مقتدى الصدر: المطارد

«مربك الجميع» عانى طفولة صعبة.. يفضل الأفكار البسيطة ومظهره جزء من «بضاعته»

TT

منذ الأيام الأولى لعراق ما بعد صدام، اقتحم مقتدى الصدر المسرح العراقي بعنف باحثاً عن دور في الخريطة السياسية الجديدة، ومطالباً القوى الأخرى بالاعتراف به، متكئاً في سعيه هذا على رصيد عائلي وإرث شيعي غني بالشهداء، ومثير للعواطف والحماسة، فهو سليل أسرة مليء تاريخها بالأمجاد والمآسي معاً. لقد ترك أسلافه بصماتهم على صفحات الزمن الشيعي العراقي، اما «مقتولين»، ومن بينهم والده المرجع الأعلى الشهيد محمد صادق الصدر، وشقيقاه الكبيران مؤمل ومصطفى، الذين قتلوا على يد نظام صدام حسين 1999، واما «زاهدين ناسكين» أو «منتكسين صحيا» في رواية اخرى، مثل شقيقه مرتضى الذي نآى بنفسه بعيداً عن دائرة الضوء. أما مقتدى، الذي ولد في عام 1974، فقد عانى طفولة صعبة، فهو الابن الرابع لمحمد صادق الصدر، ومع انه اصغر الابناء الذكور، الا انه «وارث» المرجعية الصدرية و«حامل تركة» والده بعد اغتيال الاخوين الكبيرين، واعتكاف الثالث. وهو منذ صباه شاهد عيان على العنف والدم الذي دفعته اسرته، اذ بالاضافة الى رؤيته مقتل والده وشقيقيه، شهد وهو طفل تسلم والده جثتي السيد محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى اللذين قتلا ايضا على يد نظام صدام في ثمانينيات القرن الماضي. وبالاضافة الى هذا المشهد العام المظلم، فإنه من ناحية شخصية لم تكن علاقة مقتدى الصدر بوالده على احسن ما يرام، ويقال ان والده كان مشغولا عنه على الدوام، كما لم يكن يثق كثيرا بنضجه ولهذا لم يكن يصطحبه معه في جولاته، ولهذا ايضا لم يقتل مع من قتلوا 1999. كما يقال ان اخوته كانوا يتذمرون من تصرفاته «المتهورة». وعلى صعيد الدراسة لم يكن الصدر نابغا بشكل خاص، وهو ايضا لم يكمل دراسته الدينية. هذه الاحباطات والمعاناة العامة والشخصية فعلت فعلها في نفسه. فتطور لديه ميل للظهور والبروز والرغبة في تعميق حضوره العام، لكن ذلك ايضا توازى مع «الحذر» من الآخرين، وهما سمتان بارزتان في شخصيته. ينظر مقتدى إلى العالم بعينين «هاربتين»، نظرة خوف وكأنه رجل مطارد يتربص به الشر. والذين يعرفونه عن قرب لا يتوانون عن وصفه بأنه «عصبي المزاج»، يفضل الأفكار البسيطة والأجوبة الجاهزة، ويضايقه الكلام الصعب والمعقد على مسامع الناس، فهو في نظره ينطوي على الكثير من العجز. فيما رأى آخرون فيه «رجل غموض وألغاز»، يتصرف سراً ويحيط نفسه بالأحاجي. والصدر في كل هذا وسيم الطلعة يعتني بقيافته وهندامه، لكن ليس من باب الوجاهة كما قد يظن البعض للوهلة الأولى، بل من أجل تكريس صناعة «الرمز»، حيث باتت صوره تزين المحلات والمخازن والحسينيات وحتى الحافلات العامة. وبما أن الصور لوحدها لا تكفي لانتزاع الأدوار، فقد اندفع بقوة لحجز مقعد في مكان فارغ ليتسابق مع قوى سياسية أخرى حول تشكيل مستقبل العراق، وبدا باكراً أنه يطبق إستراتيجية «اختطاف المواقع»، اعتمادا على إرثه الشخصي والاسري، عوضاً عن «التنافس» مع الآخرين للفوز بها.

وقد أوحت ممارسات مقتدى الأولى بأنه قادر على أن «يخيف» أكثر مما هو قادر على أن «يقنع»، لكنه مع ذلك أظهر قدرة على الاستقطاب، ليس فقط من خلال إتقانه استعمال «سلاح الدين في السياسة»، بل لأنه بعث لدى شيعة العراق شعوراً برفض الاستكانة للأمر الواقع، وهي الصفة التي ميّزت بالإجمال التراث التاريخي لعلماء الشيعة ووضعتهم في موقع «شبه هامشي» على الخريطة السياسية العراقية. وقد أظهر الصدر قدرة على استقطاب ليس الناقمين والمهمشين فحسب، بل تسلل إلى تياره الباحثون عن فرصة «حماية» أو «استقواء»، ومن بينهم عناصر من نظام البعث، ومن ضباط أمنيين سابقين وأعضاء في الحزب المنحل لفوا رؤوسهم بأقمشة بيضاء وسوداء في مزيج فريد ومثير بين طلب الجنة ورقصة الأبالسة في الجحيم.

