الأنهار والطغيان.. هل من علاقة؟

توجد الأنهار في الكثير من الديكتاتوريات.. غير أنها أكثر في الديمقراطيات

TT

< لا تقيموا في أرض ليس فيها نهر جار وسوق قائمة وقاض عدل «حكمة عربية» < لا ترهق نفسك بمراقبة خصمك، فما عليك إلا الانتظار وسيحمل لك النهر جثته «حكمة صينية» الأسئلة المستحقة حول علاقة الإنسان بالأنهار، وعلاقة الأخيرة بالطغيان أو توطين حكم الفرد كثيرة، والجدل حولها أيضا يتوالى من خلال استشهادات، لا تخلو من انتقاء يصل الى حد القطع بأنه وأينما وجد نهر، كانت هناك ديكتاتورية، أو حكم استبدادي. وبدءا، فالصحيح في مثل تلك الأحكام أن وجود الأنهار يستصحب وجود حضارة، فيما يعني وجود الحضارة وجود تنظيم للحكم من نوع ما، قد يتعلق أمر تنظيمه بالزراعة التي دخلها الإنسان تاريخيا كمرحلة تالية لمراحل جني الثمار والرعي. وحين ترتبط الزراعة بالنهر، وليس بالضرورة بالأمطار، فالأمر يبدو كما لو أنه يستدعي سلطة مركزية وقبضة تنظيمية للموارد، بما يفتح الباب لممارسة القهر أو الطغيان. والى مثل هذا التفسير ذهب كاتب، في قامة المفكر المصري الراحل جمال حمدان.

ولكن الصحيح أيضا أن هكذا ممارسات لا تعدو كونها ممارسات عرضية، أو تبدو ضعيفة التبرير، إذا ما قرئت القضية بكاملها مع طيف واسع من القضايا من شاكلة رحلة الإنسان مع الحياة بما فيها من المعتقدات الدينية، وارتباطها بالطبيعة وانبهار الإنسان البدائي بالسماء والكواكب، ولجوئه الى طقوس كثيرة يتحسب بها من غضب الطبيعة أو يستبقه بطقوس وأساطير اصطنعها للتكيف مع المكان والطبيعة طبعا.

وهنا، ومن مثل ذلك المنظور الواسع تبدو الأنهار كما لو أنها بريئة من إلصاق ممارسة الطغيان لمجرد وجودها بين شعب أو أمة.

فالأنهار، كانت مثلا مع معظم الحضارات ذات علاقة بالتدين، ففي بلاد الشام والرافدين كانت أديان الآشوريين والبابليين والآراميين تؤمن بأن الإله «تمّوز» ـ والذي يطلق عليه البعض خطا «أودينيس» برواية الباحث فيكتور سحاب ـ كان يموت في الشتاء فيسيل دمه في الأنهار متسببا في احمرارها، مع أن ذلك الاحمرار وليد جرفها للأرض في أزمنة فيضانها. والى ذلك ذهبت الديانات الهندية القديمة، والقريبة جغرافيا من الحضارة الآشورية الى حرق أجساد الموتى ونثر رمادها في الأنهار تقربا منها، فيما جاء اختيار اسم « يانغ » لدى الهنود لأحد الأنهار من اسم لإله، والى ذلك ابتدع الفراعنة تقديم عروس لنهر النيل تعبدا واتقاء لشرور الفيضان. فيما مارست حضارات نهر الأمازون بأميركا الجنوبية نفس طقس الفراعنة في إهداء النهر فتاة، غير أنهم وبقسوة كانوا يختارون له فتاة يتيمة فقدت أبويها. والى ذلك ثبت أن للنهر موضع قداسة لدى الهنود الحمر سكان أميركا الحالية الأصليين.

