ساعات في الظلام

لحظات تلفزيونية واقعية .. من الغرق والرصاص والأخطاء القاتلة

TT

كانت ليلة موحشة توحي بشرٍّ ما، فقد سبقها نهار مجنون. هذا مزار يُهدم وذاك مسجد يُحرق ولا أحد يدري في ماذا تنفخ النيران بعد. اتصالات اول المساء تروي لنا قصصا تبدو لنا كأنها من تاريخ رواندا لا العراق الجديد.

قتلى بالعشرات، وآخر يؤكد انهم بالمئات. ومهما كان احساسك بالخطأ والخطر إلا ان مكالمة هاتفية واحدة كافية لترجمتها من خبر الى مسألة شخصية. المتصل تحدث عن اختفاء زميلة لنا مع فريقها التلفزيوني. لنبحث ونطلب العون من كل من له يد هناك، كانت ردة فعل آلية سؤال الأمن والمكاتب السياسية المختلفة ووجهاء المنطقة. ورغم التأكيدات على انه يتم تمشيط المنطقة إلا ان احساسا تدعمه التجربة يدرك انه حتى اهل الأمن في غابة متوحشة كهذه ينشدون الأمن لأنفسهم.

عند منتصف الليل جاء اتصال جديد. نبأ سيئ آخر. عبّارة مصرية أخرى اختفت من شاشات رادارات موانئ البحر الأحمر. «هل هي مركب؟، لا، بل سفينة ضخمة على متنها اكثر من الف انسان». لم نقبل ان نذيع الخبرين لشكوك فيهما، تباطأنا عمدا مراعاة لمشاعر اهالي المعنيين سواء كانت الزميلة المجهولة المصير، أو من اجل آلاف الاقارب الذين لا بد انهم كانوا قلقين على مصير أحبتهم وينتظرون بفارغ الصبر وصول السفينة. انها حالات مؤلمة لا نستطيع ان نسابق بأخبار التلفزيون عواطف الأهل والاصدقاء مهما اعتدنا على اخبار الابادة والفقدان والظلم.

واحد في المائة من الشك كان كافيا للامتناع عن اذاعة خبر الكارثة لان الخطأ فيه يكسر النفس الى الأبد. لكن بدت الروايتان اصلب من ان يرقى الشك اليهما، فالزميلة كانت في منطقة خطرة والشاهد الوحيد الذي فر من الموقع أكد لنا الهجوم وسجل محضرا عند الشرطة. الخبر الثاني جاءنا مليئا بالتفاصيل، السفينة ابحرت في الثالثة واربعين دقيقة من بحر جدة متجهة نحو بور توفيق في السويس، وأكثر من مصدر اكد أن السفينة اختفت من شاشات الرادار منذ ساعات، وقد مضت عليها نحو عشرين ساعة في البحر ولم يبد لها أثر بعد. وآخر اكد لنا انه اتصل بها بلا مجيب.

الحكومة تؤكد وتناشد بألا نذيع الخبر فالسفينة في عرض البحر. مرت الدقائق بطيئة حتى الرابعة صباحا عندما ظهر صوت القبطان من هاتفه الفضائي. قال لزميلتنا في القاهرة اطمئنوا نحن بخير وفي خط ملاحنا الاعتيادي والسفينة في آخر الرحلة. اوشك الفجر ان يتبين وبقي مصير الزملاء المفقودين مجهولا على حدود سامراء حيث دبت الفوضى، وكثر القتل وغابت قوات الأمن، قيل لنا لم يعد ممكنا ان يمشطوا موقع الجريمة في الظلام وهناك ذئاب بشرية طليقة. عند الصباح تأكد الخبر ـ الفاجعة، قتل الثلاثة غدرا. جريمة عمياء نفذتها عقول مريضة. ساعات حزن حقيقية رغم كثرة القتلى والضحايا الابرياء في العراق التي تجعل نشرات الاخبار تبدو كمصلحة احصاءات للموتى. اشتعلت النيران في العراق حدا تعجل البعض معها فأعلن أنها الحرب الأهلية. في «العربية» لم نشأ ان نكون من يقرر الحروب لذا اخترنا ان ننأى عن التعليق فلا ننزلق وندفع الناس نحو الايمان بأن الحرب قد بدأت. وصارت التغطية التلفزيونية تدار، كما تحمل الأمتعة النووية، بحذر شديد. ورغم حظر التجوال في العاصمة العراقية قرر الزملاء ان يشيعوا جثمان زميلتهم التي تطوعت للذهاب الى هناك معتقدة ان سامرائيتها تمنحها الحصانة بعكس بقية الزملاء الذين أحجموا عن الذهاب. ونظام تغطية الحوادث ينصح ألا يذهب أحد الى أي مكان تُشَمُّ فيه رائحة خطر عليه. ورغم وضوح الخطر يظل عسيرا علينا ان نفسر جاذبية العمل الصحفي حتى الانتحار الا كمثل مغناطيسية الفراشات مع النار.

