الرق في موريتانيا .. محنة وراء حجاب

هل ما زال يوجد عبيد سود يعملون بدون مقابل لأسيادهم البيض؟ "الشرق الأوسط" تزور «لكبيرة» لتستكشف

TT

بالرغم من الانقلاب العسكري الذي أنهى واحدا وعشرين عاما من حكم الرئيس المعزول معاوية ولد الطايع في الثالث من أغسطس (آب) الماضي، ما زال الحديث عن الرق او العبودية ضمن دائرة المحظورات في موريتانيا. ومع أن رئيس الحكومة الانتقالية سيدي محمد ولد بوبكر شدد في معرض رده على أسئلة «الشرق الأوسط» خلال مؤتمر صحافي، الأربعاء الماضي، على انه لم تعد في موريتانيا مُحرمات، لا يلحظ المراقبون للشأن الموريتاني تحولا في الخطاب الرسمي عندما يجري الحديث عن ظاهرة العبودية التي كان النظام السابق يعتبر مجرد التطرق إليها في وسائل الإعلام تشويها لصورة موريتانيا واعتداء على السكينة العامة وإخلالا بالسلم الاجتماعي وتهديدا للوحدة الوطنية. وكان يرسل إلى السجون الصحافيين والناشطين الحقوقيين الذين يكشفون حالات من الاسترقاق بعيدة عن أعين العالم.

عندما سألت ولد بوبكر عن الرق، أجاب بسرعة انه «ممارسة بشعة» وأضاف: «سنعمل على محاربة مخلفاته ولا مجال في موريتانيا بعد اليوم لتهميش فئة، وسيشارك الجميع في بناء مستقبل البلاد على حد تعبيره». وفيما وعد بدوره، الحاكم العسكري الجديد لموريتانيا، العقيد اعلي ولد محمد فال بتكثيف الجهود للقضاء على رواسب هذه الظاهرة المتمثلة أساسا في التهميش والجهل والفقر، ينتظر مناهضو الرق من هذا الضابط المحسوب على التيار الليبرالي والتقدمي في الجيش الكثير مما يمكن فعله في مجال محاربة العبودية، وان يشجع الناس على التخلي عن العبيد أو يفرض ذلك بالقوة. اللافت أن كبار المسؤولين في العهد الجديد يتحدثون فقط عن رواسب للظاهرة، في حين تحدثت الجمعيات الحقوقية خلال الأيام الأخيرة من حكم الرئيس السابق عن حالات استرقاق ناشدت الحكومة والعالم الحر القضاء عليها نهائيا. إذا لا توجد في أحاديث حكام موريتانيا الجدد إجابة عن السؤال المطروح في كل أنحاء العالم: هل ما زال حقا في موريتانيا عبيد سود يعملون دون مقابل لأسيادهم البيض؟

«لقد حرر الانقلاب موريتانيا من الديكتاتورية الطائعية، ونحن نتظر أن يحرر الانقلابيون إخوة لي ما زالوا مستعبدين في بوادي مدينة النعمة ـ 1000 كلم الى الشرق من العاصمة نواكشوط»، هكذا قال سالم، وهو طالب في جامعة نواكشوط ينتمي إلى فئة الحراطين العبيد المحررين الذين يسكنون في ضواحي نواكشوط لـ«الشرق الاوسط». يتطلع سالم وآخرون من أبناء العبيد السابقين المتعلمين إلى موقف أدبي شجاع لمؤسسة الحكم الجديدة إزاء الرق، يريد سالم وزملاؤه الذين يتقاسمون غرفة ضيقة من الخشب أن يعترف المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية بوجود ظاهرة الرق في موريتانيا وان يعتذر باسم الدولة للضحايا ويمد لهم يد المساعدة. «لا يمكنك أن تخفي عورتك بورق التوت كما كان يفعل النظام البائد الذي دأب على نفي وجود الرق بدون أن يفعل شيئا لتحرير العبيد من أغلال أسيادهم في الصحراء». قال يوسف الحرطاني، النحيل والفقير، الذي يتقاسم مع سالم غرفته الضيقة ووجبة واحدة في اليوم لا تسمن ولا تغني من جوع. الرحلة الي بوادي الترارزة ولبراكنة ـ محافظات موريتانية ـ شاقة للغاية فهي تتطلب منك الانحراف عن الطريق الرئيسي المعبد الوحيد الذي يربط غرب البلاد بشرقها والسير في مسالك برية صعبة تغوص خلالها السيارة في الرمال.

