القصف «المقدس»

منذ الحروب الدينية في أوروبا والعالم يشهد هجمات على الأماكن الدينية المقدسة من المساجد إلى الكنائس

TT

قبل ست سنوات، هدمت حكومة طالبان معبدا بوذيا منحوتا في الصخر في باميان، وأثار ذلك ضجة عالمية لأن المعبد، بالإضافة الى أهميته الدينية، عملا فنيا لا يمكن أن يتكرر، وخلال الأسبوع الجاري شهد العراق عمليات تفجير استهدفت مراقد شيعية مقدسة في سمراء. واستهداف الأماكن الدينية المقدسة في زمن الاقتتال الداخلي أو الحروب الأهلية أو الحروب والصراعات، عموما ليس شيئا مستحدثا، فهي ظاهرة قديمة جدا، منتشرة في كل الاديان، وليست حكرا على دين دون الآخر. وفي غالبية حالات الاعتداء على الاماكن المقدسة في العالم، كان الذي يقوم بها غالبا، اتباع طائفة دينية اخرى مخالفة، يريدون ان يوصلوا رسالة مفادها أن طائفتهم أرقى وأعلى شأنا، وأن قصفهم وأن وحشى، الا انه مقدس. وخلال فترة الحروب الدينية في اوروبا في القرن السابع عشر دمر مسيحيون كنائس واديرة كثيرة، أو حولوها الى كنائس تتبع طوائفهم. فمثلا طاف، خلال القرن الثاني عشر في شمال ايطاليا وجنوب فرنسا، الداعية بيتر براي، وقاد حملة لتدمير الأديرة المسيحية. وقد حدث أن دمر متطرفون الكنائس في بريطانيا في كل الأزمات الكبرى، ومنها سنة 1570 عندما فصل بابا الفاتيكان الملكة اليزابيث الاولى، لأنها تحولت من كاثوليكية الى بروتستانتية، وكان الدافع ساعتها اعتقاد ان الكاثوليكية ارقى من البروتستانتية. وبعد ذلك بثلاثين سنة تقريبا، عندما حاول ارهابيون كاثوليك تدمير مبنى البرلمان. وقبل ذلك بثلاثين سنة تقريبا، عندما احتل البريطانيون ايرلندا الكاثوليكية. ثم عندما قسموها، في سنة 1921، الى شمالية بريطانية وجمهورية كاثوليكية، وحتى التوقيع على اتفاقية السلام في بلفاست قبل ثماني سنوات شهد ايضا الاعتداء على كنائس تتبع هذه الطائفة او تلك. وقد انتقل تدمير المسيحيين لكنائس بعضهم البعض الى اميركا. مثلما حدث، سنة 1835 في بوسطن، عندما حرق بروتستانتيون صومعة كاثوليكية بعد ان نشرت الراهبة ربيكا ريد كتابا عن احتجازها بالقوة داخل الصومعة. ورغم ان منظمة «كوكلس كلان» البيضاء المتطرفة اشتهرت بحرق السود في الماضي، لم يسلم الكاثوليك وكنائسهم من عنفها.

