الصوت الهارب

تتناقص معدلات تصويت الناخبين في الشرق والغرب وعند الأغنياء والفقراء.. فلماذا؟

TT

تقيس الديمقراطيات نفسها عادة بنسبة اقبال الناخبين على التصويت، لكن هذا المؤشر اصبح خطيرا، لان اعداد متزايدة باتت لا تصوت لاسباب متعددة، ففي الانتخابات الاميركية 2004 صوت فقط 60.3% من الناخبين، وفي انتخابات مصر في سبتمبر(ايلول) الماضي صوت 23% وفقا للتقديرات الرسمية، فيما وضعت جهات مستقلة ومعارضة تقديرات اقل، وفي استفتاء الجزائر للمصالحة والعفو امس كانت نسبة التصويت حتى ظهر امس نحو 45% فقط. وبالمقارنة مع متوسط تصويت الناخبين في العالم قبل 20 عاما فقط، تعد هذه الارقام متواضعة جدا. فلماذا تتناقص اعداد الناخبين، وهل هناك علاقة بين وجود ديمقراطية وارتفاع مستويات التعليم وبين زيادة التصويت، ام تتقارب نسب الاقبال (او عدم الاقبال) على التصويت بين النظم التسلطية والديمقراطية؟ اولا تقف عوامل كثيرة وراء التناقص المتزايد في اعداد الناخبين الذين يصوتون، فهناك السبب البديهى، وهو ان التصويت لا يؤدي الى تغيير. وهناك قلة الخيارات امام الناخبين، فاذا كان المرشحان مثلا في انتخابات رئاسية لا يتمايزان كثيرا عن بعضهما البعض فيما يتعلق ببرنامجهما الانتخابي، يجد الناخب حيرة في الاختيار، يدفعه في كثير من الاحيان الى عدم التوجه الى صناديق الاقتراع (حالة الانتخابات البريطانية الاخيرة).

ايضا من ضمن العوامل ضعف الاهتمام بالسياسية، فخلال السنوات الماضية تضاءل الاهتمام بالعملية السياسة في الغرب، وباتت اهتمامات الناس تتركز أكثر على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ايضا تغيرت الفكرة الكلاسيكية حول الولاء الحزبي او الانتماء عقائديا لحزب واحد. فالمؤشرات تتزايد حول الناخبين الذين يصوتون لحزب لم يصوتوا له من قبل لان برنامج هذا الحزب كان ملائما اكثر لاحتياجات الناخب. وتأثير ظاهرة ضعف الولاء الحزبي كانت واضحة خلال الانتخابات الاميركية الاخيرة، فلم يصوت كل الناخبين المعروفين بولائهم للحزب الجمهوري لصالح بوش، ولم يصوت كل الناخبين المعروفين بولائهم لصالح الديمقراطيين لصالح جون كيري.