تشرق شمس يوم جديد على «لكبيرة» الحي البدوي القابع في أحضان الصحراء. عويشة (16 ربيعا) هي أول من ينهض من النوم في الحي فهي تعمل أمة (عبدة) لأسرة من إحدى القبائل البدوية. وعندما يغلب عويشة النعاس يصب عليها محمود رب الأسرة الماء البارد، اذ يجب على عويشة أن تقوم بخدمات محددة قبل انبزاغ نور الفجر، منها تسخين «التاديت»، لان سيدها محمود سيذهب إلى «لمراح» مباشرة بعد تأدية صلاة الصبح في مسجد الحي لحلب ناقته. ينتظر محمود من أمته أيضا تجهيز معدات الشاي وجلب الحطب الذي لا يصح دونه الشاي في أحياء كهذه تقع في فياف بعيدة لا غاز فيها ولا كهرباء.

خلال اليوم تقوم الأمة بأعمال أخرى؛ تجلب الماء من البئر وتقوم بتحضير وجبة الغداء وغسل آلات الأكل والشاي وثياب أفراد الأسرة، وهي تظل تعمل بدون توقف ومقابل طيلة اليوم. وفي نهاية المطاف هي آخر من ينام ويحق لمالكها الدخول بها لأنها امة، لذلك فهو يعتدي عليها جنسيا باستمرار، فهذا عمل مباح في رأيه. حالات كهذه كثيرة جدا في البوادي الموريتانية بحسب جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان المحلية «لقد استمرت ممارسة العبودية خلف الستار رغم إلغاء الرق رسميا سنة 1981». تقول فاطمة امباي رئيسة «الرابطة الموريتانية لحقوق الانسان» إن موريتانيا من بين مناطق قليلة في العالم ما زال سكانها يحتفظون بالعبيد.

وكانت «منظمة نجدة العبيد»، وهي جمعية حقوقية مناهضة للرق تأسست 1992 قد سلطت الضوء خلال الأسابيع الأخيرة من حكم ولد الطايع على فضيحة جديدة من فضائح ممارسة الرق تتعلق الحالة بسيدة تدعى هبة بنت محمد في السادسة والعشرين من عمرها وقد أمضت حياتها في رعي قطعان الإبل والغنم التي يملكها سيدها في جنوب غربي موريتانيا. ونقل ولد مسعود عن هبة قولها إنه لم يكن يسمح لها بالقراءة والكتابة، وان أسيادها كانوا يضربونها وقد حولوا ولديها إلى عبدين وابنتها إلى أمة.

ويدعو رئيس «نجدة العبيد» الصحافيين ومنظمات المجتمع المدني لحضور مؤتمرات صحافية ينظمها من وقت لآخر لعبيد تمكنوا من الفرار. وأصيب الموريتانيون بالصدمة عندما قدم ولد مسعود للصحافيين عبدا أبقا تجاوز الخمسين، قال انه أمضى حياته في رعاية الإبل لقبيلة شمال موريتانيا ويدعى العبد معطلل، وقد ناشد الحكومة مساعدته على تحرير أفراد أسرته التسعة الذين لا يزالون يعملون عبيدا في منطقة تيرس الزمور شمال موريتانيا.

وقال ولد مسعود لـ«الشرق الأوسط» إن حالات العبودية لا تطفو على السطح إلا عندما ينشب صراع مفتوح بين العبيد وأسيادهم السابقين أو عندما يدعي السادة أحقيتهم في ملكية عبد بعد وفاته. ولا يعرف معطلل القراءة والكتابة، ويقول انه عندما تمكن من الفرار وضع تحت المراقبة من قبل الدرك المحلي حتى لا يأتي سادته ويجبرونه على العودة. وأضاف أن أسياده كانوا يوفرون له الطعام والشراب والملبس، وإن كانوا يسيئون معاملته أحيانا.