ومع أن القرن العشرين لم يشهد حروبا دينية عنيفة على غرار الحروب الدينية في اوروبا. الا ان القرن العشرين كان حافلا بالهجوم على اماكن دينية، سواء في اوروبا او في آسيا أو في منطقة الشرق الأوسط، أو أميركا الجنوبية، وكان الدافع لهذه الهجمات هي الاختلافات الثقافية والدينية، وايضا الخلافات السياسية. وشمل تدمير الاماكن المقدسة منطقة نزاع تاريخي ملتهب في شبه القارة الهندية، اذ لم تنه الحرب الاهلية التي قسمت شبه الجزيرة الى الهند وباكستان المشاكل الدينية بينهما. وزادت هذه بعد ديسمبر (كانون الاول) 1992 عندما دمر هندوس مسجد «بابري» في مدينة ايودا بالهند، وقالوا انه بني، في القرن السادس عشر، في مكان معبد جانماثان الذي كان بني لتخليد اله الهندوس (راما). وقد لعب لال كرشنا ادفاني، من قادة حزب «جاناتا» الهندوسي المتطرف، دورا كبيرا في حملة تدمير المسجد، وبناء معبد «ياثاياترا» الهندوسي مكانه. وكان الحزب الهندوسي سيطر على ولايات كثيرة في الهند، ثم على الحكومة المركزية وحل محل حزب المؤتمر المعتدل الذي حكم الهند منذ استقلالها، قبل ذلك بأكثر من اربعين سنة. وقبل التدمير بسنتين قاد أدفاني حملة طافت الهند، وعقد مؤتمرات اكاديمية لاثبات ان هناك معبدا هندوسيا تحت المسجد، وبدأ حملة لجمع حجارة المعبد الجديد على مسافة قريبة من المسجد. وفي الثاني من ديسمبر احتشد اكثر من مائتي الف هندوسي للاستماع الى خطاب ادفاني، ورغم ان الهجوم على المسجد بدأ عفويا بعد نهاية المهرجان، اثبتت تحقيقات في وقت لاحق ان ادفاني خطط مسبقا للهجوم. ورددت اوما فاراتي، من قائدات حزب جاناتا الهندوسي، شعارين في المكرفون «باسم الاله راما، سندمر مسجد بابري» و«دفعة واحدة الى الامام وندمر مسجد بابري».

بدأ الشغب قبل نهاية المهرجان، واشتبك هندوس مع مسلمين في المدينة، واحرقوا بعض منازلهم، وطلب هندوس معتدلين من قادة المهرجان تخفيض الاثارة خوفا من تدهور الموقف. لكن اوما فاراتي قالت لمراسل جريدة «تايمز اوف انديا»: «نعم، قال لنا ذلك هندوس محليون. لكني لم أوافق. قلت لهم: لا بد أن نحول المدينة الى فاتيكان للهندوس»، اكد هذا القول، في شهادات قانونية الى لجنة التحقيق فيما بعد، جفرسون بنبيثي، مراسل مجلة «تايم» الاميركية، ومارك تولي، مراسل «هيئة الاذاعة البريطانية». وحسب تقارير اخبارية يومية ارسلها تولي من المدينة، استمرت الفوضي يوما كاملا، وكرر الهندوس هتاف «عاش الاله رام»، وهجموا على مساجد اخرى، لكنهم ركزوا على بابري، ودمروه طوبة بعد طوبة بطريقة تبدو مخططة مسبقا. فقد كانت هناك مجموعات تدمر اعلى المسجد، ومجموعات تجمع الحجارة، ومجموعات تضعها في اكوام بعيدة. وحاول بعضهم بداية بناء المعبد في نفس الوقت، بالحجارة التي كانت جمعت في وقت سابق، لكن قادة المظاهرة قالوا ان يوم بناء المعبد لم يأت، وأنهم يحتاجون الى فتاوى دينية لتحديد يوم وطريقة بناء المعبد.

وتحدث الى الصحافيين قادة مسلمون وهندوس محليون، وقالوا ان «الاجانب» هم الذين سببوا المشاكل. وقالوا ان الطائفتين ظلتا تعيشان في سلام لمئات السنين. ونقل مراسل «هيئة الاذاعة البريطانية» على لسان مسؤول مسلم في المدينة ان المسلمين ساعدوا الهندوس في بناء معابدهم وفي نظافتها، وأنهم كانوا يزورونها ويضعون عقودا من الزهور على اعناق الالهة، دليلا على التسامح. انتشرت، بعد تدمير المسجد، مظاهرات في مدن هندية كثيرة، واشارت تعليقات الصحف الى ان التدمير كان نتيجة متوقعة لصعود حزب جاناثا الهندوسي الى الحكم. ايضا دمر، خلال السنوات القليلة الماضية، بوذيون في الصين وتايلاند وفيتنام كنائس هناك، لاعتقادهم بأن المسيحيين يشنون حربا ضد دينهم بالتبشير وسطهم. لكن تدمير الصينيين للكنائس يعود الى سنوات حرب «الافيون» وحرب «البوكس». حرب الافيون بدأت في سنة 1840 عندما غزا البريطانيون الصين، وكادوا يستولون على بكين. وبدأت حرب البوكس في سنة 1900 عندما تمرد الصينيون على النفوذ البريطاني في وطنهم. وكان الصينيون، في كل مرة، يحرقون الكنائس، ويقتلون اخوانهم من الصينيين الذين اعتنقوا المسيحية.