الى ذلك، وفي مرحلة تالية بآلاف السنين جاءت الأديان السماوية لتثبت علاقة دنيوية وآخروية بالأنهار، ففي التوراة نقرأ « وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا » لنقرأ من بعد تسجيل التوراة لأسماء أربعة رؤوس للنهر الذي كان يخرج من عدن ليسقي الجنة لترصد من بين تلك الأنهار «حداقل» وهو ما يعرف اليوم بدجلة ، والرابع هو «الفرات» الحالي، فهل نسأل تلك الأنهار لاحقا عن أنظمة شمولية شادها حمورابي أو نبوخذ نصر الذي هزم دولة يهودا حين حرضها عليه الفراعنة، أو صدام حسين ؟. وفي القرآن الكريم مواقع ومواقع للأنهار، فهي في الحياة الدنيا رمز الماء، شرط الوضوء والتطهر، ومصدر الحياة: « وجعلنا من الماء كل شيء حي »، بل وفي الآخرة، هناك أيضا « جنات عدن تجري من تحتها الأنهار » كماكافأة للمتقين، أضف الى أن بين أعلى حياض الجنة عذوبة ومكانة « الكوثر » ومن التفاسير ما يذهب الى أنه نهر.

صحيح أن الوجود الجغرافي للأنهار في منطقة الشرق الأوسط، قد ارتبط بمساهمة مع عوامل أخرى، في أن تكون سطوة الحاكم قاهرة ، بدءا من حضارات الهلال الخصيب ونهاية بوادي النيل، حيث مصر والسودان الآن، ولكن الصحيح أيضا أن مثل ذلك القول بالانكفاء على الماضي يقول لك إن دولا مثل سويسرا وفرنسا وألمانيا، بل وبريطانيا، قد عاشت حروبا وحروبا وثورات ضد الطغيان والأسر الحاكمة، وضد سطوة الكنيسة في العصور الوسطى، في بلاد تجري فيها أنهار الراين والسين والتايمز، ولكن نفس البلاد ودعت تلك العصور والعقائد ، وتواضعت على الديموقراطية كنظام سياسي ، منذ أن أرست الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر لمبدأ: الحرية والعدل والمساواة. وشاهد القول هنا، أن الربط القطعي بين الأنهار والديكتاتوريات أو الطغيان، يبدو كما لو أنه يتغافل عن رحلة الإنسانية عبر العصور والتي لم تخل من انتقالات واضحة في التكيف ومحاولات فهم الطبيعة. وللتدليل على مثل هذه الحقيقة لنا أن نتوقف مع حقيقة أن الإنسانية قد أمضت 800 سنة وهي تعايش ما عرف بالعصر الحجري، و500 سنة لتعايش ما عرف بالعصر النحاسي أو البرونزي، ثم 300 سنة لتعايش العصر الحديدي، وينبه علماء الاجتماع والأنثروبلوجيا الى التفكر في الأرقام مع كل عصر من تلك العصور الثلاثة، ليقولوا لك إنها تناقصت بمقدار 300 سنة من الحجري الى النحاسي، لتتناقص 300 سنة أخرة في الانتقال من النحاسي الى الحديدي، بما يعني أن تراكم التجربة هو الذي يتيح الانتقال السريع نحو أفق أرحب من التحضر، قد يكون فيه النهر عامل إضافة بما يتيحه من إمكانيات للري والزراعة وتلطيف الطبيعة، أكثر من كونه داعية أو سببا لسيادة الديكتاتورية أو الطغيان. وأخيرا، فإذا ما تخيرنا نهرا في العالم، وطالبناه بتقديم مرافعة يدحض فيها صلته بالديكتاتوريات لكان لسان حاله مرافعة تقول: يا حضرات: أنا ابن الجغرافيا، مثلي في ذلك مثل الغدران التي ترفدني بمياهها، لأجري من منبعي الى مصبي في البحار، ومثلي مثل الجبال والأرض التي تستضيفني، وبالتالي فسؤالي أو تحميلي مسئولية قضية شائكة مثل الديكتاتوريات يبدو تبسيطا، لأن مثل هذا السؤال مثل سؤال الأرض عن الزلازل، أو المحيط الهادي عن التسونامي الذي ضرب آسيا وأهلك مئات الآلاف من البشر، أو إعصار كاترينا الذي تبكي مدن من آثاره الى اليوم، بل إني وفي تاريخي مع الفيضانات لم أتسبب في فاتورة ضحايا من البشر تصل الى عشر العشر مما تحدثه الزلازل أو الأعاصير. ثم إن الطغيان ممارسة إنسانية وسياسية، فهل لكم أن تدلوني على نهر مارس السياسة، وهل سمعتم بنهر شيوعي أو آخر رأسمالي أو بعثي.

ولهذا، وأخيرا، ورجاء، لا تسألوني، واسألوا إن شئتم أنفسكم، من مات منكم، ومن ينتظر.