يوم في حياتي

رقية الصومالية تروي لـ الشرق الاوسط كيف تعيش على نحو دولار في اليوم

TT

«رقية» 31 عاما ربة أسرة من 4 أطفال (بنت وثلاثة أبناء) تيتموا قبل 3 سنوات بسبب الحروب القبيلة، التي تجتاح الصومال، وكانت هذه الأسرة الصغيرة تسكن في قرية ريفية تبعد نحو 100 كم عن العاصمة مقديشو، عندما نُعي اليها زوجها في حادث ثأر قبلي بين عشيرتين رعويتين في المنطقة. هاجرت بأطفالها الأربعة الذين كان أصغرهم رضيعا في المهد، بعد أن فقدت المعيل وتقطعت بها السبل في بيئة لا ترحم ولم يترك لها زوجها، الذي كان يعمل عامل مطعم في القرية أي ثروة لها ولأطفالها. قررت رقية أن تلجأ الى مقديشو علها تجد عملا ما، لإطعام أطفالها الصغار، لكن المهمة لم تكن سهلة، ففي مقديشو لم تتمكن من توفير الطعام، فضلا عن الحصول على بيت او غرفة تسكنها، فاهتدت عن طريق أحدى معارفها الى مخيم في إحدى ضواحي مقديشو كان تابعا للجيش الصومالي سابقا، لكنه تحول الى مأوى للنازحين أمثالها. وأخيرا وجدت رقية عملا ولكنه عمل شاق، وهو العمل كحمّالة في سوق الـ«بكارو» أكبر الأسواق الشعبية بالعاصمة، حيث يعمل كثير من السيدات «حمالات» لنقل امتعة المتسوقين الى محطات حافلات النقل القريبة من السوق.

وتروي رقية لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل حياتها اليومية بين خيمتها المصنوعة من العيدان والكراتين والبلاستيك وسوق البكارو المزدحم، تقول «أعد طعام الإفطار (العنجيلو) ـ رقائق مصنوعة من الدقيق، يضاف اليها الشاي والزيت كإدام ـ ثم آخذ سلتي هذه (تشير الى سلة مصنوعة من الخوص لنقل الأمتعة على ظهرها)، وأذهب الى السوق ثم أقوم بحمل أغراض المتسوقين لإيصالها الى سيارات النقل التي تقف بعيدة عن السوق، وأتقاضي عن ذلك أجرا زهيدا، لكنه بحمد الله يوفر وجبتين لأولادي». وتكسب رقية ما بين 15000 ـ 20000 شلن (الدولار = 13000 شلن صومالي)، من خلال 5 الى7 نوبات حمل لأغراض المتسوقين، اذ تربط السلة من طرفيها بحبل طويل حيث تضع منتصف الحبل على رأسها لتستقر الحمولة على ظهرها، ثم تسير وراء صاحب الأغراض حتى الوصول الى محطة الحافلات. وتحكي رقية عن كيفية الحصول على الزبائن لحمل الأمتعة، فتقول ان كل «حمّالة» تتفاهم مع 3 أو 4 من أصحاب المحلات في السوق، وتتوسل اليهم أن يدعوها عندما يشتري زبائنهم أغراضا منهم، و«هكذا نجلس قرب المحلات لننتظر النداء من صاحب المحل، وأحيانا نتفق رأسا مع المتسوقين (والسيدات خاصة)، بأننا سنحمل لهن ما يشترينه ونرافقهن أثناء فترة التسوق، ثم عندما ينهي التسوق نحمل أغراضهن لغاية موقف الحافلات». وتقول «رقية» انها لم تدخل مدرسة أبدا، وكانت فقط ربة أطفال تتنظر ما يعود به زوجها في آخر اليوم من عمله في مطعم القرية، وكانت تعيش عيشة الكفاف، ولكنها كانت مطمئنة الي أن زوجها الشاب قادر علي إعالة الأسرة على الرغم من البطالة السائدة، لكن وفاة زوجها ألقت كل العبء عليها الآن.

اطفال رقية لا يعرفون ما الذي تفعله والدتهم طول اليوم، لكنهم يتهافتون على السلة التي تحملها عندما تعود الى المنزل (الكوخ) في آخر اليوم، ليعرفوا ماذا ستطبخ لهم الماما عشاء، وهم الذين لم يذوقوا طعاما بعد الفطور. العشاء غالبا يتكون من الخبز واللحم (أرخص طعام في الصومال نتيجة كثرة المواشي فيها) أو الفاصوليا مخلوطة بزيت السمسم.