ووفقا لدراسة مقارنة اجراها المعهد الدولي للديمقراطية ودعم الانتخابات الذي تأسس 1995 في السويد (يعمل بشكل مستقل وبالتنسيق مع عدد من المراكز الانتخابية في باقي دول العالم، على كل الدول التي شهدت انتخابات في الفترة من 1945 الى 1998، فإن اعلى نسبة تصويت ضمن الدول الـ140 التي رصد المعهد نمط التصويت فيها كانت ايطاليا، اذ ان متوسط التصويت في كل الانتخابات الايطالية بلغ في المتوسط 92.5%. اما ادنى نسبة تصويت فكانت في مالي بمعدل 21%. وبين الدول العشر التي جاءت في ذيل القائمة كانت هناك 5 دول عربية تجرى فيها انتخابات تشريعية بشكل دوري وهي مصر واليمن والاردن والسودان وجيبوتى وكان متوسط نسبة التصويت في هذه البلدان بين 24% و37%. وفيما جاءت موريتانيا في المرتبة الـ16 بنسبة تصويت بلغت في المتوسط 82.8%، والكويت في المرتبة الـ29 بمتوسط تصويت بلغ 79.6%، حلت بريطانيا في المرتبة الـ42 بمتوسط تصويت بلغ 74.9%، واميركا في المرتبة 114 بمتوسط تصويت 48.3%. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني ان الاقبال على التصويت لا يرتبط بالديمقراطيات بالضرورة، ووفقا لاحصاءات المعهد فإن ثلاث دول فقط من بين الدول العشر التي شهدت أعلى نسب تصويت خلال عقد التسعينيات كانت دولا من اوروبا الغربية «الديمقراطية». كما ان الاقبال على التصويت لا يرتبط بالثراء او النمو الاقتصادي، فدول اميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) ودول الكاريبي سجلت ثالث ادنى معدلات تصويت خلال العقد الماضي، فيما معدلات التصويت في استراليا ونيوزيلندا والجمهوريات السوفياتية السابقة، ودول وسط أوروبا الشرقية تعدان ثاني وثالث اعلى معدلات تصويت حاليا على التوالي فيما يتعلق بالمناطق الجغرافية. اما أكثر النتائج اثارة للاهتمام فهي ان معدلات التصويت العالية او المنخفضة لا ترتبط بالأمية او التعليم. فالكثير من البلاد التي تعاني من نسبة امية عالية، تشهد اقبالا عاليا على التصويت. وبالرغم من الدراسات الكثيرة حول انماط التصويت، فان ايا من هذه الدراسات لم يجد علاقة ارتباط بين الامية ونسبة التصويت. غير انه من الهام الاشارة الى ان البلاد التي لا تعاني من ارتفاع نسبة الامية تظهر زيادة نسبية في معدلات التصويت. ومع ذلك، فإن البلاد التي تعاني من ارتفاع نسبة الامية مثل انغولا واثيوبيا شهدت ارتفاعا في معدلات الذين يدلون بأصواتهم في الانتخابات. وفيما تشير الاحصاءات الى ان معدلات الاقبال على التصويت تزايدت بشكل مطرد منذ 1945 وحتى 1990 في كل ارجاء الارض، اذ تزايد متوسط التصويت من 61% في الاربعينيات الى 68% في الثمانينات. الا ان معدلات التصويت تناقصت بشكل ملاحظ في عقد التسعينيات، اذ بلغت 64% في المتوسط. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، سجلت اوروبا الغربية اكبر معدلات للتصويت في الانتخابات، اذ بلغ المتوسط 77%، فيما سجلت اميركا الجنوبية والوسطى ادنى نسبة اقبال اذ بلغت 53% في المتوسط. غير ان معدلات الاقبال على التصويت في النظم الديمقراطية، والنظم غير الديمقراطية على حد سواء يتناقص مع الزمن. وبينما شهدت معدلات التصويت ثباتا نسبيا خلال الخمسين عاما الاخيرة في اوروبا الغربية وأميركا الشمالية والكاريبي، فإن معدلات التصويت في بقية اجزاء العالم شهدت تقلبا كبيرا. فمعدلات التصويت في اميركا الجنوبية واسيا ارتفعت بشكل ملحوظ، فيما الشرق الاوسط وافريقيا شهدا زيادة في التصويت في الثمانينيات، غير ان هذا الارتفاع سرعان ما تراجع مجددا مع تسعينيات القرن العشرين. وفي اول انتخابات رئاسية شهدتها مصر الشهر الجاري، كانت نسبة التصويت وفقا للأرقام الرسمية 23%، غير ان مصادر مستقلة قالت ان النسبة لم تتعد 15% الى 18%. وهذا شيء اخر لفت اليه معهد الديمقراطية السويدي، فالحرارة نحو التوجه الى صناديق الاقتراع خلال انتخابات تؤسس للديمقراطية (بمعنى اخر الانتخابات الاولى في بلاد لم تشهد انتخابات من قبل) تبدأ منخفضة ثم ترتفع. فعادة ما تكون نسب التصويت في الانتخابات التأسيسية أقل من نسب التصويت في الانتخابات اللاحقة. ووفقا للاحصاءات، فإن متوسط التصويت في الانتخابات التي تجرى لاول مرة عالميا كانت 61%، غير ان هذه النسبة ترتفع في الانتخابات التالية لتصل الى 62%. ووفقا للتقرير، فإن منطقة الشرق الاوسط تتميز بأن نسبة التصويت فيها ترتفع بشكل ملحوظ، تبلغ نحو 25%. البرودة نحو التصويت وتناقص معدلات الاقبال خلال العقد الماضي ظاهرة يحتار الخبراء السياسيون في تفسيرها، لانهم يعتقدون ان السياسة اهم شيء في العالم. فيرد عليهم المواطنون العاديون، انها ليست كذلك فالسينما هامة اكثر والحفلات الموسيقية والسفر. وكانت دراسات عديدة قد اجريت قبل قليل من اجراء الانتخابات البريطانية في مارس (اذار) الماضي حول ما الذي يهم الناخبين فعلا ويدفعهم للتصويت في الانتخابات، وكانت النتيجة ان الشيء الأهم هو كيف يخاطب السياسيون الاهتمامات الحقيقية للناس، وهي علاج السرطان وامراض القلب والسكر، والاحتباس الحراري، والتلوث، والاغذية المعدلة وراثيا، والبطالة، وليس مواجهة الحروب. لكن في الحقيقة هذه القضايا احتلت مكانة ضعيفة جدا لم تتجاوز 10% من القضايا التي ركز عليها بوش وبلير خلال حملاتهما الانتخابية التي ركزت حصرا على الحرب العالمية على الارهاب، والأمن الداخلي. وكما يقول كاستلس ماكنلي في دراسة له بعنوان «السياسة: هل هي مهمة؟» المنشور في «المجلة السياسة للابحاث السياسة»، نوفمبر 1997، فإن العوامل التي تؤثر على الحياة اليومية للناس ليست السياسة كما يتم تدريسها في الكتب او وفقا لنظريات العلوم السياسية، وانما تتأثر حياتنا فعلا من خلال العلاقة بين الشركات الكبرى والاحزاب، وجماعات المصالح. وبالتالي، فإن الكلام حول اهمية «التصويت من اجل الديمقراطية»، والذهاب الى صناديق الاقتراع من اجل «ممارسة الحق الديمقراطي» ليست الا شعارات خالية من المضمون الفعلي، فالمطلوب من التصويت الشعبي هو اعطاء «شرعية شعبية» للعلاقة بين رجال سياسة فازوا وشركات وجماعات مصالح تضع سياسات لا تحقق بالضرورة مصالح كل الناس، وانما مصالح الناس الأكثر قوة.