خلال العقود الأخيرة، تمكن آلاف العبيد من الخروج على سيطرة أسيادهم بسبب تنامي الوعي السياسي والثقافي لدى أبناء هذه الفئة، خاصة بعد قيام حركة الحر التي أسسها «حراطين» متعلمون لتصبح من بين التيارات السياسية النشطة في البلاد. واسند الرئيس السابق معاوية ولد الطايع إلى عدد من أبناء العبيد وظائف ومسؤوليات كبيرة في أجهزة الدولة، وعين في يوليو (تموز) 2003 سياسيا من حركة تحرير العبيد رئيسا للوزراء، في خطوة قال مقربون منه إنها تهدف إلى تعزيز مشاركة فئات مستضعفة في الحكم والرفع من مكانتها في المجتمع.

ويتركز «الحراطون» العبيد السابقون الذين يشكلون بحسب إحصاءات غير رسمية حوالي 20 في المائة من سكان البلاد أساسا في إحياء من الصفيح تحيط بالعاصمة نواكشوط وتنعدم فيها ابسط مقومات الحياة الكريمة. ومن المفارقات أن بعض «الحراطين» يحنون للعودة إلى أسيادهم بسبب الجوع والفقر، ومن الصعب أن ترى في «الكبة» (التسمية الشائعة لهذه الأحياء) ابتسامة أو أن تسمع شهقة فرح آخر عبيد التاريخ بالحرية. ويرتبط عدد كبير من أسر العبيد بأسر سادتهم السابقين ويرتبطون معا بوشائج اقتصادية واجتماعية وعاطفية معقدة، وينحصر وجود الرق بحسب جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان في مناطق معزولة يسكنها بدو يتحدرون من قبائل البربر. وتحتفظ القبائل الموريتانية بنظامها الاجتماعي التقليدي الذي يضم طبقات مثل المشايخ والمحاربين والحدادين والرعاة والموسيقيين. ويقع العبيد السابقون في قاع الهرم الاجتماعي. ويرفض معظم العرب والزنوج الموريتانيين زواج بناتهم من العبيد المحررين، حتى ولو كانوا متعلمين ويشغلون مراكز مهمة في أجهزة الدولة. ويلخص ولد مسعود دور جمعيته «نجدة العبيد» في مساعدة مجتمعنا الذي لديه تقاليد في هذا المجال على التخلص من هذه الممارسة البشعة من خلال كشف الحالات المخفية للرأي العام الوطني والدولي. وقدمت وسائل الإعلام الرسمية الموريتانية والصحف المؤيدة للحزب الجمهوري الحاكم سابقا طيلة خمسة عشر عاما هذا المهندس اليساري الذي هرب من أسياده إلى مقاعد الدراسة كخائن واتهمته مرارا بالعمالة للأجنبي وبتشويه صورة وطنه. واعتقل ولد مسعود عدة مرات بعد تأسيس منظمة «نجدة العبيد» وأحيل إلى المحاكمة مع ناشطين حقوقيين آخرين بعد أن ظهر في برنامج تلفزيوني يتحدث عن صمت النظام السابق على العبودية. وتوقف المراقبون عند استقبال ولد مسعود بعد أيام من الانقلاب العسكري الذي أطاح بولد الطايع في القصر الرئاسي من قبل حاكم موريتانيا الجديد، العقيد اعلي ولد محمد فال، الذي ترك له سلفه تركة ثقيلة. ويرى ولد مسعود أن التكتم الرسمي لا يساعد على التعاطي معها. وتبدي بعض الأوساط الموريتانية مخاوف من أن يسعى العبيد للحصول «على حصتهم من الانقلابات» إذا لم تتخذ السلطات الجديدة إجراءات صارمة ضد استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، ويطمح رقيق موريتانيا إلى قسمة عادلة للسلطة والثروة، ويطالبون بالتعويض لهم عن عقود من الظلم والتهميش واللامبالاة.