الأراضي الفلسطينية .. اختبار المساعدات

يعتقد خبراء ووزراء من السلطة وقادة من «حماس» أن تأثير قطع المساعدات ربما يكون مبالغا فيه.. فهل هم على حق؟

TT

انتهى التسجيل للفصل الثاني في الجامعة الاسلامية بغزة، ولم يستطع محمد، 19 عاماً، التسجيل لهذا الفصل، لعدم قدرته على تسديد الرسوم الفصلية والتي تبلغ قيمتها 350 دولارا، إذ أن والده الذي يعمل مدرساً في إحدى المدارس الحكومية في المدينة، مثله مثل 115 الفا من موظفي دوائر السلطة الفلسطينية المدنية، ومنتسبي اجهزتها الأمنية، لم يتقاض راتبه لشهر يناير (كانون ثاني) الماضي، وذلك بسبب تأخر إسرائيل في تحويل المستحقات المالية للسلطة عليها، ولتردد معظم دول العالم في دفع المساعدات التي تعهدت بدفعها للسلطة، وبالذات تلك الدول التي كانت تواظب على دفع المستحقات للسلطة بانتظام. كل هذا حدث بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية وفوز حركة حماس الساحق فيها، وتهديد الكثير من الدول بقطع المساعدات نهائياً عن السلطة الفلسطينية، في حال شكلت «حماس» الحكومة الفلسطينية القادمة، من دون أن تعترف بإسرائيل وتوقف العمل المسلح. هذه الاجواء ضاعفت من الشعور بالقلق في أوساط عشرات الآلاف من الموظفين في دوائر السلطة وأسرهم من المستقبل، وما يلفه من غموض في حال طبقت هذه الدول تهديداتها. هذا الواقع يطرح العديد من الأسئلة حول الدور الذي تلعبه المساعدات الدولية والعربية في دعم الاقتصاد الفلسطيني، وهل بالامكان الاستغناء عن هذه المساعدات، وما رد حركة حماس على هذا التحدي الكبير? يقول وزير الاقتصاد الفلسطيني مازن سنقرط لـ«الشرق الاوسط»، إن ايرادات السلطة الفلسطينية السنوية تبلغ سنوياً حوالي 1600 مليون دولار، 800 مليون دولار منها عبارة عن مساعدات مقدمة من الدول الاوروبية واليايان والدول العربية واميركا. ويشير سنقرط، الى أنه باستثناء السعودية، وبدرجة اقل دولة قطر، فإن معظم الدول العربية لا تلتزم بتسديد المستحقات المالية، التي استعدت بدفعها للسلطة الفلسطينية في مؤتمرات القمم العربية، التي عقدت خلال العقد الأخير بانتظام. أما الإيرادات الذاتية للسلطة الفلسطينية، والتي تبلغ حوالي 800 مليون دولار، فتتمثل في عوائد الجمارك، التي تقوم اسرائيل بجبايتها باسم السلطة على البضائع الفلسطينية، التي تستورد عن طريق الموانئ الاسرائيلية. الى جانب عوائد الضرائب والجمارك التي تقوم السلطة بجبايتها بنفسها. ووفقا للارقام الرسمية، فإن الناتج الإجمالي المحلي الفلسطينى لا يتجاوز في أحسن الأحوال نسبة 35% ـ 40%، وهذا يعني بالضرورة وبلغة الأرقام ذاتها، أن هناك ما نسبته 60% ـ 65% من إجمالي الدخل الفلسطيني يعتمد على المصادر الخارجية التي تقدمها الدول المانحة. وتعتبر اميركا على رأس قائمة تلك الدول، التي قدمت وتقدم مساعدات مادية وعينية للفلسطينيين. وتقدر الإحصاءات أن تلك المساعدات بلغت 15% من مجموع ما تقدمه الدول المانحة وهي تتجاوز 75 مليون دولار سنويا. وتقوم الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالتنسيق مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي الفلسطينية باستثمار هذه الأموال في كافة المجالات والمرافق الحيوية منها: في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية ودعم القطاع الخاص وكذلك تطوير الموارد المائية، ومنها ما اتجه نحو تطوير مؤسسات السلطة والحكم والمجتمع المدني وتحسين أداء السلطة القضائية.

