استقلال العراق.. عن كردستان

هل يستطيع الأكراد الانفصال بدولة في حالة نشوب حرب أهلية؟

TT

حذر مسعود البارزاني في رده على سؤال حول تداعيات الوضع العراقي، من أنه إذا ما لاحت بوادر حرب أهلية في العراق، فإن الاكراد قد يستقلون بدولة على أرض تمتد، حسب الخرائط المعروفة، من زاخو أقصى شمال العراق، وحتى مندلي وخانقين جنوباً، تشمل محافظات أربيل، ودهوك، والسليمانية، وكركوك، وسنجار من الموصل، ومناطق من محافظة ديالى. لكن هل هذه الخرائط دقيقة، يقول الدكتور فؤاد معصوم، رئيس قائمة التحالف الكردستاني، إن الكرد لم يقدموا خارطة بشكل رسمي، حتى يتهموا بابتلاع ما هو ليس من الإقليم. وتبلغ مساحة كردستان العراقية المفترضة، حسب المتداول، حوالي ثمانين ألف كيلومتر مربع، وتشكل حوالي 18% من مجموع مساحة العراق البالغة 435 ألف كيلو متر مربع. وبطبيعة الحال، فإن المناطق المثبتة على الخرائط الكردستانية، غير الرسمية، والمدعومة بالتصريحات الرسمية أحياناً، تشمل المناطق المختلطة بين العرب والكرد والتركمان والآشوريين وغيرهم، بداية من كركوك وخانقين ومناطق الموصل، وأن تغيراً طوبوغرافياً أصاب تلك المناطق. وتبدو كركوك أهم المناطق التي خضعت لتلك التغييرات، حتى بات من الصعب البت في تحديدها كمنطقة «كردستانية» لا منطقة «كردية» صافية. والفارق بين التسميتين، حسب المسؤولين الكرد، أن تكون كركوك كردستانية، يعني أنها تقع ضمن النطاق الجغرافي لا النطاق القومي، فهم يعترفون باختلاطها العراقي. لكن هل تحذيرات البارزاني واقعية؟، بمعنى آخر هل من الممكن أن يستقل اكراد العراق فعلا، اذا ما ساءت الأوضاع الأمنية أو دخلت البلاد حافة الحرب الأهلية؟

وعاشت محافظات كردستان العراق، بعد الانفصال الموقت عن الإدارة المركزية العراقية إثر انتفاضة مارس (آذار) 1991، فترة ازدهار سياسي واقتصادي واجتماعي، بعيداً عن هيمنة حزب البعث ودوائر النظام الأمنية. ولولا الحرب الداخلية، التي اندلعت بين الحزبين الحاكمين: الاتحاد الكردستاني بزعامة جلال الطالباني والديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، لكان التقدم فيها ملهماً لأنحاء العراق كافة، لكن على أساس تلك الحرب تقسمت كردستان العراق، من غير كركوك ومناطق الموصل، التي كانت تحت إدارة بغداد، إلى إدارتين: أربيل والسليمانية، لكل منها رئيس وحكومة، ولهما مقومات الدولتين المستقلتين. وحتى هذه اللحظة ما زال التوحد بين الإدارتين مشوباً بعدم الجدية، رغم التوحيد البرلماني والوزاري الجاري. والأمر بطبيعة الحال يتوقف على الوضع العراقي ككل، ففي أية لحظة، قد تحدث تطورات تعيد الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً.

