ذكريات العدالة المتأخرة

سؤال في الذكرى الـ60 لتأسيس محاكم نورمبرغ: لماذا لم تنته الجرائم ضد الإنسانية؟

TT

«لا يمكن أن ننسى أنها كانت مدينة هتلر»، هكذا وصف راينهارد دوريس استاذ التاريخ المعاصر في نورمبرغ الالمانية، المدينة التي تحتفل هذه الايام بالذكرى الستين للمحاكم ضد النازيين، التي غيرت من مسار العدالة الدولية، لكن دوريس يستطرد مؤكدا «ان ما حصل في المدينة، لا ينظر اليه سكانها الحاليون بارتياح». وأوضح «انهم مثل كثيرين من الالمان الآخرين، لا يحبون العودة الى الماضي». لكن الذكرى الستين على المحاكمات، اثارت الكثير من المراجعات، خاصة بسبب تأثير هذه المحاكمات على تطور النظام القانوني والقضائي في العالم (دشنت لأول مرة في التاريخ استخدام الصور الفوتوغرافية، كأدلة جنائية ضد المتهمين). فكيف ظهرت فكرة المحاكمات للمرة الاولى 1945، ومن الذين شاركوا فيها، ولماذا بدأت متعثرة، وما زالت قادرة على إثارة الكثير من الجدل حتى الآن؟ يرى ميكايل ماروس، استاذ التاريخ في جامعة تورونتو الكندية وأحد كبار المتخصصين في الحقبة النازية، ان ولادة محكمة نورمبرغ المتعثرة، كانت بسبب تضارب وجهات النظر بين الحلفاء الذين نجحوا في كسر شوكة ألمانيا، وإرغامها على الاستسلام، ورغبة كل منهم في معاقبة النظام الالماني على الجرائم التي ارتكبها. ويقول ماروس إن الإنكليز بداية، ثم الروس لاحقا، كانوا يريدون إعدام كبار اركان النظام الالماني، حالما يتم وضع اليد عليهم من دون محاكمات. لكن الولايات المتحدة الأميركية كانت، بدفع من وزير الحرب وقتها هنري سمبسون، تفكر بشيء آخر، وهو تحديدا إجراء محاكمة دولية، لأن المحاكمة العلنية والعادلة هي «أرقى درجات الحضارة»، باعتبار أن الحرب كانت بين «المدنية» من جهة، و«الهمجية» من جهة أخرى. وكانت واشنطن، إضافة الى ذلك، تريد تحاشي تكرار ما حدث عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، عندما حوكم الألمان الذين اعتبروا مسؤولين عن الحرب العالمية الأولى أمام محاكم ألمانية في مدينة ليبزيغ. ويؤكد ماروس أن النتيجة كانت «أقرب الىالمهزلة»، حيث لم يمثل أمام المحكمة العسكرية الألمانية سوى 12 متهما، من أصل 45 متهما ولم يحكم إلا على ستة فقط. وفي اجتماع عقد في موسكو في نوفمبر(تشرين الثاني) من عام 1943، نجح الحلفاء يعد مناقشات مستفيضة في الاتفاق على ضرورة توفير «الإجماع» بينهم لإقرار شكل المحاكمة الجماعية التي كانت «الأولى من نوعها في التاريخ». ولاحقا تم اختيار مدينة نورمبورغ، بناء على اقتراح أميركي لعدة أسباب، اولها أنها واقعة في منطقة الاحتلال الأميركي في المانيا، ويتوفر فيها سجن ومحكمة لم يدمرهما القصف الجوي. غير أن السبب الرئيس، يتمثل في الشحنة «الرمزية» لمدينة نورمبورغ، التي شهدت صعود نجم النازيين ومسيراتهم العسكرية الضخمة. وتتميز نورمبورغ، وفق ماروس، بأنها المحاكمة الأولى في العالم، التي تمت، ليس فقط باسم الانتصار في ميدان المعارك، بل خصوصا باسم «الضمير العالمي»، إضافة الى أنها المرة الأولى التي يحدد فيها قانونيا مفهوم «جرائم ضد الإنسانية». وعمد الخبراء القانونيون التابعون لدول الحلفاء الأربع، وهي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والإتحاد السوفياتي، الى البحث عن تعريف لجريمة تصيب المدنيين بشكل خاص، وتستهدفهم لأسباب دينية أو عرقية. وكان واضحا أن من جملة أهداف المشرعين، إدخال ما فعله النازيون بحق اليهود والغجر والأقليات