وعلى صعيد القطاع الصحي قدمت واشنطن 34.7 مليون دولار لمدة ثلاث سنوات (2001 ـ 2003) في مجال الرعاية الصحية الأولية. كما انصبت المعونات الأميركية في مجال التعليم العالي والتدريب بما عرف بمبادرة كلينتون. ولم يستثن برنامج المساعدات مجال الخدمات الاجتماعية كتقديم خدمات للتجمعات الفقيرة والمهمشة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى الإغاثة الطارئة والمساعدات الإنسانية التي قدمت من خلالها مساعدات عينية طبية وغذائية، وفي مقدمها دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي بلغ مقدارها منذ عام 2000 نحو 23 مليون دولار، وهى مساعدات قالت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، انها تفرق بينها وبين المساعدات التي تقدمها للسلطة الفلسطينية. من جهة أخرى، يعتبر الاتحاد الأوروبي أيضا، ممولا رئيسا لا يقل أهمية. وكانت دول الاتحاد قد ارتبطت مع السلطة الفلسطينية باتفاق الشراكة الذي أبرم في عام 1996 على أساس من مساواة الفلسطينيين ببقية شركاء الاتحاد لمنطقة المتوسط. وتقدر الهبات التي يقدمها الاتحاد بـ500 مليون يورو سنويا، غير ان غالبيتها العظمى لا تذهب للسلطة الفلسطينية، بل الى المنظمات الفلسطينية غير الحكومية. وتنصب المعونات الأوروبية بالدرجة الأولى على تمويل برامج الإصلاح والتي بلغت 70 مليون يورو. لكن هناك قطاع كبير من الخبراء المستقلين والسياسيين الفلسطينيين يشكك فى مقولة ان الغاء او تقليل المساعدات والمنح للسلطة الوطنية الفلسطينية، سيؤدي الى انهيار السلطة. وحول حجم المساعدات التى تقدمها اوروبا مثلا تقول آن هنيريكسين مديرة المكتب الاعلامي لمفوضية الاتحاد الأوروبي في القدس المحتلة، إنه خلال الأعوام الستة الماضية لم يكن التزام الاتحاد الاوروبي بدفع المساعدات المالية للسلطة بنفس الدرجة. ففي عام 2000 دفع الاتحاد الاوروبي مبلغ 225.86 مليون يورو، وفي عام 2001 دفع 149.43 مليون يورو فقط، وفي عام 2002 ارتفع المبلغ الى 326.66 مليون يورو، وفي عام 2003 انخفض المبلغ الى 263.56 مليون يورو، وفي عام 2004 تم دفع247.23 مليون يورو، وفي عام 2005 تم دفع 281 مليون يورو. والأرقام التي قدمها آن هنيركسين لا تثير الحماسة فى نفس الدكتور محمود الزهار، القيادي في حركة حماس والنائب المنتخب عنها في المجلس التشريعي. ويقول الزهار إن معظم هذه المساعدات هي مساعدات عينية، الى جانب أن الممولين الأوروبيين والأميركيين، يصرون على صرف هذه المساعدات بالطريقة التي يرونها مناسبة، وبدون أدنى اعتبارات لحاجة المجتمع الفلسطيني، مثل التركيز على برامج المرأة والديمقراطية وغيرها. ويضيف الزهار أن الذي جعل المجتمع الفلسطيني مرتبطا الى هذا القدر بالمساعدات الاجنبية، هو الفساد الاداري والمالي، الذي ينخر في مؤسسات السلطة الفلسطينية. ويضيف متسائلاً «ما فائدة المساعدات الاوروبية، اذا كانت نسبة كبيرة منها تأتي لتغطية مخصصات لوظائف وهمية؟». كما لا يتفق الكثيرين على ان غياب المساعدات الاميركية المحتمل، سيكون بذلك الوقع العنيف الذي يصوره البعض، ويقول رامي عبده الخبير الاقتصادي في البنك الدولي سابقاً ان المساعدات التي تقدمها اميركا تبلغ نحو 10% من قيمة المساعدات التي تصل للسلطة، ليس هذا فحسب، بل إنه يلفت النظر الى أنه باستثناء العام الماضي، فإن اميركا لم تحول الى خزانة السلطة اي دولار، بل كانت تحرص على تقديم المساعدات المالية الى المنظمات الأهلية العاملة في فلسطين، والتي تختص في تقديم برامج غير انمائية مثل برامج النهوض بالمرأة والتثقيف الديمقراطي وحقوق الانسان وغيرها من البرامج. وحول المساعدات الاوروبية، قال عبده إن نسبة كبيرة من المساعدات المالية الاوروبية ترجع للدول المانحة ثانية، بطريقة او بأخرى، حيث ان هذه الدول تشترط أن يتم استيعاب مستشارين من مواطنيها وتخصيص اموال كبيرة كرواتب لهم. ويربط عبده بين الفساد وضعف تأثير المساعدات المالية المقدمة من العالم. ويقول إن قيمة المساعدات المالية التي يحصل عليها الفرد الفلسطيني، هي اعلى نسبة في العام، حيث ان كل شخص يحصل على 350 دولارا، بحيث ان العائلة الفلسطينية تحصل على 3000 دولار سنوياً، غير انه استدرك قائلاً إن المواطن الفلسطيني لا يشعر بهذه المساعدات بسبب سوء ادارة المال العام من قبل السلطة وبسبب عدم استثمار الدول المانحة في المجالات الانمائية. وما يجعل الذي يشير اليه كل من عبده والزهار ذا مصداقية، هو حقيقة ما كشف عنه النائب العام الفلسطيني أحمد المغني في المؤتمر الصحافي، الذي عقده الاحد الماضي في مدينة غزة، حيث أكد أن المساعدات التي قدمتها الدول الاوروبية لم تنفق في وظائف وهمية فقط، بل ايضاً في مشاريع اقتصادية وهمية، لم يكن لها وجود على الأرض، مثل مشروع «الشرق الأوسط» للانابيب، الذي مولته الحكومة الايطالية، لكن بعد التحقيق تبين أن هذا المصنع لم يكن قائماً اصلاً. ويضيف المغني أن قضايا الفساد التي يحقق فيها مكتبه، كلفت السلطة 700 مليون دولار. لكن بالنسبة لعبده، فإن الذي يجعل التهديدات الاوروبية بقطع المساعدات عن السلطة عديمة جدوى، هو حقيقة أن هذه المساعدات قد توقفت عملياً في سبتمبر (ايلول) من العام الماضي، في اعقاب قيام السلطة بتطبيق قانون «الخدمة المدنية»، وزيادة رواتب منتسبي الاجهزة الامنية، مشيرا إلى أن هذا هو السبب الذي وقف وراء قيام وزير المالية الفلسطيني السابق سلام فياض استقالته من الحكومة الفلسطينية.