لقد بدا هذا الشاب المتعجّل وكأنه يندفع لتنفيذ «انقلاب» واسع داخل طائفته، بل ربما على المسرح العراقي برمته، حينما سعى إلى تمييز حوزته «الناطقة» عن مثيلتها «الصامتة»، مشددا على السعى إلى إقامة صرح «الجمهورية الإسلامية» في العراق، وهو تمييز يضرب بجذوره عميقاً في المؤسسة الدينية الشيعية، ويتجسد في الخلاف التقليدي الذي شهدته الساحة الشيعية العراقية في مطلع القرن الماضي بين علماء الدين ذوي الأصول العربية، مثل الصدر، ونظرائهم ذوي الأصول الفارسية مثل المرجعية العليا آية الله علي السيستاني، إلا أن هذه الاستعارة التاريخية بدت وكأنها أشبه بتحدي «طالب» في مقاعد الدراسة الأولية «لأستاذه». فالصدر الذي لم يكمل حتى دراسته الدينية لم يصل إلى مرتبة «المجتهد». ففي مراحل نشأته الأولى تلقى مقتدى معارفه الأولية على يد «كتاتيب» النجف بالرغم من وجود نظام تربوي حكومي عصري، لكنه سرعان ما التحق بالدراسة في «الحوزة العلمية»، إلا أنه لم يظهر مقدرة في استيعاب علوم اللغة والفقه الإسلامي، وبالتالي لم يصل إلى مرتبة المجتهد. وهو يعرف في الحوزة العلمية في النجف بأنه ليس أكثر من «طالب بحث خارجي»، وهو أمر لا ينفيه مقتدى نفسه الذي ظل يردد دائماً أنه «ليس مرجعية مقلدة»، بل «وكيل المرجع» آية الله كاظم الحائري المقيم في مدينة قم الإيرانية «تطبيقاً لوصية الوالد». بعبارة أخرى، يطمح مقتدى إلى القيام بدور شبيه بدور أبيه، مع علمه اليقين أنه لا يستطيع اختراق التراتبية الشيعية في النجف. إلا أن مقتدى لا يعوزه الطموح ولا العناد كي يفرض نفسه لاعباً بعد أن أنشأ مليشيا مسلحة أطلق عليها «جيش المهدي»، هذه المنظمة الشيعية ذات الطابع الاجتماعي ـ السياسي احتفلت بتخريج أول «كتيبة» في مدينة البصرة الجنوبية في أكتوبر (تشرين الأول) 2003. وقد أدرك مقتدى، ربما بغريزته، أن الفعالية السياسية لحركة ما تستند، من حيث الجوهر، الى قدرتها في تحريك «الحواس الشعبية» و«العصبية الطائفية» أكثر مما تقوم على «المنطق السياسي». وعلى الرغم من أنه لم يستوعب توظيف الروحانيات الشيعية إلا لماماً، إلا أنه مع ذلك لا يترك فرصة من غير أن يشير إلى آيات من التراث الشيعي المليء برائحة الدم وقوافل الشهداء، فهو استاذ في «لعبة الرموز» في السياسة. وبالرغم من ان الصدر ليس معروفا بالفصاحة الشديدة، على عكس رجال الدين الشيعة، الا انه دأب على إلقاء خطب نارية في صلاة الجمعة في مسجد الكوفة الشهير شخصياً حيناً وبالوكالة حيناً آخر، تتأرجح بين الديني والسياسي، كي يستمر جزءاً من مشكلة لا حل لها بدونه. ولهذا تميزت مواقفه السياسية بـ «الحرد» الدائم، الذي يتخفى بين ثنايا عموميات لا يصح أبداً وصفها بالبرنامج. وهو متصلب ومكابر، يبدأ خطاباته النارية دائماً بالرفض، ويلعب قصداً دور «الملهم» لمقاومة الاحتلال. الا انه ايضا متقلب في آرائه، والكثير منها «دعائي» بغرض تكريس نفسه كملهم لـ«مقاومة الاحتلال». ففي البداية ندد بمجلس الحكم الانتقالي لأنه، حسب رأيه، «غير شرعي»، وأعلن عن نيته تشكيل حكومة موازية للمجلس أطلق على تسميتها «حكومة الظل». كما هاجم «قانون إدارة الدولة المؤقت» واعتبره وثيقة غير شرعية كتبت «في غفلة من الزمن»، معلناً في إحدى خطبه أن هذا القانون «شبيه بوعد بلفور»، ويرى عدم شرعية الانتخابات «ما دام الاحتلال موجوداً»، لكنه في الوقت نفسه لا ينهي مريديه عن المشاركة فيها، بل دعا ذات مرة قوات التحالف الدولية الموجودة في العراق إلى الدخول في الإسلام «كحل للمشكلة». وقبل يومين دعا الى توحيد الوقفين السني والشيعي كوسيلة للحد من المواجهات بين السنة والشيعة، بالرغم من معرفته المؤكدة ان طرحا كهذا ما زال مبكرا جدا وبعيدا عن التحقق في المناخ السياسي العراقي الراهن. وهو تارة يدعو الى قتال الاميركيين، وتارة اخرى يعلن انه لا يمانع في التفاوض معهم. ومع انه لاعب اساسي في مداولات تشكيل الحكومة العراقية المقبلة (له اجمالا 32 مقعدا من مقاعد البرلمان، 30 في قائمة الائتلاف العراقي الموحد، و2 من «رساليون»)، الا ان مقربا منه قال لمجلة «تايم» الاميركية ان الصدر قال عن الحكومة عندما كان احد مساعديه يعطيه ملخصا حول مسار تشكيلها «فالتذهب الحكومة الى الجحيم». وقد وفر له غياب «سلطة مركزية» حقلاً مثالياً لتوسيع سلطته، وتعميق حضوره ليس بمدينة النجف وحدها فحسب، بل في مدينة الثورة (الصدر حالياً)، التي يسكنها ما يقارب المليوني شخص يعيشون في حالة من البؤس على أطراف بغداد، حيث باتت هذه المدينة «إمارة» طالبانية أخرى. فبالرغم من وجود المؤسسات الرسمية التابعة للدولة من شرطة وقوات الحرس الوطني، فقد تم التحول في هذه المدينة من حكم القانون المدني العراقي إلى حكم مليشيا «جيش المهدي» التي طورت مؤسساتها البلدية والثقافية والطبية والاجتماعية. ويحكم القضاة المعينون من قبل أتباع مقتدى في النزاعات بين سكان المدينة. وتقوم «لجان أمنية» بتنفيذ الأحكام بالقوة. ومع أن المحاكم الشرعية (القانون الإسلامي) اختيارية ظاهرياً، فان الواقع المعاش في مدينة الصدر كان يوحي بغير ذلك. وكجزء من «أسلمة» الحياة في مدينة الصدر، أصدر مقتدى أوامر بحظر بيع أجهزة الفيديو أو المشروبات الكحولية وإغلاق دور السينما حيث يتعرض منتهكو الأمر إلى الجلد العلني. ويقارن بعض المراقبين قضاة مقتدى الشباب بطلاب المدارس الدينية في باكستان الذين يصبحون نواة حكومة «طالبان» الأفغانية لاحقاً. وقد دفع تطرف ميليشيا «جيش المهدي» سكان مدينة كربلاء إلى الإعلان عن أن جماعة مقتدى «أسوأ من نظام صدام».