الأخرى، في مضمون المحكمة. ومن مظاهر التجديد ايضا في محاكمة نورمبرغ اعتماد «الصور»، مستندا قانونيا مقبولا، ما دفع الحلفاء الى تجهيز المحكمة في نورمبرغ بشاشة، عرضت عليها عشرات الفلام الوثائقية التي استخدمت كأدلة ضد المتهمين. ولم تشكل المحكمة رسميا، إلا في لندن في 8 أغسطس (آب) من 1945 وبدأت محاكمة النازيين الخمسة والعشرين في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، وانتهت بعد عام تقريبا في 10 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1946 بإصدار الأحكام التالية: الإعدام لـ12 متهما بينهم المارشالان غورينغ وجودل والمنظر النازي روزنبرغ، والسجن المؤبد لثلاثة متهمين، فيما حكم على اربعة بالسجن لمدد تتراوح ما بين 10 و20 عاما، وأخلي سبيل الثلاثة المتبقين. وقال المؤرخ الأميركي هيربرت لوتمان في نورمبرغ، إنه «يمكن استخدام الحجج القانونية لانتقاد المحاكمة، لكن مهما يكن من أمر، فإن الجرائم قيد النظر كانت استثنائية، وكان من الضروري إجراء محاكمة تصدر أحكاما سريعة، نموذجية ومتلائمة مع نوعية الجرائم المرتكبة». أما البروفيسور كارستن مومزن، الخبير الألماني في قانون الجزاء، وعميد كلية الحقوق في جامعة زارلاند، فيقول ان فكرة المحاكمة نشأت أساسا عند الأمم المجاورة لألمانيا، التي تضررت أسرع وأكثر من غيرها من العدوان الالماني، لكن الحلفاء تلقفوها وطوروها إلى حقيقة واقعة. وقد بدأت الفكرة عام 1941 من بيان رباعي وقعته بريطانيا وفرنسا تضامنا مع بولندا وبلجيكا، ضد جرائم الاحتلال الالماني. وهو بيان تبناه الرئيس الاميركي روزفلت في نفس العام، وجذب انتباه ستالين الذي اتهم الحكومة الألمانية بـ«الخرق المنظم لحقوق الإنسان»، ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، تحرك الحلفاء في مايو (أيار) 1945 لبدء استعدادات إقامة المحكمة. وأصدر الرئيس الاميركي هارى ترومان قراره بتعين القاضي روبرت جاكسون، لبدء ترتيبات إجراء المحكمة في نورمبرغ. ويقول مومزن، ان محاكمات نورمبرغ كانت خطوة مهمة على طريق الإجماع العالمي، على محاسبة مجرمي الحرب، ومثلا يحتذى في مناطق أخرى من هذا العالم، حيث يشعر الطغاة بأنهم «أحرار» في ممارسة طقوسهم البشعة. وتابع «كاستاذ في قانون الجزاء اقول إن محاكمات النازيين في نورمبرغ، كانت عولمة لقانون جزاء دولي، يعمل بمثابة إجراء رادع لكافة مجرمي الحرب المحتملين». وينفى ان تكون المحاكمات انتقاما من شخص أو شعب بعينه. ويضيف «كانت إرساء للعدل بالطبع، وتثبت محاضر المحكمة أن المتهمين حظوا بفرص واسعة للدفاع عن أنفسهم. كانت مقاصصة ضرورية لمرتكبي جرائم بحق الإنسانية، لم يكن الانتقام هو الدافع لها، وإنما الرغبة بإنصاف المتضررين، وذلك رغم الدور الذي لعبه الحلفاء فيها. كان يراد لمحاكم نورمبرغ أن تكون رادعا، لكن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية توالت بعدها بدون توقف مع الأسف». ومحاكمات نورمبرغ لا سابق لها في كل المقاييس، فمحاضرها تضم اربعة ملايين كلمة و7300 متر من الافلام، وقد جمعت في 22 مجلدا، وتشمل 300 الف شهادة تحت القسم و6613 من قطع الأدلة و236 شاهدا خلال المحاكمة. وفي ديسمبر (كانون الاول) 1946، اي بعد عام واحد من المحاكمات التي بدأت في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1945، اصبح القانون الذي طبق في نورمبرغ قانونا دوليا تحت اسم «مبادئ نورمبرغ»، التي استوحيت منها فكرة اقامة محكمة جنائية دولية.