لكن هل ثمة بدائل اخرى امام حكومة «حماس» المقبلة؟ والوزير سنقرط يرفض الحديث عن بدائل اخرى غير مواصلة الدعم الدولي للسلطة، ويرى أنه لا يحق لاسرائيل واميركا واوروبا معاقبة الفلسطينيين على نتائج الانتخابات التشريعية. أما الزهار فيؤكد أن بعض الاطراف العربية اتصلت بالسلطة، وابدت استعدادها لتغطية العجز في موازنة السلطة. الشيخ محمد ابو طير، الذي احتل المكانة الثانية في قائمة «حماس» الانتخابية كان اكثر وضوحاً من الزهار، عندما قال إن إحدى الجهات العربية اتصلت بقيادة الحركة، وابلغتها أنها على استعداد لدفع 100 مليون دولار كدفعة الاولى لخزانة السلطة، بعد تولي حكومة «حماس» مقاليد الامور. والنائب عن الحركة عبد الجابر فقها، يؤكد أنه بسبب خوف اسرائيل والعالم من قيام ايران مثلا بملء الفراغ، فإن الأطراف الدولية والأقليمية ستفكر الف مرة، قبل قطع المساعدات عن الحكومة الجديدة. وماذا عن اسرائيل، اولا العلاقات الاقتصادية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية محكومة باتفاقية واضحة عرفت باسم «اتفاق باريس»، الذي وقعه الطرفان 1994 بعد شهور من التوقيع على اتفاقيات أوسلو. بموجب هذا الاتفاق تتولى اسرائيل مسؤولية جباية الرسوم الجمركية عن البضائع التي تستوردها السلطة الفلسطينية من الخارج عبر الموانئ الاسرائيلية الجوية والبحرية والبرية، وكذلك جباية رسوم التأمين الوطني التي تخصم من رواتب العمال الفلسطينيين الذين يعملون في اسرائيل. والمشكلة هي أن هذه المدفوعات باتت تشكل ما يعادل 37 % من الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية، أي ان غيابها يعني تكبير العجز في هذه الموازنة، وهو كبير في الأصل، بل مضاعفته. فإذا استمرت اسرائيل في حجب هذه المبالغ فإنها لا تتسبب في منع الرواتب عن موظفي السلطة فحسب بل تؤدي الى إفلاس السلطة وانهيارها تماما.