وبما أن شخصيته تربك الجميع، فقد تحول مقتدى الصدر الى «مشكلة» للحكومات العراقية، فهي لا تستطيع تلبية مطالبه، ولا تستطيع احتواءه، ويصعب عليها إقناعه أو على الأقل تنظيم الرقصة معه، فقد بات نفوذه المتصاعد تهديداً جدياً لهيبتها، بل تحول تهديداً يومياً كان لا بد من الاصطدام به.

كما تحول مقتدى الصدر الى مشكلة للقوات الأميركية خصوصاً مع تزايد الحديث عن خيط إيراني في تحركه، حيث أشارت تقارير إلى دعم إيراني لمليشيا «جيش المهدي» التابع لمقتدى الصدر، حيث تشير مصادر إلى أن نحو 800 ـ 1200 عنصر تلقوا تدريباتهم في 3 معسكرات أقيمت خصيصاً لهذا الغرض في منطقة «قصر شيرين» و«عيلام» المتاخمتين للحدود العراقية. وقدرت المصادر ذاتها أن مقتدى الصدر حصل على دعم مالي إيراني منتظم قدر بنحو 80 مليون دولار شهرياً، إضافة إلى تزويد عناصره بالمعدات الحربية اللازمة. هذا «المتمرد» اختار الدخول في مواجهة مع القوات الأميركية واضعاً مناصريه وجزءاً من الشيعة على خط التماس، متحصناً في الصحن الحيدري في النجف، لكنه مع ذلك تلقى ضربة عسكرية موجعة في أغسطس (آب) 2004، إلا أن الحكومة لم تستطع هضمه، فابتلاعه يكاد يصيبها بعسر الهضم. غير ان الصدر اثبت انه كما هو جزء من المشكلة، سيكون جزءا من اي حل في المستقبل، فلا حلَّ مرجحاً لمشاكل العراق بدون تعاونه ودوره. وحتى الان، لم يفوت مقتدى الصدر أي فرصة لإضاعة الفرصة، ويبدو أنه بات يستمتع بدور المتمرد على السلطة، الدور الذي برغم ما ينطوي على مضامين سلبية، إلا أنه يجلب له استقطاباً شعبياً باستمرار، وهو في أغلب الظن زاده الوحيد.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا