نموت.. نموت ويحيا الوطن

يغني الأطفال لبلدانهم في طوابير المدرسة في العالم كله.. غير أن للأناشيد الوطنية حكايات مختلفة

TT

«تقدمي يا جميلة»، هكذا يغني الاستراليون في نشيدهم الوطني لبلادهم استراليا خلال تحية العلم الوطني في المدارس في الصباح او المراسم العسكرية. والاستراليون محظوظون لأنهم متفقون على نشيد وطني منذ 1984 على عكس الايطاليين الذين نشبت بينهم خلافات هذا الأسبوع في البرلمان الايطالي حول النشيد الوطني بعد مشروع قانون طرح في البرلمان يهدف إلى جعل نشيد «الاخوة الايطاليون» والذي كتبه الشاعر الايطالي جوفيردوا ماميلي قبل أكثر من 60 عاما، نشيدا رسميا للبلاد. والخلاف حول النشيد الوطني في ايطاليا ليس جديدا، كما ان تغيير الاناشيد الوطنية لبلد من البلدان بعد تغير النظام السياسي ليس جديدا. وقد أدى الجدال في ايطاليا هذا الاسبوع الى تجديد التساؤلات حول تاريخ الاناشيد الوطنية وكيفية تطورها، ورمزيتها والاحداث التي أفرزتها، والاسباب التي تؤدي الى تغييرها من فترة الى اخرى. كان النشيد الوطني الايطالي قد تمت الموافقة عليه في اجتماع الحكومة في 12 أكتوبر(تشرين اول) 1946، بعد أن حل النظام الجمهوري مكان النظام الفاشي في أعقاب الحرب العالمية الثانية من 1939 الى 1945. إلا أن القرار كما ذكرت وسائل الاعلام مؤخرا ظل «مؤقتا» ولم يتم المصادقة عليه رسميا منذ ذلك الحين، مما انعكس على طريقة عزفه بين مختلف الفرق الموسيقية والمناطق الايطالية. وقال النائب في البرلمان الايطالي لوشيانو فلاسير إن «مشروع القرار سيشمل أيضا التوزيع الأصلي للنشيد مما سيؤدي إلى توحيد عزفه بين الفرق الموسيقية داخل ايطاليا وخارجها». وقد تطورت الأناشيد الوطنية، وفق مقتضيات الاجتماع السياسي، وهي نسخة معدلة عن الاناشيد والأشعار التي كانت تلقى في حضرة السلطان وأمير الجيش والقبيلة منذ القدم، ولا تزال سائدة حتى اليوم بأشكال متشابهة أحيانا ومتطابقة أحيانا أخرى. وكانت الاناشيد ولا تزال أحد منابع الحماس والحمية بأشكالها الدينية و العسكرية السياسية والاجتماعية والقومية، وفي حالات الغزو والدفاع على السواء. وكان من عادات الاغريق والفرس والرومان في السابق، ترديد أناشيد بعينها في المراسيم الاحتفالية والمناسبات، كما كان للقبائل على امتداد التاريخ البشري، ولا سيما بعد مرحلة الصيد والرعي وبداية عصر الزراعة أهازيج و أشعار يرددونها في المناسبات المختلفة، ثم تطورت إلى التباهي والتفاخر بالنسب القبلي والعرقي، مما زاد من وتيرة الحروب بين القبائل والشعوب. واستمر ذلك إلى القرن الماضي القريب. وإن كانت الحرب العالمية الثانية في مجملها ليست حربا عرقية صرفة، إلا أن البعد القومي كان أحد عناصر وقودها، على اختلاف المقادير التي أعطاها له المحللون. والناظر في النشيد الألماني قبل الحرب العالمية الثانية يدرك مقدار التعالي الذي تنطوي عليه كلمات النشيد في عهد هتلر، ومنها «ألمانيا فوق كل شيء.. فوق كل شيء في العالم.. عندما نصمد كإخوة سويا.. للدفاع والحماية.. من ماس إلى ميمل.. من اتش إلى بيلت.. ألمانيا فوق كل شيء.. فوق كل شيء في العالم». وتلعب شخصية القائد في النظام الملكي دورا محوريا في شخصية الأمة، إلى درجة مؤثرة جدا وملفتة للنظر، ففى النشيد الوطني الياباني خلال العهد الملكي نجد من بين كلمات النشيد «ندعو لمجدك.. أن يدوم ألفا.. أن يدوم ألف جيل.. حتى الحصى يصير صخرا.. مغطى بالنجيل»، غير ان النشيد الياباني حذفت منه مقاطع، مثله مثل النشيد الالماني بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب روح التعالي القومي التي يحملها، وتغيير النظام السياسي. وعلى عكس المانيا واليابان، لا تزال الولايات المتحدة الاميركية تحتفظ بنشيدها الوطني الذي اقرته منذ تكوين الولايات الاميركية، ويحمل النشيد الاميركي عنوان العلم ذي النجوم المتلألئة (The Star Spangled Banner) وكتبه فرانسيس سكوت كي عام 1814 عن حرب التحرير سنة 1812 بين الولايات المتحدة وبريطانيا. وأصبح النشيد الوطني لاميركا رسميا في 31 مارس (اذار) 1931، وهو يتحدث عن لمعان الصواريخ، وتفجر القنابل في السماء، وأن كل ذلك «بين أن علمنا لا يزال هناك». وفرنسا واستراليا من بين الدول التي غيرت نشيدها الوطني. والنشيد الوطني الاسترالي الحالي تم اعتماده