تركيا .. المرغوبة والمنبوذة

دول أوروبية تؤيد انضمام أنقرة إلى الاتحاد لأن لها مصالح.. غير أن آخرين يحذرون من «مناطق ملغومة»

TT

عندما احتشد الآلاف من الاتراك في مطار اسطنبول، لاستقبال رئيس الوزراء التركي طيب اردوغان لدى عودته من القمة الاوروبية التي انعقدت في بروكسل ديسمبر (كانون الاول) الماضي، استقبلوه وهم يرفعون أعلام تركيا والاتحاد الاوروبي ولافتات مكتوبا عليها «اهلا وسهلا برئيس وزرائنا فاتح الاتحاد الاوروبي» وأخرى «النجمة الجديدة للاتحاد الاوروبي»، وثالثة «لا اتحاد اوروبيا بدون تركيا». وقال اردوغان وقتها ان تركيا جسدت في بروكسل جهودها المستمرة منذ 41 عاما وهو يلمح بذلك الى الترشيح الاول الذي قدمته انقرة الى الاتحاد الاوروبي عام 1963. هذه الفرحة العارمة استمرت لعدة اشهر وصاحبها القيام بالكثير من التغييرات القانونية والاقتصادية (تحرير الاقتصاد بشكل اكبر) والقضائية (تغييرات في نظام العقوبات) والسياسية (خاصة في ما يتعلق بحقوق الاقليات ومنهم الاكراد) والاجتماعية وفاءً للشروط التي وضعها الاتحاد الاوروبي لبدء المفاوضات بين الجانبين والمقررة في مطلع اكتوبر (تشرين اول) المقبل، بالرغم من ان البيان الختامي لقمة بروكسل أشار الى ان انقرة يجب ان لا تتوقع حصولها على العضوية قبل عام 2014 . ومع إقدام الاتحاد الاوروبي على اكبر خطوة في تاريخ توسيع المجموعة الاوروبية الموحدة في مايو (ايار) من العام الماضي عندما ضم عشرة دول جديدة من وسط وشرق القارة، وحدد بعدها موعدا لانضمام كل من رومانيا وبلغاريا، تجدد الجدل في تركيا وهو ان استبعادها او تعطيل عضويتها في الاتحاد مصدره الخلافات داخل الاتحاد بسبب كونها دولة اسلامية، اذ ان الكثير من البلدان التي تم ضمها أخيرا للاتحاد لا تتمتع حصرا بشروط الانضمام، وفي نظر الكثير من الاتراك تعد اقل جاهزية من انقرة ذاتها. ولكن رسميا فضلت انقرة ان تواصل سياسة النفس الطويل والصبر حتى الحصول على المراد حتى لو طال الامر لعشر سنوات، وظلت الامور مستقرة وطبيعية طوال الفترة الماضية ما بين انجازات تركية على طريق تحقيق شروط التفاوض من اجل الانضمام وزيارات متكررة من مسؤولين في الاتحاد الاوروبي الى انقرة للتأكد من ذلك. وقد أعدت المفوضية الاوروبية في يونيو (حزيران) الماضي تصورها للشكل الذي يمكن يتم فيه التفاوض مع الجانب التركي، وفي هذا التوقيت انطلقت دعوة من رئيس المفوضية الاوروبية مانويل باروسو لبدء نقاش مفتوح حول تركيا وانضمامها، وجاء ذلك بعد ايام من ازمة الدستور الاوروبي التي تمثلت في الرفض الفرنسي للدستور ثم اعقبه الرفض الهولندي من خلال استفتاءين منفصلين. وأعقب ذلك ظهور نتائج لاستطلاعات الرأي في أوروبا اشارت الى ان نسبة من الاوروبيين يعارضون انضمام انقرة وأن البعض اراد من خلال رفض الدستور في الاستفتاء التعبير عن رفضهم توسيع الاتحاد الاوروبي بضم دولة مسلمة مثل تركيا وانضمام دول فقيرة من وسط وشرق القارة شكلت عبئا على الاقتصاد الاوروبي. هذه المؤشرات وغيرها اعتبرها قادة اوروبا رسالة واضحة من الرأي العام الاوروبي. وبعدها توالت تصريحات من مسؤولين اوروبيين يعارضون ضم تركيا وكأنها الفرصة التي كانوا ينتظرونها وراحوا يطالبون برفض انضمام انقرة والاكتفاء بـ«شراكة متميزة» قد اتت. فيما دول اخرى طالبت بأن تتمهل اوروبا قليلا في استكمال عملية التوسيع والتعامل بحذر مع ملف انضمام رومانيا وبلغاريا واعادة النظر في المسألة التركية. وكان باروسو اكثر وضوحا عندما قال «على قادة اوروبا ان يناقشوا بجدية ما يثير قلق الرأي العام من انضمام تركيا المحتمل». العديد من المراقبين في بروكسل يرون في تصريحات باروسو جرس إنذار لكل الاطراف لأن تجاهل الرأي العام الاوروبي لن يؤدي سوى الى مزيد من النكبات للمشروع الاوروبي الموحد. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: لماذا التخوف من تركيا؟ والاجابة على هذا السؤال من وجهة نظر العديد من المراقبين تختلف باختلاف المصالح والتوجهات ولها ايضا علاقة بدوافع عقائدية، فمثلا هناك دول سوف تحقق فوائد من جراء تأييدها لانضمام تركيا، وأخرى تتخوف من انضمامها لان وجودها ضمن المجموعة الاوروبية الموحدة سوف يؤثر على توزيع نسب الاصوات داخل الاتحاد المرتبط بعدد سكان كل دولة وبالتالي حقها في الحصول على عدد اكبر من المقاعد في البرلمان الاوروبي، لان تركيا من البلاد الكبيرة سكانيا اذا ما قورنت بعدد من الدول الاعضاء الحاليين لدرجة ان عدد سكانها يفوق عدد سكان اكثر من 8 دول اعضاء حاليا في الاتحاد الاوروبي. والبعض الآخر يتخوف من وجود دولة اسلامية داخل المجموعة الاوروبية الموحدة. وان كان البعض يرى ان هناك عاملا آخر يشكل قلقا لكثير من القوى الاوروبية يتمثل في تخوف البعض من الاقتراب من منطقة المشاكل والتوترات وهي المنطقة العربية لان حصول تركيا على العضوية يعني ان تصل حدود الاتحاد الاوروبي لتتاخم حدود الدول المجاورة لتركيا وهي العراق وسورية وايران. ووفقا للمتخوفين من هذا الجوار الجغرافي الملتهب، سيدخل الاتحاد الاوروبي في حسابات اخرى تتعلق بغلق الحدود امام افواج الهجرة غير الشرعية من الاقطار العربية والاسلامية والافريقية ويصبح قريبا من مناطق الحروب والنزاعات ودول تتهم بأنها تأوي الارهابيين وتساندهم. وبالرغم من كل هذه المخاوف الا ان السياسات الاوروبية التي لا تعترف الا بشيء واحد فقط هو ان المصلحة الاوروبية فوق كل اعتبار. ولهذا بالذات هناك الكثير من الخطط البديلة في ما يتعلق بتركيا، غير ان مشكلتها الاساسية هي ان انقرة لا تريد ولن توافق الا على عضوية كاملة. لكن امام تركيا والعضوية الكاملة مشاكل قديمة واخرى تتجدد (ناهيك من استكمال الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية التي طلبها الاتحاد). ففي اغسطس (اب) الماضي ظهرت معضلة كبيرة على طريق التفاوض بين تركيا والاتحاد الاوروبي وهي ازمة قبرص ـ تركيا. وحدث ذلك عندما قامت انقرة بالتوقيع على البروتوكول الاضافي للاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الاوروبي ويشمل الدول العشر المنضمة أخيرا الى الاتحاد بما فيها قبرص، وهو الامر الذي اعتبره البعض بمثابة اعتراف من جانب انقرة بالجمهورية القبرصية الموحدة. الا ان تركيا سارعت وأصدرت بيانا تضمن الاشارة الى ان التوقيع على البروتوكول الاضافي لا يعني الاعتراف بقبرص، واحتجت الاخيرة على ذلك وساندتها دول اخرى وصارت هناك عقبة رئيسية امام بدء التفاوض بين انقرة والاتحاد الاوروبي. وبدأت اجتماعات متكررة لسفراء دول الاتحاد الاوروبي وفشلت اكثر من مرة في ايجاد مخرج للأزمة وحاولت الرئاسة البريطانية الحالية للاتحاد الاوروبي وايضا المفوضية الاوروبية اقناع الاخرين بضرورة الفصل بين الاعتراف التركي بجمهورية قبرص الموحدة، وبدء التفاوض مع انقرة وتنفيذ التزامات اوروبية. ونجحت المفاوضات والاجتماعات التي شهدتها بروكسل خلال الساعات الاخيرة في ايجاد مخرج يزيل العوائق امام انطلاق المفاوضات بين الاتحاد الاوروبي وتركيا، ولكن سيظل السؤال: من الذي سيكسب في النهاية ؟ المصالح الاوروبية وسياسة التوسع أم بعض الرأي العام الاوروبي وأصحاب الآراء المعارضة لانضمام انقرة.