ثريا العريبي.. باريس الجميلة والحال القبيح

المهاجرة المغربية في ضواحي عاصمة النور تروي لماذا تفهم كلمة الظلم ولا تفهم العنصرية

TT

منذ أيام وثريا العريبي لا تنام نومة مطمئنة. إنها تهب من فراشها ليلاً لكي تلقي نظرة على ولديها النائمين وتحكم الغطاء حولهما. حركة عادية من أُم في زمن غير عادي. فهذه المغربية التي هاجرت الى فرنسا قبل أكثر من عشرين عاماً تعيش اليوم في ضاحية كليشي، على تخوم الحرائق وانتفاضة شباب أحياء الفقر والإهمال التي بدأت منذ أسبوعين. وصلت السيدة ثريا، 50 عاماً، بسيارتها البيضاء الصغيرة الى المقهى الذي اتفقنا على اللقاء فيه، غير بعيد عن «إذاعة الشرق» في باريس، حيث تعمل في التنظيف. رأيت امرأة أنيقة تترجل من السيارة وتأتي لتعتذر مني بأنها تتحدث العربية بلهجة مغربية، ولا تجيد الفرنسية، اللغة التي يتفاهم بها أبناء المشرق العربي عند لقائهم بالمغاربة، قفزاً فوق حواجز اللهجات. لم نكن بحاجة الى قاموس معقَّد، وتفاهمنا بسهولة، لاجئتين الى لغة المسلسلات والأغاني المصرية عندما يستعصي على إحدانا التعبير.

بدأت ثريا العريبي العمل لمساعدة زوجها الذي كان عاملاً في مصانع «رينو» للسيارات، وقد جاء الى فرنسا في أول شبابه، ثم عاد الى وطنه لكي يتزوج، على عادة المهاجرين الذين يفضلون الاقتران ببنات جلدتهم. وفي مراكش رآها وأعجبته، وهي أيضاً رضيت به ووافقت على الذهاب معه الى المهجر وشجعها على ذلك أن لديها ثلاثة أشقاء وشقيقة سبقوها الى فرنسا للعمل. ومثل آلاف المهاجرين الذين لا يملكون المهارة، ولا التعليم المطلوب للوظائف الراقية، لم تجد ثريا أمامها سوى العمل في حقل الخدمات. ووجدت وظيفة في شركة للنظافة، حيث تعمل ست ساعات في ترتيب الغرف بأحد الفنادق، ثم تذهب بعد الظهر لمواصلة عملها في «إذاعة الشرق» لمدة أربع ساعات. وفي خضم العمل المضني رزقت ثريا بابنها البكر كمال، 16 عاماً، ثم بابنتها هدى، 10 سنوات، وأحست أن الولدين هما فرصتها الوحيدة للأمل، في حياة تنطوي على كثير من الشظف. لا تنكر المغربية المهاجرة أن باريس جميلة جداً، لكنها ليست مراكش، ثم ما الذي تراه هي من باريس؟ وأي حياة هي حياتها بعد أن أنفصل عنها الزوج وذهب ليقترن بأُخرى، تاركاً لها الولدين المقبلين على مرحلة المراهقة؟ إنها لم تضع قدمها، يوماً، في مسرح أو مرقص أو مكتبة عامة أو صالة للسينما، وحتى التلفزيون الذي تديره على الفضائية المغربية لا يسليها كثيراً طالما أن النعاس يتسلل الى جفنيها بسرعة فتغفو لكي تكون جاهزة للصباح التالي. «الحمد لله».. ترد هذه العبارة على لسانها كثيراً. صحيح أنها لم تعرف من حياتها سوى العمل الشاق، لكن فرنسا منحتها الاستقلال والأمان. أما الجنسية فقد نالها الولدان ومنعت عنها لأنها لا تتكلم لغة البلاد كما يجب. إنها تريد أن توفر لكمال وهدى أفضل فرص التعليم، ذلك الامتياز الذي لم يتوفر لها، وهي سعيدة لأن الولد أصبح في صف البكالوريا ولم يرسب في أي سنة، والبنت ستدخل المدرسة المتوسطة، لكنها عندما تعود بعد عشر ساعات من العمل وتضع رأسها آخر النهار على الوسادة، تخاف عليهما كثيراً من أشباح حقيقية ووهمية.