القضية هي أن تلك المدفوعات ليست البند الوحيد في العلاقات الاقتصادية بين اسرائيل والسلطة، ويقول شالوم هراري، أحد كبار المستشارين للشؤون الفلسطينية في وزارة الدفاع الاسرائيلية، والذي يواصل متابعة الأمور الفلسطينية من خلال موقعه كباحث في المعهد المتعدد الاتجاهات في هرتسليا لـ«الشرق الاوسط» ان «اسرائيل تزوّد السلطة الفلسطينية بالماء والكهرباء. تفتح الطريق للفلسطينيين لتصدير منتجاتهم واستيراد احتياجاتهم عبر موانئها ومعابرها الحدودية. تستورد للسوق الاسرائيلية الكثير من المنتجات الفلسطينية وتصدر للفلسطينيين الكثير من البضائع الاسرائيلية. تستوعب عمالا فلسطينيين بالألوف في المصانع والمشاغل الاسرائيلية (يقدر عددهم بسبعين ألفا، 35 ألفا من قطاع غزة سبعهم فقط يعملون بتصاريح و35 ألفا من الضفة الغربية، ربعهم بتصاريح)». ويضيف هراري «المصلحة الاسرائيلية تقضي بأن لا تسود لدى الفلسطينيين اوضاع متأزمة اقتصاديا، لأن ذلك سينفجر في وجهنا في النهاية». وبسبب فوز «حماس» لم يستبعد ان تقدم اسرائيل على خطوات عقابية ما، خاصة اذا ما تورطت «حماس» في اي عمليات عسكرية. والآن أمام حماس وإسرائيل والأوروبيين والأميركيين التفكير في كل المعطيات السابقة لتحديد ما إذا كان الضغط الاقتصادي على الفلسطينيين سيؤدي إلى تحقيق مصالح ما أم الى انفجار غير محسوب العواقب.

* المساعدات الأميركية منذ اتفاق أوسلو وحتي الآن بلغت 727 مليون دولار, تم توزيعها على مختلف القطاعات كالتالى:

1 ـ التنمية الاقتصادية ودعم القطاع الخاص - 60 مليون دولار ما بين (1994 ـ 2002) 2 ـ تطوير موارد المياه - 256 مليون دولار 3 ـ الديمقراطية والحكم - 120 مليون دولار 4 ـ الصحة - مشروع بقيمة 34.7 لمدة ثلاث سنوات من 2001 إلى 2003 5 ـ برنامج خدمات المجتمع - 65 مليون دولار 6 ـ الإغاثة الطارئة والمساعدات الإنسانية - مستلزمات طبية وأدوية بقيمة 29 مليون دولار 7 ـ برامج فرص عمل - 72 مليون دولار 8 ـ برامج الطوارئ من خلال المنظمات غير الحكومية - 24 مليون دولار 9 ـ دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين - 32 مليون دولار