وبعيدا عن مشاكل الداخل ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية، تبدو الشيشان ايضا اسيرة الماضي في مشاهده الدموية، بسبب جنوح بعض ابنائها صوب اعتماد الارهاب سبيلا الى تحقيق اماني تظل في جوهرها في غير وفاق مع متغيرات العصر. وتحسبا لنشوب عمليات عنف من جانب هؤلاء حرصت الاجهزة الامنية المحلية والفيدرالية، على حشد القوى اللازمة لتأمين المنشآت الحكومية، في اطار خطة تشمل ايضا الدفع بقوات يبلغ عددها 24 ألفا من رجال الشرطة والعسكريين حسب تقديرات الجنرال الكسندر تشيكالين النائب الاول لوزير الداخلية الروسية. وكان الجنرال يفغيني لازيبين قائد القوات الموحدة في شمال القوقاز، كشف عن خطة المقاتلين التي قال انها تستهدف زعزعة الاوضاع في الشيشان قبل الانتخابات، وانهم تلقوا الدعم المالي اللازم لتحقيق هذه الخطة. تستمد القضية الشيشانية بدايتها من قرون طويلة مضت، طالما حملت بذور صراع ومواجهة مع الامبراطورية الروسية، في اطار محاولات الاستقلال. وقد ظلت الامور سجالا حتى آخر هزيمة لحقت بالامام منصور الشيشاني، الذي قاد ثورة الشيشان، في اعقاب هزيمة الامام شاميل الداغستاني الاصل، واستكانته للعيش في كنف الامبراطورية في احدى ضواحي موسكو في منتصف القرن التاسع عشر. وكان الجنرال جوهر دودايف، اول رئيس لجمهورية الشيشان، قد عاد الى فكرة استقلال الوطن في عام 1991 قبيل انهيار التحاد السوفييتي. ولما كان الرئيس السابق بوريس يلتسين مشغولا بصراعه مع غريمه ميخائيل غورباتشوف، فقد اغفل آنذاك كل ما يتعلق بالنزعات الاستقلالية في الكثير من الجمهوريات التابعة دستوريا وتاريخيا لروسيا. غير انه عاد وبعد ان دانت له الأمور في المنطقة، الى محاولات اخضاع «المتمردين»، استنادا الى القوة، مذعنا الى أوهام بعض مستشاريه العسكريين، ومنهم وزير دفاعه بافيل جراتشوف، الذي قال بقدرته على اخضاع الشيشان والاستيلاء على العاصمة غروزني في غضون ساعتين. من هذا المنظور بدأت الحرب الشيشانية الاولى في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 1994 والتي استمرت حتى صيف عام 1996 الذي شهد نجاح المقاتلين في استعادة غروزني وتوقيع اتفاقيات خاساف يورت في نهاية اغسطس (آب) من نفس العام. وكانت هذه الاتفاقيات اعترافا عمليا بالهزيمة والموافقة على فكرة استقلال الشيشان. وقد اجريت اول انتخابات رئاسية وبرلمانية في فبراير (شباط) عام 1997 بعد رحيل آخر جندي روسي من اراضي الشيشان، مع نهاية عام 1996. غير ان الرئيس الشيشاني المنتخب اصلان مسعدوف، عجز عن السيطرة على مقاتليه من انصار اقامة الدولة الاسلامية في شمال القوقاز، ممن تزعموا حملة غزو داغستان في صيف عام 1999 تحت قيادة شاميل باسايف. وقد كانت هذه الاحداث هي المقدمة العملية لحملة فلاديمير بوتين، وكان آنذاك رئيسا للحكومة الروسية، لاستعادة داغستان وبدء عملية استعادة مواقع روسيا في الشيشان. ورغم فرض السيطرة العملية على كل ارجاء الشيشان واجراء الانتخابات الرئاسية هناك، الا ان الاوضاع ظلت بعيدة عن الاستقرار المنشود، فيما شهدت في بعض مراحلها اغتيال الرئيس المنتخب احمد قادروف على منصة الاحتفالات بعيد النصر في مايو (ايار) 2003 واستمرار العمليات الارهابية، التي جرت وتجري بعض مشاهدها في ما وراء الحدود الشيشانية.