تخاف ثريا على ولديها من رفقة السوء، ومن انتشار المخدرات على أبواب المدارس، ومن التطرف الذي يصطاد الشباب عند منعطف الطريق، ومن الفشل الدراسي، ومن العنصرية، ومن غد لا تعرف ملامحه، خصوصاً إذا وقع لها ما يعيقها عن العمل. إن زوجها لا يدفع أي نفقة، وهي تتحامل على نفسها، في أيام المرض، وتذهب لتعمل رغم الأوجاع لأن تعويض الضمان الاجتماعي يتأخر شهرين. ومع هذا تبتسم تلك الابتسامة المنتزَعة انتزاعاً، وتقول مجددا «الحمد لله»، وترفقها بأمثال شعبية مغربية لا أتمكن من فك رموزها.

هذه الأيام ازدادت مخاوف ثريا. أنها تدفع المكنسة الكهربائية بيمناها وتمسك هاتفها النقال باليسرى لكي تتأكد أن البنت عادت من المدرسة، وأن الولد يجلس في غرفته أمام الكومبيوتر الذي اقتطعت ثمنه من لقمتها لكي تشتريه له. تقول إنها منعت ابنها من الخروج للنزهة مع أصدقائه في حي «سان لازار»، قبل يومين، خشية عليه من الاضطرابات التي تعم الضواحي ليلاً، ومن احتمال أن تأخذه الشرطة بلا ذنب. ثم تصمت لبرهة قبل أن تضيف «إنه يطيعني اليوم. فمن يضمن لي أن يسمع كلامي بعد أن يكبر؟».

في الليل، تخاف ثريا على سيارتها التي هي من مستلزمات عملها. وتشعر بالأسف لأن الشباب المحبط يعبر عن غضبه بشكل عشوائي. وتقول «ما ذنب هؤلاء البسطاء من سكان الضواحي لكي تحرق سياراتهم؟». إن الأحداث الجارية في الأحياء المجاورة وفي المناطق البعيدة تصلها أولاً بأول لأن الشباب يتبادلون الأخبار عبر غرف الدردشة على الإنترنت، وهي تقول «التشات»، وهي كلمة جديدة تعلمتها من ابنها.

هل تشعر سيدة أنيقة مثلها، تقود سيارة حديثة وتحصل على دخل منتظم وتقيم في شقة لطيفة وتدفع الضرائب العديدة، بالتمييز بينها وبين أهل البلاد؟ تفكر طويلاً بالسؤال، ثم تهز رأسها على استحياء، علامة الايجاب. وتروح تروي لي وقائع ذلك اليوم الذي صدم فيه أحدهم سيارتها في ضاحية «نويي» الراقية. لقد اقتادوها الى مركز الشرطة، وطلبوا منها أن تملأ الاستمارة الخاصة بوصف الحادث. لكنها لا تقرأ ولا تكتب الفرنسية، فطلبت مساعدة الشرطي، لكن هذا سخر منها وامتنع عن مساعدتها في ملء الورقة، رغم أنه ساعد غريمها الفرنسي الذي صدم سيارتها. تقول «بكيت تلك اللحظة كثيراً وشعرت بالظلم». إنها تستعمل كلمة «الظلم» لأنها لا تفهم معنى العنصرية، لكن عندما أقول لها «راسيزم» تفهم على الفور، ولا تخفي مخاوفها من أن يتخرج ابنها ولا يحصل على عمل مناسب لمجرد أنه أسمر ويحمل اسماً عربياً. لا تفهم ثريا، أيضاً، الجدل الكثير حول حقوق المرأة المهاجرة والحديث عن العنف الواقع عليها. ولم تحتفل يوماً باليوم العالمي للنساء، ولا بعيد الحب، لكنها عوَّدت ابنها أن يقبل رأسها ويدها عندما يستيقظ في الصباح. إن تلك هي طريقتها في غرس احترام المرأة في نفسه منذ الصغر، وهي تشعر بالفخر لأن الولد يرعى شقيقته ولا يتعنت معها. عندما تتكلم عن الولدين تشع عيناها بالفرح، عدا ذلك فإنهما مسكونتان بنظرة حزينة. وعندما أسألها إن كانت تعتبر نفسها انسانة سعيدة، تخفض عينيها وتقول «ليس تماماً»، فهي قنوعة، ولا همَّ لها سوى رضا ولديها «المهم أن يدرسا وينجحا، أما رأسي فلا يهمني.. رأسي أهملته من زمان». وإذا ربحت، يا ثريا، جائزة اليانصيب كما ربحها مهاجر تونسي مؤخراً؟ تقول على الفور إنها ستذهب الى الحج، قبل أن تستدرك «لا حظ َّ لي .. فلماذا ألعب اللوتو؟».