حرب الموجات الصوتية

إسرائيل استخدمت تكتيك التفجيرات الصوتية في غزة خلال الأسابيع الماضية فأجهضت أكثر من 70 سيدة

TT

«اسرائيل تلجأ الى اساليب الترويع والتخويف بهدف ضرب البنى التحتية للانسان الفلسطيني. وهنا لا اعني المرافق العامة، بل حالته النفسية والعصبية وزعزعة وجوده حتى وهو داخل منزله ومسكنه. لكن اسرائيل فشلت في ذلك كما فشلت صواريخها وقنابلها من قبل في إرضاخ الشعب الفلسطيني وكسر ارادته».

هذه هي كلمات الدكتور معاوية حسنين، مدير دائرة الطوارئ في وزارة الصحة الفلسطينية، في تصريحات لـ«الشرق الاوسط» ردا على سؤال حول اهداف اسرائيل من استخدام تكتيك التذبذبات او الموجات الصوتية الناجمة عن تحليق طائراتها الحربية من طراز «اف 16» واختراق حواجز الصوت فوق قطاع غزة، وتأثير هذه الموجات الصوتية التي يشبهها الفلسطينيون بالهزة الارضية او صوت انفجار قنبلة زنة طن، على اهالي القطاع لا سيما الاطفال منهم، فتسلب النوم من عيونهم وتثير الرعب في نفوسهم.

والحقيقة ان الموجات الصوتية الى جانب الصواريخ الفتاكة وقذائف المدفعية التي استخدمتها اسرائيل ضد اهالي قطاع غزة في غضون الاسابيع القديمة، ردا حسب ادعاءاتها على اطلاق صواريخ القسام، اثارت ادانات من منظمة الامم المتحدة ومنظمات حقوق انسان فلسطينية واسرائيلية، لما تسببه من فزع وهلع في صفوف المواطنين لا سيما الاطفال منهم وحالات اجهاض بين النسوة الحوامل، وصل عددها حسب ما قاله الدكتور معاوية الى اكثر من سبعين حالة. وبدأت منظمات انسانية معركة في محكمة العدل الاسرائيلية العليا لوقف «الضرر الجسدي والعصبي والنفسي» الذي يلحق باهالي قطاع غزة نتيجة «التفجيرات الصوتية» وهو السلاح الجديد الذي يستخدمه سلاح الجو الاسرائيلي ضد فلسطينيي غزة بعد اخلاء المستوطنين. وترمي العريضة التي تقدمت بها مجموعة «اطباء من اجل حقوق الانسان» في اسرائيل و«برنامج الرعاية الصحية» في غزة، الى استصدار حكم محكمة يحمل وزير الدفاع الاسرائيلي شاؤول موفاز على وقف تحليق المقاتلات النفاثة على علو منخفض وخرق حاجز الصوت.

واعتبرت هذه المنظمات الموجات الصوتية التي يحدثها التحليق على علو منخفض وتلحق اضرارا نفسية يصعب علاجها خاصة عند الاطفال، بمثابة «عقوبة جماعية» تنتهك حقوق الانسان. وطالبت الامم المتحدة بوقف فوري لما لسمته بـ«التكتيكات الاسرائيلية» التي تسبب حالات ارتباك لدى الاطفال وتلحق الضرر في العديد من المباني، وهشمت بل حطمت آلاف النوافذ وفي بعض الحالات اقتلعتها بأطرها كما حصل لمنزل طلال محمد صالح وهو ضابط في احد الاجهزة الامنية الفلسطينية في قطاع غزة.

وعبر المبعوث الدولي للشرق الاوسط، الفارو دي سوتو، عن عميق قلقه ازاء تأثير هذه الموجات الصوتية على الاطفال. ورفض دي سوتو الزعم الاسرائيلي بان هذا التكتيك انما يستخدم كعامل ردع ورد مشروع على صواريخ حركة «حماس» واعتبرها عقابا جماعيا وعشوائيا، وطالب بوقفه من دون تأخير. ولم تردع هذه الاحتجاجات اسرائيل عن استخدام اساليب الترويع والترهيب هذه. ولم تتوقف عنها الا بعد الاحتجاجات التي صدرت عن المواطنين الاسرائيليين في البلدات المحيطة بقطاع غزة، مثل سديروت وناحال غوز، الذين تأثروا جراء هذه الاساليب.

وقال طلال صالح ان الهدف من هذه التكتيكات هو اثارة الفزع والرعب في نفوس الناس وارغامها بالترويع على نبذ المقاومة وفرض الاستسلام عليها. وهو ما اكده مسؤول في احد الاجهزة الامنية الاسرائيلية بقوله ان «الهدف هو كسر ارادة المقاومة، والتأييد الشعبي للمقاومة». وعن تأثير هذه الممارسات الارهابية قال صالح انه «اقوى من تأثير القنابل زنة طن من المتفجرات، تحدث دويا غير عادي لم نسمعه من قبل. وهي تثير الرعب في نفوس الكبار قبل الصغار».

وقالت ابنته ميرنا «كنت في الحمام عندما سمعت صوت الطائرة، وهربت من الحمام». وحسب قولها فإنها لم تعد الذهاب لقضاء حاجتها لوحدها. ولم تعد تنام في سريرها لوحدها. وردا على سؤال ان كانت تخاف من هذه الاصوات قالت ميرنا «أه بخاف من صوت الطيارة.. عالي كتير وما بعرف انام منه. وانا بخاف اروح الحمام وخواتي بيجو معي».

والرعب لم يقتصر على ميرنا ابنة السنوات الخمس فحسب بل طال شقيقتها مرام، 16 عاما، فهي الاخرى لم تعد تنام على سريرها من شدة الخوف، بل تلجأ ليليا الى سرير والديها حيث تجد الطمأنينة. واكثر من ذلك فان دوي التفجير الصوتي يسبب لها الغثيان واحيانا الاسهال. واما الطفلة مريم خماش وهي من قطاع غزة ايضا واسرتها صديقة لاسرة صالح فلا يفارق اصبعاها اذنيها، في محاولة بريئة لتخفيف الروع من الصوت المدوي. وتستيقظ في الليل وهي تصرخ. وحسب الدكتور اياد السراج، من برنامج الرعاية الصحية في غزة، فان سلطات الاحتلال تختار طلعات طائراتها واختراقها لحاجز الصوت بينما الاطفال في طريقهم الى مدارسهم او عودتهم منها الى منازلهم او في منتصف الليل وعلى فترات متقطعة. وقال مأمون عبد الله، ان جارتهم العجوز يرتفع ضغطها كلما سمعت دوي الطائرات وتفقد القدرة على السير مؤقتا. واضاف ان بعض العجائز في حارتهم اصبن بحالات صرع من شدة الخوف.

ويصف مراسل «الشرق الاوسط» صالح النعامي هذه الموجات الصوتية بانها اقوى من العواصف الرعدية. وقال «لم اتأثر من شيء من قبل في حياتي مثل تأثري من هذا الدوي، انه مرعب للغاية، يزلزل الارض ويلقي بالمصلين ارضا او يحركهم من امكنتهم لا اراديا».

وتسبب هذه الاصوات ايضا التبول اللاارادي لدى الاطفال خاصة اثناء النوم والصداع وضيق نفس وتسارعاً في دقات القلب. وحسب ارقام وزارة الصحة فان هناك زيادة تتراوح ما بين 30 ـ 40% في حالات الاجهاض المفاجئ في الفترة ما بين 27 ـ 29 اكتوبر (تشرين الاول) الماضي وهي الفترة التي وصلت فيها الطلعات الجوية الاسرائيلية المنخفضة الى ذروتها.

وثمة ادلة، حسب السراج، تشير الى ان هذه الموجات الصوتية تصيب الاطفال بحالات عدم التركيز، والخوف من فقدان عزيز، وكوابيس وافكار مزعجة ومقلقة ومرعبة، وتعمل ايضا على زيادة الاحساس بالضعف والعجز، على حد قوله. وقالت وكالة غوث اللاجئين (الانروا) ان 350 بابا ونافذة دمرت في المرحلة الاولى من الطلعات الجوية الليلية المنخفضة.

وقال الدكتور معاوية حسنين ان المراكز الصحية الفلسطينية عالجت اكثر من 600 طفل يعانون من تأثيرات على اجهزتهم العصبية جراء هذه الموجات الصوتية التي ادت في بعض الاحيان، حسب قوله، الى فقدان الوعي والاغماء والتبول اللا ارادي والبكاء المتواصل.

ونختتم ببعض فقرات من مقال لجدعون ليفي وهو مراسل مختص في حقوق الانسان نشرته صحيفة «هآرتس» في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري تحت عنوان «شياطين في سماء غزة» يقول فيه «حقيقة ان سلاح الجو الاسرائيلي يستخدم هذا السلاح بالأساس في ساعات الليل المتأخرة أو في ساعات الفجر الباكر حيث تتوجه جموع التلاميذ الى مدارسهم، تبرز فقط مستوى الشر الذي تنطوي عليه. اسرائيل فكت ارتباطها عن غزة ربما، ولكن سلاحها الجوي لم يفعل ذلك». وعن تجربة له في جنين يقول ليفي «ذات مرة سمعت مثل هذا الدوي فوق مخيم جنين للاجئين فتوقفت أنفاسي للحظة. هذا الصوت مفزع بصورة غير عادية في الفترات المتوترة».