كارين هيوز: عطارة البيت الأبيض

TT

«أريد أن أدخل البيت الأبيض رئيسا لأميركا، فإذا كان لديك أي شكوك تجاه تحقيق هذا الحلم أخبريني الآن، لأنني لن أبدأ هذا الطموح بدون أن تأتي معي» (جورج بوش حاكم تكساس لـ «كارين هيوز» عام 1998).

إذا أردت إبحارا ممتعا وعميقا في شخصية السيدة الأميركية كارين هيوز، مستشارة الدبلوماسية الشعبية، لتحسين صورة اميركا في العالم، فلا تستغرب إذا طولبت بأن تحمل معك ملفات كثيرة. ودع جانبا السؤال عن الاسباب الآن، لأنها سترد لاحقا. واكسب الزمن في جمع تلك الملفات بدءا من 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وغزو أفغانستان 7 أكتوبر (تشرين اول) 2001 ، ثم غزو العراق 20 مارس (اذار) 2003 ، نهاية بسجن غوانتنامو، وزوبعة تدنيس القرآن، وسجن أبو غريب والتجاوزات الأميركية. وإذا أردت لمثل ذلك الإبحار أن يكون سلسا، فعليك أيضا أن تفرغ ذاكرتك من سيرة قائمة طويلة من النساء ممن تركن بصمات واضحة ومشهودة في تاريخ السياسة والحياة الأميركية. والأسباب هنا تطرق الباب عنوة لتقول لك إن مهام هذه السيدة، كارين هيوز، تختلف في سياقاتها عن أي من تلك التي نحتت أسماء نساء غيرها في صحيفة التاريخ الأميركي، ومن هنا فكارين هيوز ليست صورة من كونداليزا رايس، رغم أنها تعمل بدرجة سفير تحت إدارتها بوزارة الخارجية. اختلاف كارين هيوز يأتي من حيثيتين: الأولى: قربها الشديد من جورج دبليو بوش رئيس الدولة العظمى الوحيدة في عالم أصبح أحادي القطب، بل والرئيس الذي لا يخفي أكثر المتحيزين له أنه عفوي، وإذا ما خرج عن نص مكتوب فمن الوارد أن يتسبب في شروخ يصعب علاجها، وكارين في عداد قلة تكتب له خطابات، ولحد يقول معه ديفيد بواز، من «معهد كيتو» للبحوث، إنها ومن مواقعها في الصفوف الأمامية تتمتم أحيانا ببداية الفقرات مستبقة ما سيقوله بوش وهو يلقي خطابه.

الثانية : تعيينها مسؤولة عن مهام جسيمة تقع أصلا تحت علم، أو قل فن جديد، هو الدبلوماسية الشعبية، ويرمز اليه بـ PD اختصارا لـ Public Diplomacy (بوش أعلن ترشيحها للمنصب في 29 يونيو (حزيران) الماضي ووافق عليه الكونغرس في 29 يوليو (تموز) الماضي لتشرع هي في مهمة تحسين صورة أميركا لدى الآخر في 9 سبتمبر (أيلول) الحالي، أي قبل 21 يوما فقط). والى ذلك فقولنا إن هذا الفن أو العلم يعتبر جديدا، قياسا بالمواريث والمرجعيات الأخرى في علوم السياسة الأخرى، لم ينطلق من فراغ، وتكفي هنا وقفة بأن تعبير «الدبلوماسية الشعبية» ورد أول ما ورد على لسان الدبلوماسي الأميركي إدموند غيليون عام 1965 خلال محاضرة له بمركز «إدوارد مارو» بجامعة توفت بكلية القانون والدبلوماسية، وقد أرسى صانع التعبير أول تعريف له بأنه «التأثير على اتجاهات الشعوب حول المعلومات وتنفيذ السياسات الخارجية باصطحاب أبعاد العلاقات الدولية من وراء الدبلوماسية التقليدية». وبمعنى آخر نحن أمام علم اصغر في عمره من كارين كيوز ذاتها بما يقترب من 10 سنوات. كارين من مواليد 27 ديسمبر(كانون اول) 1956 بباريس ونالت شهادة البكالوريا من جامعة ميثوديست الجنوبية بدالاس في تكساس عام 1977 وبدأت حياتها العملية منذ تخرجها الى عام 1984 محررة أخبار للتلفزيونات وغطت حملة الرئيس الراحل ريغان عام 1980 لتنتقل من تغطية السياسة إعلاميا الى العمل فيها عام 1984 لتتفرغ منذ 1990 للعمل مع الرئيس بوش كحاكم لولاية تكساس ومن 1995 الى عام 2000 في منصب مديره لشئون الاتصالات ، ثم لاحقا مستشارة لبوش بالبيت الأبيض لتقول عنها صحيفة «دالاس مورننغ»: أكبر النساء نفوذا على الإطلاق بالبيت الأبيض .