تتجه رقية الى المطبخ بمساعدة ابنتها الكبيرة «بولو» «9 أعوام» لإعداد العشاء، والمطبخ عبارة عن ثلاث أثافي (3 أحجار توضع على الأرض على شكل مثلث، لتكون قاعدة للقِدر أو الإبريق وتوضع الأخشاب بينها، ثم توقد لطهي الطعام، ويستخدم غالبا في الريف أو لدى الأسر الفقيرة). ولا تستطيع الأسرة توفير الفحم النباتي (وقود الطبخ الوحيد في الصومال)، ولذلك يذهب الأطفال إلى الأحراش القريبة لالتقاط الأخشاب الجافة، عندما يجلبون العصي الخفيفة للمعلمين (لتأديب أطفال الخلاوي أو الكتاتيب)، وتستخدم هذه الأخشاب كوقود للطبخ.

تقول رقية إنها لا تستطيع إرسال أطفالها الى المدرسة، لأنها لا تقدر على دفع الرسوم، ولا توجد مدارس حكومية مجانية منذ 15 عاما، وتعد نفسها محظوظة لأن أحد المعلمين في الخلاوي القرآنية في المخيم، قبل منها رجاءها أن يضم أحد أطفالها الى الخلوة ليتعلم القرأن الكريم، وفك الخط دون مقابل بعد أن عرف بأنه يتيم.

أما منزل الأسرة فهو عبارة عن كوخ مصنوع من العيدان والكراتين وكذلك البلاستيك وهي مواد وزرعتها بعض المنظمات الخيرية، وبداخله لا توجد أسرّة، فالأولاد ينامون على أوراق الكرتون التي جلبتها رقية من السوق، بعد أن نفذت الأشياء التي كانت معبأة فيها، كما أعطاها أحد أصحاب المحلات كراتين لترميها خارج دكانه، لكنها فككتها لتحولها الى فراش لأولادها.

المياه تجلبها ابنتها الكبيرة ذات التسعة أعوام من بئر قريبة من المخيم، تأخذ أوعية زيت الطعام الفارغة من سعة 3 لترات وتملؤها ماء ثم تحملها الى البيت وتفرغها في جركانة بجنب الكوخ سعتها 20 لترا تستخدم للطبخ وغسل أدوات الطعام، وكذلك لغسل الملابس التي تقول عنها رقية بأنها تشتريها من محلات الـ«هوطي» (الثياب المستعملة التي تستورد من الخارج، وهي رخيصة الثمن)، قليل من المواعين(أواني الطعام) مبعثرة هنا وهناك، وتقول رقية انها اشترت بعضها والعض الآخر من بعض المنظمات الخيرية.

ليس للترف مكان في كوخ رقية (يقدر عدد سكان الأكواخ حول وداخل العاصمة بنصف مليون نسمة)، فكل شيء اقتصادي هنا إجبارا، وبعض الجيران يعتبرون شراء كرة للأطفال ترفا، فكرة لعب أطفال المخيم تصنع يدويا من الأسمال، التي يتم حشوها داخل كيس، وتكوّر ثم يتقاذفها الأطفال ويلعبون بها، واقدام الكثير منهم لم تعرف الأحذية بعد، لأنها غالية وأثناء اللعب بهذه الكرة «البيتية» لا تفارق البسمة وجوههم على الرغم من شظف العيش، الذي يعيشون فيه.

والذهاب الى المستشفى في عرف وتجربة رقية وجيرانها في المخيم، غير معروف أو بالأحرى غير متاح، فالمقادير هي التي تتولى صحة الأطفال والكبار دون تدخل من طبيب معالج. وفي حالة المرض فالمتاح هو ماء الـ«تهليل» الذي يجلب من الدكسي (الخلوة القرآنية)، حيث يتلو المعلم وأطفال الخلوة آيات قرآنية على ماء في كوب وبعدها يتناولها المريض، وأحيانا يكون المريض محظوظا، عندما يزور المخيم أحد الأطباء لمعاينة سريعة، ولكنها فرص نادرة، فقط الدواء المتداول هو أقراص البراستامول أو الأسبرين المسكن للآلام. تحلم الأم الصومالية رقية بتحقيق آمال تعتبرها كبيرة، لكنها بسيطة عند مثيلاتها في أي بلد آخر، وهو أن يذهب أطفالها الى المدرسة، وأن يكمل طفلها أحمد، 7 أعوام، القرآن الكريم في الخلوة، مع أنها اعتادت حياة القرية وتفضلها على الحياة في مخيم قرب العاصمة، لكنها لا تقدر على ذلك، لأنه لا عائل لها هناك. وتتمنى رقية كذلك أن يتيح لها عملها كـ«حمّالة» في السوق أن توفر أجرة غرفة صغيرة داخل المدينة، تجعلها قريبة من مكان عملها «سوق البكاروط، على أمل أن يريحها ذلك من عناء المشي على الأقدام من المخيم الى السوق والعكس. لكن ثمن إيجار الغرفة التي تتمناها يصل الى 15 دولارا في الشهر أي نصف ما تكسبه شهريا كما أنها أيضا قلقة في حال الحصول علي هذا المبلغ والانتقال من المخيم على مصير ابنها «أحمد»، الذي يتعلم القرآن الكريم مجانا بفضل معلم رحيم.