ورغم الحظر تجمهر الاهل والاصدقاء والزملاء وقرروا السير وراء الجنازة كونها الوداع الأخير الى أخطر مناطق بغداد، ابوغريب ومقبرة الكرخ، لأن الراحلة طلبت ان تدفن فيها. الجنازة زحفت كالسلحفاة نحو سبع ساعات، في طريق لا يستغرق عادة ساعة في اقصى اوقات الذروة. وشاء القدر أن تكون مسيرة جنازة الصحفية الراحلة واحدة من اغرب التغطيات التلفزيونية الحية على الهواء، او تلفزيون الواقع. كانت حدثا في حد ذاته جمع الناس حول الشاشة، وزميلها يصرخ مستنجدا بالأمن والدفاع والعشائر والدين والنخوة والأخلاق العربية متمنين على الذين يطلقون النار عدم التعرض لجنازة هدفها الأخير إكرام الميت بدفنه. مع هذا انهمر الرصاص وتحولت جنازتها الى معركة حية على الهواء بين رصاص وصراخ ونداء. وسارع سيد الحي الذي مرت به المسيرة الشيخ حارث الضاري الى الاتصال بـ«العربية» فورا معلنا ان بيته يتعرض أيضا للهجوم من قبل قوات الامن التي اقبلت تنوي شرا به، في وقت كان زميل ينقل لنا المشهد حيا لحظة بلحظة اعلن ان هناك من يهاجم الجنازة ويريد تصفية السائرين فيها. حيرتنا الروايتان. فالشيخ حارث يؤكد ان هجوما امنيا على منزله يريد خطفه او تصفيته، ومن في الجنازة يؤكد ان هناك من يهاجمهم. فيما بدا الوضع معقدا وخطيرا جدا، كانت الحقيقة بسيطة جدا. فلا القناصة ارادوا سوءا بالجنازة ومرافقيها ولا قوات الأمن جاءت لمداهمة بيت الشيخ وتصفيته. ظهر مستشار وزير الدفاع لاحقا ليعلن ان حراسات الشيخ شاهدت الجنازة عن بعد تتقدمها فرق أمنية فظنوها هجوما، فأمطروها بالرصاص. في حين ان رجال الأمن ظنوها غارة من جماعات مسلحة فبادروا باطلاق النار بدورهم، والخروج من الخط العام احتماء وليس بدافع الهجوم على بيت الضاري.

قصة غريبة تشرح لنا واقع العراق اليوم المليء بالشك وسوء الظن والخوف والاستعداد لاطلاق النار قبل اجراء مكالمة هاتفية لاكتشاف الحقيقة. القصة انتهت بنخوة من الشيخ الذي ارسل ابناءه مخاطرا بحياتهم الى المقبرة لمرافقة المشيعين، مؤكدا موقفه الايجابي، ومساهما في تأمين حياة المشيعين المحاصرين. كما ان رجال الأمن استمروا يخاطرون بحياتهم يحيطون بالموكب، رغم انهم فقدوا اثنين وأصيب العديد منهم. معركة الجنازة دللت على ان العراقيين يحتاجون اولا الى ان ينصتوا الى بعضهم ويطردوا من مجالسهم الشائعات والهواجس والتفاسير المضخمة. نعرف ان الموت حق، النهاية هي النهاية في حادث على طريق سريع، أو وسط حريق في مطبخ، او موت مرض. ومع انه الحقيقة الأكيدة الا ان وقع وفاة زميلتنا اطوار بهجت يوجع القلب، ونظل نردد «إنك ميت وإنهم ميتون».  

* مدير عام قناة «العربية» في دبي

** فقدت «العربية» في العراق منذ الغزو الاميركي في مارس (اذار) 2003 وحتى الان 11 صحافيا قتلوا خلال عملهم. اما الاحصائيات التي قدمتها لجنة حماية الصحافيين فتضمنت مقتل 64 صحافيا و23 عاملا إعلاميا في العراق، منذ مارس (اذار) 2003، وحتى الآن.