ويحمل تصريح مسعود البارزاني، في إعلان الانفصال في حالة نشوب حرب أهلية بالعراق، تهديداً واضحاً للقوى العراقية المتنافرة، فالحرب الأهلية إن حصلت ستكون بين الطائفتين الرئيسيتين: الشيعة والسُنَّة في الوسط والجنوب والغرب. لكن ماذا عن بقية الكرد في أنحاء العراق الأخرى؟ وماذا عن الكرد الفيليين الشيعة؟ وماذا عن كركوك وماذا عن الموقف الأميركي الحاسم في أمر قيام دولة كردية؟ يضاف إلى ذلك موقف الدول التى بها اقليات كردية كبيرة مثل تركيا وسورية وإيران وأرمينيا؟ لا يخفى على أحد أن هناك أسباباً عديدة، جعلت مطلب قيام دولة كردية بديلاً عن المطالبة السابقة بحكم ذاتي، في مقدمتها تنكر الحكومات السابقة لحقوق الكرد القومية، فمنذ 1925 وهو العام الذي صدر فيه القانون الأساسي العراقي، والمنطقة الكردستانية عدت جزءاً من العراق وخاضعة لسلطة بغداد، مع تجاهل الدولة العراقية للحقوق القومية تجاهلاً تماماً، بل اكتفت بتعيين مسؤولين كرد يمثلون شخوصهم لا قوميتهم. على سبيل المثال لا الحصر، أسندت رئاسة الوزارة إبان العهد الملكي للكردي أحمد مختار بابان، وأسندت وزارة الداخلية للكردي سعيد قزاز، وغيرهما من الشخوص الكردية، غير أن اختيار هؤلاء لمناصب الدولة، كان مبنياً على أساس ولائهم الشخصي فحسب. إلا أن القضية الكردية ظلت ذات أبعاد قومية واجتماعية، لا يحلها التظاهر بمشاركة هذه الشخصية الكردية أو تلك، أو التظاهر بالأخوة العربية الكردية عبر وسائل الإعلام. وبالفعل أدى هذا التجاهل إلى إعلان جمهورية مهاباد الكردية في الأربعينيات من القرن الماضي، ثم توالت الثورات الكردية، حتى سقوط النظام العراقي في أبريل (نيسان) 2003.

إلا أن المطالبة والإلحاح بوجود دولة مستقلة، لم تتحقق على أرض الواقع، رغم انفصال المنطقة الكردية الإداري لمدة اثني عشر عاماً (1991 ـ 2003). وعلى خلاف المتوقع من الإصرار على الانفصال، ظلت الأحزاب الكردية، تتحدث عن الانتماء العراقي، وعن تحقيق الديمقراطية البرلمانية الكردية على أرض العراق كافة. واستضافت المنطقة قوى المعارضة العراقية، وانتمى الحزبان الكرديان إلى المؤتمر الوطني العراقي الموحد، بداية من مؤتمر بيروت، عقب انتفاضة آذار 1991، ومؤتمر صلاح الدين، وانتهاءً بمؤتمر لندن قبيل سقوط النظام السابق. وطوال تلك الفترة لم يجد الكرد حلاً للمعضلة القومية غير الاقتراب من بغداد الديمقراطية. وإثر ذلك ساهم الكرد بزعامة الحزبين: الاتحاد والديمقراطي في العملية السياسية، ودخلوا الانتخابات (يناير 2005)، وقطفوا حوالى سبعين مقعداً، وفي أول بادرة من نوعها في تاريخ العراق، على مدى الأزمنة كافة، أصبح رئيس العراق كردياً، ولهم وزارات سيادية مثل وزارة الخارجية، ووزارة التخطيط، ونيابة رئاسة الوزراء، ورئيس المحكمة العليا. وعندما سُئل جلال الطالباني، رئيس جمهورية العراق، عن مصير المطالبة بدولة كردية، قال بالحرف الواحد: نحن الكرد اخترنا البقاء مع العراق، وليست هناك مطالبة بدولة كردية، ونعمل جاهدين على بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد. وقال مازحاً: إن أحد الزعماء العرب، طالب وما زال يطالب لنا بدولة كردية، أما نحن فلا نطلبها، فقد تغير الزمن. كذلك لمسعود البارزاني نفسه أكثر من تصريح بهذا الاتجاه، إلا أنه اشترط المساواة في المواطنة، فعندما سئل حول تطلعاته إلى رئاسة العراق، أجاب بوضوح: المسألة ليست شخصية، فأنا لا أتطلع لمثل هذا المنصب. لكن إذا كنا عراقيين، ولنا حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة، فلماذا لا يكون الكردي رئيساً؟