وقد اشتكت، في السنة الماضية، جمعيات مسيحية بأن صينيين دمروا كنائسهم هناك، بالتعاون مع مسؤوليين صينيين. وقال بيانهم إن «شريط الفيديو الذي وصلنا يدعو للفزع، لأنه صور كنائس تدمر بجرارات تابعة لحكومة الصين». واشتكت، في السنة الماضية ايضا، جمعيات مسيحية اميركية بأن مسؤوليين فيتناميين اشتركوا في تدمير كنيسة هناك. وجزء اساسي من استهداف الكنائس في الصين وفيتنام ليس عداء للمسيحية كدين، بقدر ما هو خوف من تأثير اعتناق الصينيين والفيتناميين للمسيحية، على تغيير الطريقة التي يفكرون بها، وعلى مستقبل ولائهم للحكومة الصينية «الشيوعية»، وربما تأثير اعتناقهم لدين مختلف على تزايد دعوتهم للديمقراطية وحقوق الانسان. وفي كثير من الحالات يغرى التنوع الديني في مجتمع ما، باستهداف الاماكن الدينية للطرف الآخر، فقد اوضحت احصائية لجمعية كندية تابعة للاقلية التاميلية في سريلانكا انه، خلال العشرين سنة الماضية، دمر عدد متساو تقريبا من المعابد الهندوسية والكنائس، وبلغ عددها نحو 500. وفي نهاية القرن العشرين شهدت حرب البلقان، ذات الطابع الديني، تدمير العشرات من الكنائس والمساجد. وقد نشر روي غوتمان، مراسل جريدة «نيوزداي» الاميركية الذي غطى حرب البلقان، وكتب كتاب «شاهد على الابادة»، أنه شاهد مساجد دمرت، مثلما نشرت، قبل سبع سنوات، مجلة «كريستيان توداي» على لسان بكيم خوجة، امام مسجد في كوسوفو قوله «دمر الصرب مسجدنا، ثم نسف رجالنا كنائسهم. بدأوا هم، ونحن ردينا عليهم».

ومع ان مصر لم تشهد حربا بين مسلمين ومسيحيين خلال سنوات المواجهة بين الدولة المصرية وبين الجماعات الاسلامية المتطرفة، الا ان الكثير من الكنائس تعرضت للهجوم على يد المتطرفين، وفي حالات رد المسيحيون على بعض الهجمات. كما تبادل مسلمون ومسيحيون، وخلال الحرب الاهلية في السودان، اتهامات تدمير اماكن عبادة الجانب الآخر. واشتكت، قبل اربع سنوات، منظمة مسيحية في الخرطوم من أن الحكومة الاسلامية هناك، دمرت كنائس في معسكر البركة، الذي تجمع فيه لاجئون من الجنوب. ايضا من ابرز حوادث الهجوم على الاماكن الدينية، حادثة اقتحام جهمان العتيبي للمسجد الحرام، بعد صلاة الفجر في غرة محرم 1400. وكما تعد المساجد والكنائس هدفا لهجمات المتطرفين، تعد المعابد اليهودية ايضا هدفا، فقد ضرب عام 1994 في بيونس ايرس بالارجنتين، معبد يهودي وتسبب ذلك في قتل 85 شخصا. كما استهدفت معابد يهودية في تونس والمغرب. وفي حالات تدمير الأماكن الدينية المقدسة، قد لا ينهدم غير المبنى، غير انه في حالات أخرى ينهدم مجتمع او لحمة اجتماعية وسياسية، وهذا هو السيناريو الاسوأ.