أسد أفريقيا العجوز

أراد موغابي من إعادة توزيع الأراضي وتطهير المدن من العشوائيات كسب التأييد الشعبي.. فلماذا لم يحدث هذا؟

TT

يجتر العالم الغربي بصفة خاصة طوال الأسبوعين الماضيين أحداث ما عرف بتطهير المدن والمناطق الحضرية في زيمبابوي، وهو البرنامج الذي تخوضه السلطات هناك بلا رأفة، مسنودة بالجيش والبلدوزرات ضد سكن الفقراء العشوائي في المدن، من دون إيجاد بدائل لهم. سياسات تطهير المدن هذه قادت الى تشريد مليون مواطن، بالاضافة الى محاولات ترحيل غيرهم قسريا الى الريف، بحجة بدء حياة جديدة هناك، الامر الذي ادى الى إدانات من الأمم المتحدة والعواصم الغربية، لتتصاعد تلك الإدانات مع رفض الرئيس روبرت موغابي تلقي إعانات دولية لأولئك المواطنين، لتسجل زيمبابوي نقطتها الثالثة في شغل المجتمع الدولي، بقضية لم تنفصل اصلا عن عناد محارب قديم هو الرئيس موغابي، بما قاد الى جعل زيمبابوي أقرب الى فيل أفريقي أجرب، لا يريد أحد في محيط القارة الاقتراب منه. ولكن تلك المأساة ومع عمقها، لم تكن لتستدعي دهشة كثيرين، فتلك، وفي النهاية هي زيمبابوي، التي لم يشغل بلد أفريقي العالم الغربي، بل ومحيطه الجغرافي الأفريقي، في الألفية الجديدة، دعك من القرن الماضي، مثلما فعلت زيمبابوي برئيسها المخضرم روبرت موغابي، أول رئيس وزراء مع الاستقلال من بريطانيا في 1979، ثم رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء منذ 1987 والى اليوم. ولم تحفل صحيفة دولة أفريقية بالتناقضات بين الإيجابي والسلبي، بمثل الذي تحفل به صحيفة ذلك البلد، فزيمبابوي من بين أعلى الدول الأفريقية في نسبة التعليم، اذ ان أكثر من 90% من سكانها متعلمون، ولكنها أيضا الأعلى في نسبة البطالة في العالم (70%)، وهى بين الأعلى عالميا في نسب من يعيشون تحت خط الفقر (70%). على صعيد ما يثير الاستغراب ايضا، ان زيمبابوي هي التي أججت ما عرف بحرب أفريقيا العالمية الأولى، مع سقوط نظام موبوتو سي سيسكو في زائير سابقا (الكونغو الديمقراطية حاليا)، فمع تدخل قوات قليلة من يوغندا وبوراندي ضد نظام الرئيس السابق لوران كابيلا الأب، تداعى موغابي مع حليفة ادواردو جوزيه دو سانتوس رئيس أنغولا، وسام نكوما رئيس ناميبيا، على خلفية عقيدة اليسار التي جمعت بينهم في سنوات التحرير، وألقوا بمئات الآلاف من الجنود في الكونغو في معسكر مناوئ للرئيس اليوغندي يوري موسفيني، فانزلقت الكونغو الى حرب أهلية تصاعدت لتصبح حربا أقليمية، كلفت الكونغو الكثير، مثلما ظلت تكلف زيمبابوى مليون دولار في اليوم على مدى عامين، هما عمر تلك الحرب، بما قاد الى تسميتها بحرب أفريقيا العالمية الأولى تهكما، لأنها استقطبت نحو سبع دول حاربت بجيوشها على أرض الكونغو، وهي يوغندا وبوراندي ورواندا من جهة، ثم زيمبابوي وأنغولا وناميبيا وتشاد من جهة أخرى.

وزيمبابوي، وفي غضون ذلك كانت هي التي فجرت قضية الإصلاح الزراعي عام 2000، حين اكتشف موغابي أن 700 ألف من البيض ممن تجنسوا بعد الاستقلال يملكون أكثر من 80% من الأراضي الزراعية، تاركين البقية لـ99% من السكان الافارقة (سكان زيمباوي 12 مليون نسمة، فيما تصل نسبة البيض الى أقل من 1%). أقدم موغابى على برنامج للإصلاح الزراعي، ولكن من دون أن يعد له العدة، فقام بمصادرة أراضي البيض وتسليمها بأجور رمزية للسكان الأفارقة، من دون تأهيلهم، فكان أن دخلت البلاد في فجوة غذائية يحوم معها شبح الجوع والمجاعة الى هذه اللحظات. تداعت تلك القضية إقليميا فأوشكت أن تشعل فتنا داخلية في زامبيا وجنوب أفريقيا المجاورتين، على خلفية وجود جاليات من البيض المجنسين الذين يملكون أراض زراعية يديرونها بكفاءة، وإن لم تكن بنفس النسبة المختلة في زيمبابوي. وكان موغابي قد تحفظ على إبقاء ملكية البيض للأراضي الزراعية في مفاوضات الاستقلال بفندق لانكستر بلندن، فقادت المساومات الى كفالة حق مراجعة القضية بعد 20 عاما، على مبدأ الرغبة والتعويض، غير انه أثارها بعد 20 عاما بالفعل ليواجه بعدم رغبة المواطنين البيض في البيع، فاضطر لمصادمتهم، ودخل نفق المصادرة في قضية تبدو صحيحة نظريا، ولكن التطبيق أفسد سائر أهدافها.

فالتساؤل الاساسي مع تشريد 700 ألف مواطن على هذا النحو، هو: ماذا يقصد بتطهير المدن، ولماذا الآن؟ الاجابة تكمن في توقيت اتخاذ القرارات. فقرارات اعادة توزيع الاراضى بين البيض والسود اتخذ مع خوضه لآخر انتخابات رئاسية في مارس (اذار) عام 2002، اذ أذهلته النتائج حين لم يحصل، وهو أب الاستقلال سوى على 56 في المائة من الأصوات، في حين حصل الوافد من رحم حراك منظمات المجتمع المدني مورغان تشانقيري على 41%، وكان مخرجه هو قرارات شعبية ترضي قطاعا واسعا من الناس بغض النظر عن صحتها. اما قرار ازالة المساكن العشوائية، فجاء بعد انتخابات تشريعية في مارس الماضي، ليكتشف موغابى أن المناطق الحضرية توشك أن تنصرف عن حزب زانو الجبهة الوطنية ZANU-FP، الذي قاد التحرير، وعندما وجد موغابي نفسه أمام معادلة التآكل في شعبيته وفي حزبه مجددا، ابتدع سياسة تطهير المدن من السكن العشوائي، باعتبار أن خطاب المعارضة يخاطب هؤلاء الذين يعيشون البطالة، بظروف معيشية وضعتهم تحت خط الفقر، فيما ناتج زيمبابوي الإجمالي المحلي 24 مليار دولار ولا يتعدى متوسط دخل الفرد 1900 دولار في العام. مجمل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في زيمبابوي، الى حين اجراء الانتخابات الرئاسية 2008، يقول إن ذلك البلد يعيش حالة من التدهور في كل الأصعدة. فاقتصاديا، زيمبابوي من بلاد قليلة في العالم تسجل نسبة النمو فيها أقل من 1% بنقطتين، واجتماعيا، هي من بين الأعلى إصابة بمرض الإيدز بنسبة 24%، أي قرابة ربع عدد السكان، وسياسيا، تذمر منها تجمع الكومنولث الذي تتمتع بعضويته فطردها، فيما تقود هذه الجراحات ذات المقاصد السياسية من شاكلة تطهير المدن الى تعميق الاحتقان، مع بلد يدخل رئيسه عامه الـ81، ولم يظهر في الأفق خلف يتعاطى السياسة بطريقة تختلف عن بطل للتحرير تحول بل وحوّل معه بلدا محاربا الى أسد عجوز.