سيمون فيزنتال: الصيّاد

قضى حياته في مطاردة الضباط النازيين المتورطين في الهولوكوست.. والبعض يأخذ عليه «شخصنة» القضية

TT

الذي يراجع حياة سيمون فيزنتال، اليهودي الاوكراني الاصل الذي توفى في فيينا الثلاثاء الماضي عن 96 عاما قضى اغليها في مطاردة النازيين المتورطين في الهولوكوست حتى بات يعرف عالميا بـ «صياد النازيين»، تنتابه افكار ومشاعر متناقضة. فكما يبتهج الانسان بتحقق العدالة، يأسى لانحيازها على اساس ديني او عرقي او لغوي. واذا تأملنا حياة الرجل الذي ولد في أوكرانيا أيام كانت جزءاً من الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، نجد انها تنقسم الى فترتين: ما قبل الحرب، وما بعدها. وهما قسمان قد يتماثلان في المساحة الزمنية، لكن يختلفان كلية في الهموم والتوجهات. لم يكن القسم الاول من حياة سيمون فيزنتال مرفها وناعما، كما كانت عليه حياة اليهود في تلك البلاد آنذاك. لقد قتل أبوه في الحرب العالمية الاولى، وحرم في صباه من دخول المعهد التقني في مسقط رأسه «لفوف» لان الحصة المخصصة للطلاب اليهود لم تتسع له. وسافر الى براغ وعاد بشهادة في الهندسة المعمارية من جامعتها، وبدا ان حياته ستأخذ منحى اخر. اذ دخل الجيش السوفياتي الى «لفوف» بعد توقيع المعاهدة الالمانية السوفياتية والاتفاق على تقسيم بولندا. وبدأت حملة ستالينية على اليهود باعتبارهم من البورجوازيين الذين يمتصون دماء العمال المطحونين. واذا كان فيزنتال قد هرب من قبضة الشرطة السرية السوفياتية، فانه وقع في اسر الألمان عام 1941 وتنقل بين خمسة معسكرات نازية قبل خروجه حيا بعد أربع سنوات، ليكتشف ان افران الغاز أتت على 89 شخصا من أفراد أسرته، وأولهم والدته. ومنذ خروجه من المعتقل، بدأ الشطر الثاني من حياته الذي كرسه لتجميع الشهادات والمعلومات والصور عن المجرمين النازيين الذين نفذوا خطة ابادة اليهود. وأعلن ان هدفه ليس الانتقام، بل تقديمهم الى العدالة لكي لا يتكرر ما اقترفوه من جرائم، وحتى لا يقال ان اليهود ساروا الى الموت بدون اعتراض. وأنشأ فيزنتال مركزا للتوثيق في مدينة «لينز» قرب العاصمة النمساوية، على مبعدة أمتار من المنزل الذي كانت تقيم فيه أسرة الضابط الألماني الفار أدولف الخيمان، احد أقطاب محرقة اليهود، وراح يتسقط أخباره على مدى سنوات، حتى اهتدى الى وجوده في الأرجنتين التي هرب اليها عدد من قادة هتلر بعد هزيمتهم في الحرب. وأعطى فيزنتال الإشارة الى السلطة في إسرائيل، ودلها على الاسم المستعار الذي اتخذه الخيمان ومكان وجوده، وتكفل الموساد بخطف الضابط النازي الذي حوكم في إسرائيل واعدم عام 1962.

لم يمتلك سيمون فيزنتال الكثير من الإمكانيات، ومما لا شك فيه ان يهودا كثيرين ساعدوه في نشاطه، لكن المساعدات المادية ما كان لها ان تأتي بثمار لولا دأبه الخاص الذي لا يكل او يتراجع. لقد أحاط نفسه بعدد من رجال القانون، وكان يرفض تقديم المعلومات التي يحصل عليها الى أهالي الضحايا مباشرة، لان هدفه لم يكن الاقتصاص الفردي، بل وضع الجريمة أمام انظار العالم كله في محاكمة عادلة تنطق بالعقاب المعادل للجريمة.

أعطى الرجل كل حواسه لاصطياد النازيين بحيث أصبح مثل الذين يشعرون بأنهم يحملون رسالة الى الإنسانية. ولعل شعوره هذا يتبدى واضحا من خلال رده على صديق له، ذات يوم، يملك محلا للمجوهرات. قال له «ماذا سنجيب أولئك الذين قضوا في معسكرات النازية عندما نلتقي بهم في العالم الآخر ويسألوننا: ماذا فعلتم؟ هل ستقول لهم انني أصبحت جواهريا او بائع سجائر او وكيلا للعقار؟ انا شخصيا أستطيع ان أرد عليهم بأنني لم انسهم». بعد إغلاق مركزه التوثيقي في «لنيز» أقام فيزنتال مركزا اكبر في لوس انجليس، وأصدر كتباً منها «القتلة يعيشون بيننا»، و«العدالة لا تعني الانتقام»، كما دخل في معارك كبرى ضد شخصيات لها وزنها في مجالها. وكانت أشهر تلك المعارك ضد أربعة وزراء في حكومة المستشار النمساوي برونو كرايسلي عام 1970، منددا بماضيهم النازي. ورغم يهودية كرايسلي نفسه، فقد دافع دفاعا ضاريا عن وزرائه وأوحى بأنه فيزنتال كان من المتعاملين مع النازية أيضا، ولهذا خرج حيا من الاعتقال. وكان من شأن تلك المعركة ان أطاحت بالمستشار النمساوي من منصبه.

ولأنه رجل عدالة، لا انتقام، وقف الى جانب الرئيس النمساوي السابق كورت فالدهايم، الذي كان أيضا أمينا عاما للأمم المتحدة، وذلك عندما أثيرت عام 1979 حملة ضده بزعم ماضيه النازي. وكان تفسير فيزنتال ان فالدهايم لم يلوث يديه بالجرائم. اعتبر فيزنتال ان مهمته قد انتهت، وقال انه نجح في العثور على كل المجرمين الذين يستحقون المحاكمة. اما من بقي منهم طليقا، فهو على الأغلب في سن لا تسمح له باستعادة ما اقترفت يداه. لذلك أخذت بعض الأوساط اليهودية على فيزنتال انه ربط قضية الحفاظ على الذاكرة الجمعية للمحرقة بنفسه وحدها. وانه يعتبر ان المهمة تنتهي بانتهاء حياته. وقد أقامت بلدية فيينا جنازة للرجل الذي كان «مواطن شرف» لديها، ووشحت ساحة البلدية بالسواد حدادا عليه، ونقل جثمانه ليدفن اليوم، الجمعة، في إسرائيل، باعتباره بطلا من أبطالها. ولولا محاكمة النازيين، هل كان يمكن ان يلاحق اوغيستو بينوشيه، وميلوسوفيتش، وتشاوسيسكو، وصدام حسين؟ وهل كنا نعيش لنشهد مراجعات للذاكرة المعذبة يقوم بها الفلسطينيون (ضحايا الإسرائيليين!) والعراقيون وغيرهم؟