حكايات مدن مقسمة

نيقوسيا وبرلين والقدس وموستار .. مزقتها الحروب والاختلافات العرقية والدينية

TT

ظلت مدينة كركوك العراقية مقسمة بصورة غير رسمية خلال عهد الرئيس المخلوع صدام حسين بين الاكراد الذين يشكلون 40% من السكان والعرب والتركمان والآشوريين المسيحيين الذين يشكلون نسبة 60% من السكان. لكن هذا التقسيم غير الرسمي، وبسبب التطورات السياسية والأمنية الاخيرة، يقلق العراقيين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية واللغوية. فالخبرة التاريخية لتقسيم المدن، حتى مع وجود خلافات عرقية ودينية كبيرة، أظهرت دوما الثمن الفادح للتقسيم انسانيا وسياسيا واستراتيجيا، بل ان الكثير من المدن التي توحدت بعد التقسيم وجدت صعوبة في الاندماج وإعادة اللحمة بين ابنائها. وتاريخيا قسمت مدن عريقة لأسباب تاريخية وقبلية ودينية واثنية، إلا ان ابرز حالات التقسيم هي القدس الفلسطينية، ونيقوسيا القبرصية، وبرلين الألمانية، وموستار البوسنية.

ولا يعرف تاريخ محدد لتأسيس القدس. لكن العهد القديم يشير الى أن النبي ابراهيم ـ عليه السلام ـ سكنها، ربما قبل ثلاثة آلاف سنة من ميلاد عيسى المسيح ـ عليه السلام، وكان اسمها «سالم» (مدينة السلام)، وسكنها الفلسطينيون منذ فجر التاريخ. ويُعتقد ان كركوك أسست خلال تلك الفترة ايضا، في منطقة الآشوريين (كان لها اسم آشوري هو عرافا). وتبادل السيطرة عليها، لأكثر من الف سنة، الآشوريون، الذين سكنوا شمال العراق، والبابليون، الذين سكنوا جنوبه. ويمكن اعتبار تلك الاختلافات التاريخية خلفية لأحداث اليوم (رغم انها الآن اختلافات بين أكراد وعرب). أما نيقوسيا، فيُعتقد انها أسست قبل ميلاد المسيح ـ عليه السلام بخمسمائة سنة تقريبا، عندما غزا لفكون، ملك مصر اليوناني وابن ملكها بطليموس، الجزيرة، وكان اسمها «لفكوسيا» (مدينة لفكون). وتبادل السيطرة عليها اليونانيون، دفاعا عن المسيحية، والأتراك العثمانيون، دفاعا عن الاسلام. فيما يعتقد ان برلين اسست في القرن العاشر بعد ميلاد المسيح. ولهذا فان تقسيمها في القرن العشرين عكس اختلافات دينية بين المسيحيين والوثنيين، ثم بين المسيحيين الأرثوذكس والبروتستانت، بالاضافة الى صراع قديم بين القبائل السلافية والجيرمانية. ويُعتقد ان موستار اسست بعد برلين بخمسمائة سنة، وعكس تقسيمها الحالي صراعا دينيا وعرقيا، بين المسلمين والسلافيين الأرثوذكس. وقد أحاط حائط بالقدس القديمة، بالاضافة الى انها كانت مقسمة الى اربعة احياء (كانت تفصلها حيطان): اسلامي ومسيحي ويهودي وأرمني. وانقسمت المدينة، بعد تأسيس اسرائيل عام 1947، الى شرقية، تشمل المدينة القديمة، وغربية تشمل أحياء اليهود. لكن اسرائيل، بعد ان سيطرت على القدس الشرقية في حرب عام 1967، وحدت القسمين، وأعلنت أن القدس «عاصمة أبدية». ووضعت عام 1980 مادة تؤكد ذلك في دستورها (القانون الاسرائيلي الاساسي).

وواصلت اسرائيل تحقيق هدفها، رغم ان مجلس الأمن عارض ذلك في اكثر من قرار، بل رسمت حدودا جديدة للقدس اضافت اليها مناطق من الضفة الغربية المحتلة، حتى أصبح تقسيم القدس جزءا من تقسيم الضفة الغربية نفسها. وتبني اسرائيل الآن حائطا جديدا، يفصل الضفة الغربية عن اسرائيل، مثلما يفصلها عن القدس، والحديث عن الكلفة الانسانية والسياسية لتقسيم القدس، ليس في حاجة الى استفاضة، فمئات الآلاف من الفلسطينيين تشردوا منذ التقسيم، وليس من المتصور التوصل لحل سياسي بدون حل معضلة القدس.

اما نيقوسيا، عاصمة قبرص، فقد أثار تقسيمها الاهتمام قبل ثلاثين سنة فقط، عندما غزت تركيا الجزيرة، وسيطرت على الجزء الشمالي من الجزيرة، وعلى الجزء الشمالي من نيقوسيا، مما شكل جملة اربعين في المائة من مساحة الجزيرة. وأعلنت تركيا تأسيس «جمهورية شمال قبرص التركية» التي لا تعترف بها إلا حكومة تركيا نفسها. واستمر، في الجانب الآخر، القبارصة اليونانيون يحكمون بقية الجزيرة، وحافظوا على اسم «جمهورية قبرص»، واستمروا يحكمون بقية نيقوسيا، وغيروا اسمها الى «لفكوسيا».

وتحرس قوات الأمم المتحدة «الخط الأخضر» الذي يفصل جانبي المدينة. يسكن ربع القبارصة اليونانيين (ربع مليون شخص) في نيقوسيا الجنوبية، من جملة مليون مواطن في «جمهورية قبرص». ويسكن ربع القبارصة الأتراك، اكثر من مائة الف شخص، في نيقوسيا الشمالية، من جملة نصف مليون سكان «جمهورية شمال قبرص التركية».