في 9 أبريل (نيسان) 1984 ومن كلماته «فلنبتهج جميعا كاستراليين.. لأننا فتيان وأحرار.. لدينا تربة ذهبية وثروة نكد من أجلها.. ولأن بيتنا محاط بالبحر.. وأرضنا تزخر بخيرات الطبيعة.. الغنية بجمالها وندرتها.. تقدمي يا استراليا الجميلة في صفحة التاريخ.. ودعونا ننشد في مرح.. تقدمي يا استراليا الجميلة». لكن كثيرا ما تحمل الاناشيد الوطنية معاني تتناقض مع الواقع المعيش، فالتغني بالحرية لا يعكس بالضرورة حياة الناس، وهناك أناشيد وطنية تذكرنا بأبيات المتنبي «الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والقرطاس والقلم»، ولكن نهايته كانت شيئا آخر. وفي البلاد العربية، حملت الأناشيد الوطنية الكثير من آلام الماضي الاستعماري. ومن ذلك النشيد الوطني التونسي الذي سطره الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في ثلاثينات القرن الماضي، عندما كانت تونس ترزح تحت الاستعمار المباشر ومنه «حماة الحمى يا حماة الحمى.. هلموا هلموا لمجد الزمن.. لقد صرخت في عروقنا الدماء.. نموت نموت ويحيا الوطن.. إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر.. ولا بد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر». ومن البلدان العربية التي شهدت تغييرات في أناشيدها الوطنية، العراق وليبيا بعد ثورة العقيد القذافي، ومصر بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد والنشيد الوطني الحالي يقول «بلادي.. بلادي لك حبي وفؤادي. مصر يا اغلي درة». وفي العراق الذي أسست فيه الملكية 1921 في عهد الملك فيصل، كان مطلع النشيد الوطني العراقي في ذلك الحين «دم يا كريم النسب.. يا شريف الحسب.. فيصل، فيصل». وظل النشيد الوطني على حاله حتى انقلاب 1958 الذي ادى الى اطاحة الحكم الملكي، وتم تغيير النشيد 1963. ثم جرى تغيير النشيد 1981 وكان مطلعه «وطن مد على الافق جناحه.. وارتدى مجد الحضارات وشاحا.. بوركت وطن الفراتين وكن.. عبقري المجد عزما وسماحا». وبعد احتلال العراق سنة 2003 طالب البعض بالعودة للنشيد الوطني الذي كان معمولا به من الثلاثينات حتى الخمسينات، ولم يتم حتى الآن الاتفاق على نشيد وطني عراقي مجمع عليه. أما النشيد الوطني السعودي فيجمع بين سلاسة العبارات والاعتزاز بالانتماء الاسلامي ومنه «سارعي للمجد والعلياء.. مجدي خالق السماء.. وارفعي الخفاق اخضر.. يحمل النور المسطر.. رددي الله اكبر.. يا موطني.. موطني قد عشت فخر المسل.. عاش المليك للعلم والوطن». أما النشيد الوطني الفلسطيني فهو من تأليف الشاعر ابراهيم طوقان سنة 1936 بعنوان موطني ويقول فيه «موطني موطني.. الجلال والجمال.. السناء والبهاء.. في رباك في رباك.. والحياء والنجاة.. والهناء والرجاء.. في هواك في هواك.. هل أراك هل أراك.. سالما منعما.. غانما مكرما.. هل أراك في علاك». وكثيرا ما تهجر الاناشيد الرسمية، وتستبدل بأناشيد أخرى بديلة، رغم أن كلماتها لا غبار عليها. ولكن اعتمادها من قبل نظام لا يمثل إجماعا وطنيا، تجعل من تلك الاناشيد مدعاة للتندر والسخرية. وأحيانا لتغيير كلماتها. غير انه ليس الجميع من مؤيدي الاناشيد الوطنية، فهناك من يرى ان الاناشيد اليومية في المدارس والثكنات العسكرية تفرغ الوطنية في كلمات ينطقها الناس دون ان يشعروا بها، ودون ان تؤثر على السلوك والتفكير، فتزيد الاجيال بعدا عن تلك المعاني السامية. حتى أن البعض لا يستطيع الصبر على سماع الاناشيد الوطنية خاصة التي يتم عزفها في القنوات الرسمية قبل النوم، مما دعا البعض الي وصف الاناشيد الوطنية بأنها «موسيقى قبل النوم». وفي العام الماضي، اضطر عريس وعروسه الى الغاء حفل زفافهما بعد أن رفض قس بريطاني اختيارهما للموسيقى التي ستعزف في الحفل. واختارت فيكتوريا وليامز (26 عاما) وستيوارت تورتون (27 عاما) نشيدي (اعدك يا بلادي) و(القدس). وذكرت صحف بريطانية آنذاك أن دونالد اليستر قس الكنيسة الانجليكانية ومارتن بارو قائد الفرقة الموسيقية في كنيسة تشيدل بشمال انجلترا قالا أن الموسيقى المختارة (وطنية اكثر من اللازم). ونشيد (القدس) هو تلحين لقصيدة وليام بليك التي يتخيل فيها قيام قدس جديدة فاضلة على تراب انجلترا أما نشيد (اعدك يا بلادي) فهو من تأليف الدبلوماسي السير سيسل سبرينج رايس ويتحدث عن الخسارة البشرية في الحرب العالمية الاولى.