ويبدو هنا أن مثل ذلك الحكم من تلك الصحيفة لم ينطلق هو الآخر من فراغ، والدليل هنا أن زيارة لموقع « غوغل Goole» على الإنترنت يعطيك وبالسؤال عن كارين هيوز مليونين وربع المليون موضوع ذا صلة باسمها، في حين يعطيك عن رئيستها كونداليزا رايس مليونين وتسعمائة ألف موضوع ، أي أقل منها بستمائة ألف موضوع ، وليس ذلك فحسب، بل أن نفس الموقع قد قفز ما بين زيارته عند الساعة السابعة من مساء أول من أمس الأربعاء والى أمس الخميس الساعة الثانية والنصف، مع إعداد هذا الموضوع، بعشرة آلاف موضوع إضافي ليصبح 2.260.000 موضوع، فأي إمرأة هذه؟ الإجابة تأتيك مرة أخرى من ديفيد بواز بمعهد كيوت للبحوث، يقول: ربما تكون كبيرة المستشارين الرئاسيين كارين هيوز أعظم النساء نفوذا وسلطة على الإطلاق في تاريخ السياسة الأميركية، فيما لا تعاملها أجهزة الإعلام الرسمية وفق ذلك، لأنها تدفق حبرا كثيرا على سياسيات مثل روزالين كارتر وإيلونور روزفلت ولا تزال، فكيف يستقيم ذلك؟ ليمضي ويجيب أن لذلك اسبابا عدة، في مقدمتها أن الإعلام يحتفي بالمتحررات أو الليبراليات، في حين يتغافل عن المحافظات من أمثال كارين هيوز.

ولكن يبدو أن الرئيس بوش نفسه قد تنبه لذلك، فترفيعها الى الخارجية والى قيادة الدبلوماسية الشعبية في سبتمبر (ايلول) 2005 جاء بعد 4 سنوات بالتمام من مقال وتساؤل ديفيد بواز في 18 أغسطس 2001، برغم أن موقع «غوغل» خارج دائرة الاتهام، وقد أعطاها حيزا أكبر من رئيستها كونداليزا. ولكن كارين معنية أصلا بما هو أهم، أي تحسين صورة أميركا في العالم العربي والإسلامي، وليس بورود اسمها في أجهزة الإعلام مدحا أو قدحا، بكل ما أحدثته عليها أحداث مثل غزو أفغانستان والعراق وملفات سجون غوانتانامو وأبو غريب وتطبيل بعض أجهزة الإعلام العربي المرئي والمقروء بديماغوغية مشهودة لخطابات قادة الإرهاب بدءا من بن لادن ونهاية بالزرقاوي، ومن هنا بدأت رحلتها بداية هذه الأسبوع الى مصر والسعودية وتركيا، ليلتقيها بالترحاب رؤساء وملوك تلك الدول، مع أن طبيعة عملها، ليست معهم وإنما مع منظمات المجتمع المدني والأذرع الفاعلة في الدبلوماسية الشعبية، سعيا لتحسين صورة أميركا، أقرب ما تكون الى عطار يحاول إصلاح ما أفسده الدهر أو سياسات كانت هي ذاتها طرفا فيها. وأقرب الأمثلة هنا لقاؤها أول من أمس بناشطات في حقل المرأة بتركيا حيث انتقدتها إحداهن واسمها هدايات توكزال بصراحة بالقول «إن ممارسة وأداء واشنطن بحربها في العراق ستنتكس بجهود كارين الإيجابية الى الصفر»، فلم تملك السيدة الهادئة أصلا في تعاملها مع الآخر، أي آخر، الا الإجابة بهدوء، فقالت: لقد كتبت هذه الحرب على الإرهاب علينا، ونحن نخوضها كرها أملا في الانتصار على الإرهاب وصياغة مستقبل أفضل للشعوب التي تكتوي مثلنا بناره، فيما كانت قد ذهبت الى نفس المنحى بعيد استقبال العاهل السعودي لها الثلاثاء الماضي، فقالت إن وجود 16 مواطنا سعوديا بين 19 من منفذي 11 سبتمبر لا يلغي أن السعودية ذاتها تكتوي مثلنا من الإرهاب وتعمل على مكافحته، ليذهب التقدير الى أنها كانت بهكذا تصريح تشحذ ذهن تشريعيين في واشنطن لإعادة النظر في تقديراتهم للدور الحيوي للسعودية في هذا لمجال.

ربما يكون الرئيس بوش قد رفع راتب هذه السيدة، التي تحظى بتقديره من 145 ألف دولار في العام، يوم أن كانت بجانبه في البيت الأبيض، ولكن، ومن دون ذلك، فالثابت الوحيد أنه لا يعرف الاستغناء عنها، لأنها حين استقالت في 2002 لتتفرغ لتربية ابنها، وتعين زوجها الذي لم يجد عملا منتظما بواشنطن، ظلت على اتصال هاتفي وبشكل أسبوعي مع الرئيس بوش مما أجبره على القول وقتها: كارين مثل من غيّر ملابسه، ولكنها لن تتخلى عنا، وها قد حدث وعادت السيدة لتبدأ مهمة جديدة هي الأصعب، مهمة العطار الذي يحاول ما أمكن إصلاح ما أفسده البيت الأبيض بحسن نية أو بسوئها.