشية ان تصلهم رسالة العفو فيحاولون تسليم انفسهم. ومن هذه الزاوية، ربما كان طرح العفو الشامل افضل من العفو الجزئي. ويظل مشروع السلم والمصالحة مشروع الرئيس بوتفليقة بالكامل. فالرجل منذ ان جاء الى الحكم عام 1999، جعل هذا الشعار عنواناً لرئاسته، وهو يطمح بان يذكره التاريخ بالزعيم الذي حقق الصلح بين ابناء الجزائر في واحدة من احلك فترات تاريخ هذا البلد. وواضح ان هذا الطموح الكبير يتفوق على اي اهداف اخرى يتطرق اليها السياسيون او الخصوم مثل اعتزامه تعديل الدستور والترشح لفترة رئاسية ثالثة عام 2009. والجميع يدرك ان بوتفليقة قادر على المضي لفترة ثالثة، في حال قرر ذلك، انطلاقاً من الشعبية التي يتمتع بها الآن.

ويدرك الرئيس بوتفليقية ان طريق المصالحة الذي ينتهجه يسبب له المتاعب داخلياً وخارجياً. ففي الداخل يجد الامر معارضة من جهات نافذة في الحكم، واضطر الرئيس نفسه الى الافصاح عن هذه الجزئية عندما كرر خلال الحملات التحسيسية للميثاق ان هناك من داخل السلطة من يريد عرقلة المشروع. وخارجياً تبدو الجزائر، بتخليها عن خيار «الكل الامني»، وكأنها تسير عكس التيار، خصوصاً وسط المناخ الدولي المطبوع بالحرب على الإرهاب. واذا كانت الحرب الكونية على الارهاب التي بدأت بعد هجمات 11 سبتمبر (ايلول) قد افادت الجزائر، على اعتبار انها كانت تحارب الارهاب منفردة لمدة 10 سنوات، فان هذه الحرب الكونية ربما تقف اليوم عائقاً امام مشروع المصالحة بين الجزائريين. ورغم ان المسؤولين الجزائريين يحاولون رسم الخطوط بين انخراط الجزائر في الحرب الكونية ضد الارهاب، وتبنيها داخلياً المصالحة، فان هناك من يعتقد فعلاً بأن ضغوط حرب الارهاب تشكل احد الكوابح امام حل المشكلة الجزائرية داخلياً. بمعنى آخر، هناك من الجزائريين من يتمنى لو جاء انتهاج خيار المصالحة في فترة اخرى غير فترة ما بعد 11 سبتمبر .