قوة الكلمة .. والقانون

قاوم البنتاغون كشف أسماء سجناء غوانتانامو.. لكن شعار «الأسوشييتد برس» كان: يريد المعتقلون أن يعرف العالم أنهم معتقلون.. فكيف نجحت؟

TT

طوال نحو 4 سنوات، دعت العشرات من الحكومات الغربية، ومنظمات حقوق الانسان الاميركية والدولية ومنظمات الحقوق المدنية، الادارة الاميركية للكشف عن اسماء مئات المعتقلين في معسكر «غوانتانامو» في كوبا. والاسبوع الماضي فقط اضطرت وزارة الدفاع الاميركية «البنتاغون» إلى الكشف عن اسماء المعتقلين بأمر قضائي في قضية رفعتها وكالة انباء «اسوشييتد برس» الاميركية ضد البنتاغون بموجب «قانون جونسون» حول حرية تداول المعلومات. فكيف فعلتها الاسوشييتد برس؟ وما هي الأسس القانونية التي استند اليها محامي الوكالة والقاضي في القضية، وهل هناك سوابق تاريخية مماثلة؟ ومن هو الصحافي الذي بدأ الموضوع؟ تبدأ القصة عندما اقترحت بيسلي دودز، مراسلة وكالة اسوشييتدبرس برس في سان وان، عاصمة بورتوريكو (جزيرة في البحر الكاريبي تابعة للولايات المتحدة)، قبل عام ونصف العام، ارسال خطاب الى البنتاغون تطلب فيه كشف اسماء أكثر من 500 معتقل في غوانتانامو، القاعدة العسكرية الاميركية في كوبا. وكانت رئاسة وكالة اسوشييتد برس في نيويورك كلفتها بتغطية اخبار غوانتانامو، بسبب قربها من جزيرة بورتريكو. وتقول بيسلي انها اقدمت على هذه الخطوة لأن أي صحافي اميركي يقدر على طلب أية معلومة من أية وزارة اميركية حسب «قانون حرية المعلومات»، الذي اصدره الكونغرس، ووقع عليه، سنة 1966، الرئيس لنيدون جونسون، ويعرف بـ«قانون جونسون». وربما ما كان «قانون جونسون» سيصدر بهذه الطريقة، اذا تأخر ثلاث او اربع سنوات، وذلك لأنه صدر مع بداية حرب فيتنام، وقبل تورط القوات العسكرية الاميركية هناك. وعندما تورطت، عرقلت تغطية الصحافيين للحرب، وخاصة حرق القرى الفيتنامية بمن فيها. وحتى اليوم، يعتبر كثير من العسكريين الاميركيين ان الصحافيين الاميركيين مسؤولون عن هزيمتهم في فيتنام، لأنهم كشفوا معلومات افادت «العدو». ويشيرون، كمثال، الى «اوراق البنتاغون» السرية التي كتبها عسكريون في ذلك الوقت، واعترفوا فيها بتورطهم، وحصلت عليها جريدة «نيويورك تايمز»، ونشرتها. ولهذا تعتبر «اوراق البنتاغون» بداية نهاية حرب فيتنام، لأنها اججت الاحتجاجات الشعبية ضد الحرب. اما قانون جونسون ذاته الذي كان «العمود الفقري» الذي استخدمته الاسوشييتدبرس في قضيتها في البنتاغون، فهو «حجز الزاوية» في قوانين حرية الصحافة في اميركا، واستخدامه ليس حكرا على الصحافيين، اذ يمكن لأي مواطن عادي ان يستخدمه لاجبار أي من الوزارات الفيدرالية على الكشف عن معلومات سرية. وقد أصدر مركز وثائق الأمن القومي، في جامعة «جورج واشنطن» في واشنطن العاصمة مؤخرا تقريرا قال فيه ان الأميركيين، صحافيين وخبراء واساتذة جامعات ومواطنين عاديين، يقدمون، كل سنة حسب القانون، في المتوسط مليوني طلب الى مختلف الوزارات والمؤسسات الفدرالية بحسب قانون جونسون، طالبين الكشف عن معلومات معينة في الوثائق الحكومية. (لا يشمل القانون القطاع الخاص، ولا المسؤولين المنتخبين، مثل رئيس الجمهورية واعضاء الكونغرس). لكن تقرير المركز قال إن ادارة الرئيس جورج بوش، وخاصة بعد هجوم 11 سبتمبر (ايلول)، زادت رفض طلبات الكشف عن الوثائق، بحجة تأثير الكشف السلبي على الأمن القومي الاميركي. واتفق مع المركز في هذا الرأي بيل مويار، المعلق التلفزيوني، والذي كان ايضا المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض، عندما صدر «قانون جونسون». وقال مويار، مؤخرا: «انا كنت هناك عندما وقع جونسون على القانون، لكن ما لا يعرف الناس هو ان جونسون اضطر لأن يوقع عليه، لأنه خاف من استغلال الصحافيين له لكشف اخطاء حرب فيتنام». وأضاف مويار «اذا كان جونسون وافق عليه مضطرا، فلا بد أن بوش يتمنى لو لم يوافق عليه جونسون ابدا».

ويستخدم الصحافيون وغيرهم قانون جونسون ليس فقط في قضايا الأمن الحساسة، فمثلا استخدمته صحيفة «نيويورك تايمز» في 10 اكتوبر (تشرين الأول) 2003 للكشف عن وثيقة حول ان شركات ذبح الابقار لا تقدر علي مراقبة ادائها، وان لحوما فاسدة تخرج من المسالخ. كما استخدمته صحيفة «اوريغونيان» في 16 سبتمبر 2003 للكشف عن وثيقة حول تقصير في اجراءات حماية العاملين في مفاعل هانفورد النووي، وصحيفة «اورلاندو سنتنال» في 24 يوليو (تموز) 2003 للكشف عن وثيقة حول ان وكالة الفضاء الاميركية (ناسا)، عرفت اخطاء فنية في مكوك الفضاء قبل ان ينفجر، وصحيفة «دسترت نيوز» في 21 أغسطس (آب) 2004، للكشف عن وثيقة حول اخطاء في اصدار بطاقات دخول 13 قاعدة عسكرية، واستخدمت صحيفة «هيوستن كرونيكل» القانون نفسه في 21 ابريل (نيسان) 2005 للكشف عن وثيقة حول ان نائب الرئيس ديك شيني، قبل هجوم 11 سبتمبر، اشترك في نقاش عن السيطرة على بترول العراق. أما صحافية وكالة الاسوشييتد برس بيسلي دودز«التي تشغل حاليا منصب مديرة مكتب الأسوشييتد برس في لندن» فقالت لـ«الشرق الاوسط»، إن «أي صحافي يقدر على ان يكتب خطابا الى وزارة الدفاع، أو أي وزارة اميركية اخرى، للحصول على وثائق ومعلومات رسمية، حسب قانون حرية المعلومات». وأوضحت ان محامي الوكالة في نيويورك هم الذين ارسلوا الطلب. وبعد 4 سنوات من التحدي والرفض والمماطلة اضطر العسكريون الاميركيون الاسبوع الماضي، لكشف اسماء المعتقلين. لكن بيسلي قالت انها لا تريد التعليق على «انتصارها» على جنرالات البنتاغون، وطلبت الاتصال برؤسائها في نيويورك ليعلقوا.

وقال ديفيد توملين، محامي وكالة اسوشييتدبرس الذي تابع القضية من نيويورك، الـ«الشرق الاوسط»: «نحن، طبعا، نحس بالرضى. نحن لم نفعل اكثر من ان قمنا بواجبنا، وهو اطلاع الشعب الاميركي على معلومات تهمه. هذه الاسماء كان يجب ان تنشر منذ وقت طويل». لكنه قال ان العسكريين لا يزالون يماطلون، لأنهم نشروا الاسماء كجزء من تقرير، مما يعرقل حصرها، بدلا من نشرها في قائمة واضحة ومسلسلة. وأضاف أن الحملة ضد العسكريين مستمرة، وأن «هذه ليس نهاية القضية».

لكن انتصار بيسلي ووكالة الاسوشييتدبرس هذا الاسبوع على الجنرالات الاميركيين ليس الاول. فالانتصار الاول حدث قبل عام عندما اضطرت وزارة الدفاع لنشر تقرير سري حول المعاملة في غوانتانامو، لكن بدون الاسماء (شطبوا كل اسم). وأثارت بيسلي في تقريرها حول المعاملة في غوانتانامو صدمة العالم، عندما نشرت معلومات من التقرير عن طريقة معاملة المعتقلين. وكشفت عن استعمال الجنس لأغراء المعتقلين في غوانتانامو، منها حادثتان: الاولى عندما ارتدت محققة اميركية فستانا قصيرا، الثاني عندما خلعت محققة اميركية لباسها العسكري امام معتقل سعودي. ورغم أن التقرير الذي صدر ونشر في مايو (ايار) الماضي سبب ضجة عالمية، الا ان بيسلي صممت على انه ليس كاملا لأنه شطب اسماء المعتقلين. وطلبت من رؤسائها في نيويورك، رفع قضية اخرى لكشف الاسماء المعتقلين. لكن بيسلي لم تكن الوحيدة في القضية التي تم رفعها في يونيو (حزيران)، اذ قام شخصان بأدوار رئيسية. الاول هو ديفيد توملين، محامي وكالة اسوشييتدبرس، الذي رفع القضايا، وواجه دعاوي الحكومة، وقدم الاستئنافات. وكرر، منذ البداية جملة شهيرة «يريد المعتقلون ان يعرف العالم انهم معتقلون. وقال ان اعتقالهم يجب الا يكون سرا. لكن الحكومة تقول انها احرص على سرية من لا يريد ان يكون سرا».

اما الشخص الثاني فهو جيد راكوف، قاضي المحكمة الفيدرالية في نيويورك، الذي تحدى الحكومة مرتين: عندما انحاز الى جانب محامي اسوشييتدبرس. وعندما واجه اتهامات مباشرة وغير مباشرة من الحكومة بأن اصراره على نشر اسماء المعتقلين «يعرقل الحرب ضد الارهاب».

وطلب القاضي من محامي الحكومة تفسير رفض نشر الاسماء. ورد المحامي، في اغسطس، بأن «لا بد من وضع اعتبار لسرية وخصوصية المعتقلين». وأضاف ان «نشر الاسماء سيعرض عائلات المعتقلين واصدقاءهم ومعارفهم للاحراج والانتقام». وقال القاضي إنه لا يثق في رد الحكومة، وامر العسكريين، عن طريق محامي الحكومة، بأن يسألوا المعتقلين، واحدا واحدا، اذا كانوا يريدون نشر اسمائهم. ورد العسكريون، في اكتوبر (تشرين الاول)، بأنهم سألوا المعتقلين، لكن العسكريين قدموا الارقام الآتية: من بين 558 معتقلا، تسلم 317 اوراق السؤال، واجاب 63 بـ«نعم»، وأجاب 17 بـ«لا»، واعاد 35 الاوراق بدون اجابات عليها، ورفض 202 اعادة الاوراق.

وانتقد القاضي محامي الحكومة، ورفض رد العسكريين لسببين: اولا، لأن ارقام العسكرييين غريبة ومتناقضة، ولا تشمل كل المعتقلين، ولا توضح لماذا لم يوزع السؤال على كل معتقل، ولماذا رفض بعض الذين وزع عليهم السؤال اعادة الاوراق. ثانيا، لأن العسكريين قالوا ان كثيرا من المعتقلين لا يريدون اسماءهم «حتى لا تتعرض عائلاتهم واصدقاؤهم ومعارفهم للاحراج والانتقام». لكن العسكريين كانوا يكررون، لأربع سنوات، ان نشر الاسماء «سيهدد الامن القومي الاميركي». وجاء هذه المرة تفسير ثالث، وهو ان «سؤال القاضي للمعتقلين مباشرة، وهم في سجن عسكري، يتخطى مسئولية رئيس الجمهورية الدستورية كقائد اعلى للقوات المسلحة».

وعلق قانونيون ومراقبون على هذا التفسير الثالث، وقالوا ان الهدف منه ليس قانونيا فقط، ولكن سياسي ايضا، وقالوا ان الحكومة تعمدت الاساءة الى القاضي. وتوقع بعض هؤلاء ان تصعد الحكومة حملتها ضد القاضي، وذلك بتسريب معلومات تؤذيه او تقلل من نزاهته. لكن هؤلاء حذروا الحكومة من شيئين: اولا، من تحويل قضية قانونية الى موضوع سياسي.

ثانيا، من ان القاضي يتبع قرارا اصدرته المحكمة العليا قبل سنتين، وذلك فى اشارة الى القرار الذي اوضح ان «المحاكم الفيدرالية تملك حقا قانونيا للاستماع الى معارضة لقانونية وشرعية اعتقال مسلحين اعداء» في غوانتانامو. وأوضح القرار ان القانون العسكري نفسه يدعو الى ذلك، مثل قانون الجيش رقم 190. لهذا رد القاضي على محامي الحكومة بالقول بأن قرار المحكمة العليا، قبل سنتين، يعطي المعتقلين حق رفض سبب اعتقالهم (اي ان المحكمة العليا لم تعترض على اعتقال المعتقلين، لكنها اعترضت على منعهم من المثول امام محكمة ليسالوا عن سبب اعتقالهم).

واخيرا، بعد جدل استمر سنة ونصف سنة، وفي فبراير (شباط) الماضي، اصدر القاضي امرا اخيرا لمحامي الحكومة بإبلاغ العسكريين بالاسراع بتسليم الاسماء الى اسوشييتدبرس. واضطر العسكريون، في الاسبوع الماضي، لاطاعة امر القاضي، ولكن بنفس طريقة المماطلة السابقة، وذلك لأنهم، بدلا عن تقديم قائمة بأسماء المعتقلين، قدموا تقريرا عملاقا من خمسة آلاف صفحة، فيه اسماء 317 من المعتقلين، موزعة داخل التقرير حسب الشهادات التي قدموها. لماذاّ؟ لأن هذا هو عدد المعتقلين الذين مثلوا امام محكمة عسكرية في غوانتانامو، وقدموا شهاداتهم (لأول مرة منذ اعتقالهم). اي ان الاسماء ليست كاملة. هذا بالاضافة الى ان الاسماء موزعة داخل هذا التقرير العملاق المليء بالشهادات والوثائق، ولا بد من البحث جيدا قبل العثور على كل الاسماء الورادة فيه. ولهذا قال ديفيد توملين، محامي وكالة اسوشييتدبرس، لـ«الشرق الاوسط» «هذه ليست نهاية القضية».

* قانون جونسون > قانون حرية المعلومات، او قانون جونسون، الذي صدر في 1966، قانون فدرالي اصدره الكونغرس لتأكيد حق المواطنين في الحصول على وثائق ومعلومات حكومية. ورقم القانون هو 522 في قائمة القوانين الفدرالية الاميركية.

> ينص القانون على ان «اي شخص» يستطيع الحصول على هذه المعلومات، بما في ذلك المواطنون الاميركيون، والمواطنون الاجانب، والمنظمات، والاتحادات والجامعات.

> يشمل القانون الجهاز التنفيذي، والوكالات والمؤسسات الفدرالية، والكونغرس، والمحاكم الفدرالية، والجناح التنفيذي لرئيس الجمهورية (وليس المساعدين والمستشارين).

> تشمل الوثائق والمعلومات اي مواد مطبوعة، او مكتوبة، او مصورة، او اي شريط سينمائي، او شريط فيديو، او بريد مكتوب، او بريد الكتروني، او خرائط او رسوم.

> توفر الوزارات والمؤسسات الفدرالية مكاتب ووسائل لحفظ هذه المعلومات، لتلبية طلبات المواطنين والمؤسسات، ولارشادهم عن كيفية تقديم طلباتهم. ويجب ان ترتب هذه المعلومات وتنظم حسب تواريخها او عناوينها او مواضيعها لتسهيل طلبها.

> يستثني القانون من الكشف معلومات الامن القومي، والقوانين الداخلية للوزارت والمؤسسات، ومواضيع داخلية غير مهمة، والمؤسسات الحكومية المالية.

> لا بد ان ترد الوزارات والمؤسسات على اصحاب الطلبات بأنها تسلمت طلباتهم، وانها ستعمل على تلبيتها بأسرع فرصة ممكنة (تقدم الطلبات، عادة عن طريق محامين).

> يحق لمقدم كل طلب ان يستأنف، اذا رفض طلبه، وان يلجأ الى نائب دائرته الانتخابية، او الى السناتور الذي يمثل ولايته، و «اذا فشلت كل هذه الوسائل يحق له ان يلجأ الى القضاء لاجبار الوزارة او المؤسسة الفدرالية على تنفيذ هذا القانون».