السجن والملاذ

قادر: أبناء المهاجرين في فرنسا يعانون من أجل العثور على مسكن وعمل > لوسيت: هذه البلاد لا تستطيع أن تكون ملاذ كل البائسين في العالم

TT

مدينة «غرينيي» الواقعة على بعد 30 كلم جنوب العاصمة الفرنسية باريس في منطقة أيسون، واحدة من الضواحي التي امتدت إليها سريعا أعمال الشغب والعنف من القرى والمدن المجاورة التي تقع الى الشرق منها، بعد انطلاق الشرارة الأولى من ضاحية «كليشي سو بوا» بسبب موت مراهقَين أحدهما تونسي والآخر افريقي، صعقا بالتيار الكهربائي خلال مطادرة الشرطة لهما. ويلاحظ السائق النازل باتجاه الجنوب الفرنسي على الطريق السريع A 6 بعد أن يتجاوز «مطار أورلي» تتابعا لمدن وبلدات متشابهة فقيرة، نمت كالفطر في السنوات الثلاثين الأخيرة، تميزها بالأساس الأبراج الإسمنتية المرتفعة التي يكتظ فيها المهاجرون وأبناؤهم بسبب رخصها، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش في العاصمة أو داخل المدن الكبرى. و«غرينيي» التي يعيش فيها 24620 نسمة محشورة ما بين الطريق السريع ومجرى «نهر السين» وبحيرة لصيقة بها. ومع ان ضواحي وبلدات فرنسية عديدة اشتعلت بالاضطرابات، الا ان «غرينيي» تفوقت عليها كلها. ففيها استخدم المشاغبون لأول مرة سلاحا ناريا ضد رجال الشرطة، و«غرينيي» تميزت ايضا بأن المتظاهرين أحرقوا مدرستين من مدارسها الحكومية الواقعة في قلب الأحياء السكنية. ويصدم الزائر للبلدة بآثار الخراب التي ما زالت ظاهرة في مواقع المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في حي «ليه سابلون» وفي التجمع السكني المعروف بـ«غراند بورن»، وبشكل عام في الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية خصوصا من الأجانب والمهاجرين.

وكعادتهم كل يوم، تجمع العشرات من المراهقين والشبان قريبا من مداخل البنايات. في الجو، ما زالت تنبعث روائح المحروقات. وعلى بعد مائة متر من مكان التجمع يدور أطفال حول ثلاث سيارات لم تأكلها النيران تماما. وتمر قريبا من مكان التجمع امرأة أوروبية الملامح تدفع أمامها عربة رضيع وتشد بيدها الأخرى على يد فتاة تريد أن تتوقف لترى ما حصل، بينما تحثها أمها على الإسراع. تقول لوسيت، صاحبة المخبز الواقع في الساحة الرئيسية لـ«غرينيي» إنها «خائفة» على مخبزها وعلى بيتها وعلى عائلتها. وتتساءل «ما ذنبنا نحن؟ ولماذا يروعون ليالينا؟». وتستطرد «لقد قدمت مع عائلتي الى هذه المدينة منذ عشرين عاما من الشمال، من منطقة ليل، واقترضنا من المصارف لشراء هذا المخبز الذي هو مصدر عيشنا الوحيد أنا وزوجي وبناتنا الثلاث. ولو حصل له شيء سننضم الى لائحة الناس الذين خسروا كل ما يملكونه بسبب هذه الأحداث. لقد فتحت فرنسا أبوابها ومدارسها ومستشفياتها بوجه المهاجرين وأبنائهم. لكن أنظر: هذه كانت النتيجة، مدارس أحرقت، مخازن نهبت، وسيارات تحولت الى كتل من الحديد الأسود المتفحم. هل هذه فرنسا التي نريد أن نتركها لأبنائنا ؟ لماذا علينا أن نعاني من انعدام الأمن والسرقات؟ الفقراء ليسوا وحدهم من الأجانب. أعرف العديد من العائلات الفرنسية التي تعيش بصعوبة كبيرة. فرنسا لا تستطيع أن تكون ملاذ كل البائسين في العالم. ومن يحل فيها، يتعين عليه أن يحترم أهلها ونظامها وإلا فليعد من حيث أتى».

وما بين زبونتين دخلتا المخبز، تقول لوسيت «أعتقد أن ما حصل سيعطي اليمين المتطرف قوة دفع جديدة وسيقوي العنصرية ويعمق الحقد والضغائن. وفي النهاية فإن الخاسرين سيكونون الذين من يحرق ويدمر ويشوه». وتدخل امرأة سوداء تحمل طفلا على ذراعيها وتتبعها شلة من الأطفال من أعمار متقاربة لتسأل عن مركز الضمان الاجتماعي، فترد عليها لوسيت، من دون أن تنظر إليها، بالإشارة. وتستأنف صاحبة المخبز قائلة «هل رأيت؟ يجيئون إلينا طمعا بالمساعدات الاجتماعية والخدمات الطبية التي يوفرها بلدنا للجميع. ولكن لم نعد قادرين على الاستمرار». وتعدد لوسيت ما قامت به البلدية لمساعدة سكان المدينة وخصوصا الجالية المهاجرة الوافدة إليها «إنشاء 12 مدرسة من كل المستويات، توفير 42 مركزا للنشاطات الثقافية والاجتماعية والفنية والرياضية والترفيهية». وما تقوله السيدة لوسيت صحيح، لكن هذه الجهود الفرنسية لم تكن كافية، فمستوى البطالة في «غرينيي» يصل الى 20 % بينما هو على المستوى الوطني دون 10%. ويقدر معدل الدخل للعائلة الواحدة في «غرينيي» بـ 16500 يورو في العام، بينما هو على المستوى الوطني بحدود 22000 يورو. وكل ذلك يدل، كما بالنسبة للضواحي التي تشكل «حزام الفقر» حول العاصمة، على خلل في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية.

ولكن ما هو رأي المهاجرين الذين توجه إليهم أصابع الإتهام بانكار الجميل والمساهمة في تدهور اوضاعهم بسلوكهم السياسي والاجتماعي المعادي للمجتمع والدولة الفرنسية ؟ قادر. م ، شاب من أصل جزائري، ولد في فرنسا قبل 27 عاما من أب جاء من منطقة «تيزي وزو» ليعمل في مصانع «شركة رينو». ورغم انه في اخر العشرينيات الا انه لا يزال يعيش مع إخوته وأخواته الخمس في شقة العائلة المتواضعة في حي «ليه سابلون» الذي شهد اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين. ويقول قادر الحاصل على دبلوم في الميكانيكا، والذي يعمل بشكل متقطع، إنه شخصيا لم يشارك في أعمال الشغب لكنه يعرف الكثيرين من أصدقائه الذين شاركوا فيها، مضيفا أنه «يتفهم» تصرفاتهم. ولكن عندما نرد عليه بأن التخريب يصيب سكان الحي قبل غيرهم، يرد بشرح مسهب «الناس كما تراهم في هذا الحي غالبيتهم من المهاجرين، إما من بلدان المغرب العربي أو من افريقيا. وأبناء هذه العائلات ليسوا بالضرورة كلهم من المشاغبين. لكنهم يعانون للعثور على مسكن وعمل. لقد تقدمت شخصيا بعشرات الطلبات للحصول على عمل ولكن الرفض كان غالبا هو الجواب. عندما تكون اسود البشرة أو مغاربي الملامح وتحمل اسما عربيا، ابواب الأرض لن تكون مفتوحة أمامك. قبل الأحداث (الأخيرة) ذهبنا ليلة سبت الى أحد الملاهي الليلية لنرقص. كنا خمسة شبان بيننا اثنان فرنسيّا الأصل. المفارقة أن مسؤول الأمن في الملهى وهو أسود البشرة سمح للفرنسيين بالدخول، ومنعنا نحن الثلاثة بحجة أن الملهى قد امتلأ. هل تعرف أننا عندما نلتقي فتاة مساء، فإن الأرجح انها تغير الرصيف حتى لا تواجهنا ؟. ولن أحدثك عن كيفية تعامل الشرطة معنا، أنظر ما قاله الشرطي الأول في فرنسا، وزير الداخلية نيكولا سركوزي عندما وصف الشبان بـ«الحثالة والأوباش» عندما نقع في قبضة الشرطة لسبب أو لآخر، يعاملوننا كأننا إرهابيين أو كأننا جميعا مهربو مخدرات. لا أقول إن الحي لا يعرف تعاطيا للمخدرات أو أن بعضهم لا يقود سيارات BMW مجهول مصدر تمويلها. كذلك لا انفي حصول سرقات لدراجات نارية أو هوائية أو حتى سيارات. لكن مثل ذلك موجود أينما كان وهو الاستثناء وليس القاعدة. وحتى لو جرب أحدهم الخروج من الوضع البائس عن طريق العمل والجهد، فإن العوائق كثيرة». وهنا يتدخل شاب أصغر سنا اسمه ناصر الدين ويلقب بـ«نصرو» ليقول إن «أعمال الشغب هي من فعل مجموعات صغيرة للغاية»، استغلت المناخ العام «من اجل أن تفرض قانونها»، إلا أنه يستدرك قائلا «لقد استفادت من المناخ العام، من البطالة التي ترى جانبا منها بأم عينيك ومن إهمال السلطات لهذه الأحياء حيث المساكن في حالة بالية، فلا المصاعد صالحة للعمل ولا وسائل الترفيه متوافرة. وبعد ذلك، ما الذي يمكن أن يقوم به هؤلاء الشبان: إنهم يدورون من مكان الى مكان ويروون في ما بينهم مآثر بعضهم البعض». ويضيف «الأنكى من ذلك أن السلطة فرضت حالة الطوارئ على المناطق التي شهدت اعمال عنف باللجوء الى قانون أقر أيام حرب الجزائر وذلك لقمع أجدادنا وآبائنا وهي اليوم تنفض الغبار عن القانون نفسه لقمعنا نحن».

ويتابع «جدي لأبي اخذ من قريته في الجنوب الجزائري ليقاتل على الجبهة إبان الحرب العالمية الأولى ضد المانيا القيصرية وهو مدفون قريبا من مدينة فردان. لقد ضحى بحياته من أجل فرنسا وحريتها وهي حال الآلاف من المغاربة والأفارقة. وأنا أسأل: أليس لنا حقوق على فرنسا؟ هل يقبل اليوم أن تستشري العنصرية وأن نعامل كأننا بشر أقل بشرية من الآخرين؟». ويحمى بسرعة وطيس الحوار الذي يتحول الى جدل ويتدخل كثيرون منهم متوعدين بمزيد من حرق السيارات واستهداف الشرطة «لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمونها». وعندما نحاول الرد والعودة الى الحوار الهادئ يتنطح أحدهم ليقول «نحن هنا في بيتنا وفي ما بيننا وإذا كان أولئك (ويشير الى البعيد ليدل على الفرنسيين) غير مسرورين في البقاء هنا، فما عليهم إلا الرحيل». في البعيد، تسمع صفارات سيارات الشرطة فيتفرق الجمع ويسرعون لولوج مداخل الأبنية بانتظار هبوط الليل الذي سيحمل معه بكل تأكيد مزيدا من السيارات المحروقة ومزيدا من القطيعة بين الذين يملكون والذين لا يملكون.