وتعتبر نيقوسيا الجنوبية اكثر سكانا وتقدما واكبر اهمية من نيقوسيا الشمالية، وفيها اغلبية النشاط الاقتصادي في كل الجزيرة، وفيها جامعة قبرص، اهم واكبر جامعة في الجزيرة. وتركز نيقوسيا الجنوبية، مثل القدس الشرقية، على حائط تاريخي، بناه الايطاليون، قبل 600 عام وسموه حائط نيقوسيا (سمكه خمسة امتار)، بعد ان غزا جيش البندقية الجزيرة (يُسمى الحائط البندقي) وتأثرت نيقوسيا، مثل القدس، بالتقسيمات الدينية، خاصة بعد ان غزا الاتراك العثمانيون قبرص وسيطروا عليها. وتحتفظ نيقوسيا، مثل القدس، بمساجد وكنائس تاريخية، منها «كنيسة فانومريني»، التي بنيت قبل الغزو التركي العثماني، ثم دمرت، ثم بنيت مرة أخرى.

من ناحيتها، لم تكن المانيا معروفة قبل ميلاد المسيح عليه السلام. وعندما كانت الامبراطورية الرومانية تسيطر على جنوب أوروبا، كانت هناك قبائل جرمانية في غرب اوروبا، وقبائل سلافية في شرق أوروبا. واستقرت بعض هذه القبائل في ما يعرف اليوم بألمانيا. وأسست القبائل السلافية، في القرن التاسع الميلادي، برلين، وكان اسمها «بيرولينا» (سد على النهر، نهر سبري في هذه الحالة).

وقد هزم الامبراطور اوتو الاول، قائد القبائل الجرمانية، القبائل السلافية في القرن العاشر الميلادي، وأسس المانيا. لكن السلافيين تمردوا، وطردوا الجرمانيين. ثم عاد هؤلاء بعد مائتي سنة وسيطروا على المانيا، وعلى برلين، مرة اخرى. كان الصراع بين الالمان الغربيين (انغلوساكسون في وقت معين) والشرقيين (بروسيين في وقت معين) قبليا وسياسيا، وكان دينيا ايضا، لأن الغربيين كانوا يريدون نشر المسيحية وسط الشرقيين، ولم تعتنق بعض القبائل الشرقية الوثنية المسيحية إلا في القرن الثاني عشر.

لهذا، فإن تقسيم المانيا الى شرقية وغربية، وتقسيم برلين الى شرقية وغربية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يأت من فراغ، بل كان تطورا جديدا لنزاع شرقي وغربي وسط الألمان عمره اكثر من الف سنة. تقسمت، في البداية، المانيا الى شرقية وغربية، حسب خط وقف اطلاق النار عندما انتحر هتلر واستسلم وزراؤه. كانت القوات الروسية تقدمت غربا وسيطرت على اكثر من نصف المانيا، بما في ذلك برلين العاصمة، بينما تأخر زحف القوات الاميركية والبريطانية. لكن قوات الحلفاء وافقت على تقسيم برلين ايضا، رغم ان الروس قبلوا ذلك على مضض. ويوم 13 اغسطس (اب) 1961 بدأت حكومة المانيا الشرقية الشيوعية بناء حائط برلين ليفصل بين الشرقية والغربية، وسمته «حائط الحماية ضد الفاشية»، رغم ان السبب الحقيقي كان وقف هروب الشرقيين نحو الغرب.

وذهب، بعد سنة، الرئيس الاميركي جون كنيدي الى برلين الغربية، وخطب في سكانها، وقال لهم «ايش بن آين بيرلنر» (انا برليني). وذهب، بعد ذلك بخمس وعشرين سنة، الرئيس رونالد ريغان الى برلين الغربية، وخطب في سكانها، كما خاطب الرئيس الروسي قائلا «يا مستر غورباتشوف، دمر هذا الحائط». ويوم 3 اكتوبر (تشرين الأول) عام 1990 توحدت المانيا، وتوحدت برلين، وسقط الحائط رسميا. لكن، كما اوضحت نتائج الانتخابات الاخيرة، ما زالت هناك اختلافات بين الشرقيين والغربيين، ليس فقط بسبب نصف قرن من الحكم الشيوعي في الشرق، ولكن، ايضا، بسبب اختلافات الف سنة بين السلافيين والانغلوساكسون. اما الاتراك العثمانيون فقد أسسوا موستار عاصمة لاقليم البوسنة والهرسك، على نهر نيرتفا، عندما وصلت قواتهم الى غرب البلقان في القرن الخامس عشر، وبنى واليُّها معمر خير الدين، حسب أوامر السلطان سليمان، كوبري «ساتري موست». وتنازع على موستار، خلال القرن التاسع عشر، المسلمون والسلافيون الأرثوذكس. وسيطر عليها، في القرن العشرين، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، السلافيون عندما أسسوا يوغوسلافيا. وعندما سقطت يوغوسلافيا بانسحاب أجزاء منها قبل خمس عشر سنة، تنازع الكروات والصرب والمسلمون على موستار. قصفها الصرب من الجبال القريبة، ووضع الكروات عشرات الآلاف من المسلمين في ملعبها الرياضي، ثم دمروا الجسر التاريخي. ورغم اتفاقية وقف اطلاق النار، وإعادة بناء الجسر، ظلت المدينة مقسمة، بسبب ذكرى 500 عام من الاختلافات بين الأتراك والسلافيين والجرمانيين، وبين الإسلام والأرثوذكسية والبروتستانتية.