بعد هذا يطرح السؤال نفسه، هل الظروف الموضوعية والذاتية دفعت بالقوى السياسية الكردية، وبالشعب الكردي العراقي إلى التغاضي عن مطلب الاستقلال بدولة كردية؟ الإجابة عن هذا السؤال، تتطلب العودة إلى سنوات الإدارة الكردية المستقلة، فهل استغنت المنطقة عن العراق من الناحية الاقتصادية والسياسية خلال تلك السنوات، وكم كانت خسارة بقية العراق بابتعاد شطره الكردي؟ والكل يتذكر دخول القوات العراقية إلى أربيل بطلب من إدارتها، عند تعرضها إلى هجوم إيراني في أواسط التسعينيات من القرن المنصرم، وكان تدخلاً مشروطاً، وبموافقة أميركية على يبدو. وقد تضررت يومها العديد من قوى المعارضة العراقية الموجودة على الأرض الكردستانية. والكل يتذكر أيضاً ضغط النظام العراقي على المنطقة الكردية اقتصادياً، يضاف إلى ذلك ان الاستقلال الإداري لم يمنع استمرار التداخل بين بغداد وكردستان. هذا من جانب ومن جانب آخر، لعل الحقوق التي نالها الكُرد بمنطقتهم وبالعراق ككل، قد لا يحصلون عليها بمجرد إعلان دولتهم على قمم جبال وفي وديان كردستان. وبالمقابل هناك شكوى من قوى عراقية أخرى، لكثرة الطلبات الكردية، بما يخص التقسيم الإداري الفيدرالي، وتقسيم الثروة، والحصة من مناصب الدولة. فللاكراد وزراء ورئيس ببغداد وسفراء، بينما منطقة كردستان تبدو صافية للكرد فقط، كبرلمان وحكومة. حتى أخذ البعض يبالغ بالأمر، ويعلق بالقول: المطلوب استقلال العراق من كردستان، أو فصل العراق عن كردستان وليس العكس. عموماً، يشخص هذا الرأي، بغض النظر عن جديته، أن ما يناله الاكراد بالفيدرالية أو الحكم الذاتي يفوق ما سينالونه من الاستقلال عن العراق.

بعد هذا، ماذا عن جدية قيام دولة كردية في حال اندلاع حرب أهلية مفترضة بالعراق؟ بشكل عام تداخل الاكراد تاريخياً مع بقية الشعب العراقي، وكانت القضية الكردية قضية أساسية في سياسة الأحزاب العراقية الأخرى، وعلى وجه الخصوص الحزب الشيوعي العراقي، فقد طرح هذا الحزب منذ الثلاثينات من القرن الماضي، مطالب الاكراد القومية قبل الأحزاب الكردية بزمن طويل. وأخذت القضية الكردية طريقها في السياسة العراقية بشكل جدي، سواء كان ذلك زمن الحروب ضد ثوراتها، أو زمن محاولات التطبيع السلمية. ولم ينفرد الاكراد يوماً من الأيام عن المعارضة العراقية في كل أدوار الدولة العراقية: ملكية وجمهورية. وما تحقق، بعد سقوط النظام، من ثقل كردي ببغداد، في البرلمان والحكومة والنشاط العام، عبر عن ذلك التلازم في المعارضة العراقية ككل. بل يجد المعارضون لقيام دولة دينية، وتطبيق الشريعة نتيجة المد الديني، في القوى الكردية حصانة ضد تلك المشاريع، وأفقاً في تحقيق دولة مدنية، بمعنى أن الوجود الكردي فاعل ليس في المؤسسة الرسمية العراقية، بل في المجتمع العراقي. وبذلك يصعب عزل الكُرد عن العراق، نتيجة اندلاع حرب أهلية أو ما شابه ذلك. ذلك لأنهم جزء فعال في العملية السياسية، وفي حال الحرب، البعيدة الحصول، سيعود شرها عليهم أيضاً، ناهيك من شرها على البلدان المحيطة جغرافياً بالعراق.