الجمرة التي تحرق آشول

أم سودانية تروي صعوبة العيش على مساعدات الآخرين

TT

«ااا ه»، هكذا خرجت الآه طويلة من جوف اشول توج، وهي تحصي سنوات انتظارها ليوم العودة الى «البلد»، اي الى منطقة «ابيي»، على تخوم الحدود بين جنوب السودان وشماله، وهي من المناطق المتنازع عليها بين الشماليين والجنوبيين، وظلت منذ اكثر من 22 عاما هى عمر حرب الجنوب موزعة بين الحرب واللاحرب والتوتر وغموض المصير. قالت اشول،37 عاما، ذات اليدين المعروقتين، والعينين الغائرتين وقد رقد التعب على جفنيها انها جاءت الى الخرطوم المرة الاولى في عام 1981 بارادتها ولاسباب تخصها، لم ترق لها الاقامة في الخرطوم، هي وزوجها، فعادت الى «البلد» ابيي. ولكن اشول وهي الان ام لـ 10 اطفال غادرت في عام 1986 ابيي قسراً عندما رمت حرب الجنوب كل اثقالها في المنطقة فصارت ساحة للموت والتشرد، فاستقر بها المقام مرة اخرى في الخرطوم، نازحة بشهادة كل المنظمات الدولية والمحلية. نازحة في عاصمة قاسية وككل العواصم «لا ترحم كثيراً»، اذ تحللت من معاني التراحم والتآزر قياساً بالريف ودفء القرية، حسب تعبير اشول التي كانت تتحدث لـ «الشرق الأوسط» وهي منهمكة في عملها داخل منزل في ضاحية «ابوسعد» اقدم احياء مدينة ام درمان. غادرت اشول ابيى للمرة الثانية بعد ان تعرضت مناطقهم الى هجمات في خضم الحرب بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش السوداني، وفقدت في تلك الهجمات زوج اختها، وبنت خالها، وأربعة من ابناء اعمامها، وتعرضت احدى بنات خالتها الى الاختطاف ولم تعد الا اخيرا وقد انجبت في سنوات الاختطاف اربعة ابناء، وتقول اشول بدموع سالت على مرقدها «هذا اكثر ما يؤلمني عندما اتذكر ابيى». وتبدو اشول نحيلة منحسرة منكسرة كحرف العطف، ووجهها مشدود موسوم بكل علامات الشقاء. وهى تعيش الان، «على صحتها»، يبدأ يومها من الصباح الباكر مع النجمة لترتيب شؤون منزلها، ووضع الدواء في المكان المناسب لزوجها المريض، وتجهيز ابنائها من الطلاب ليغادروا المنزل في الثامنة صباحاً بحثاً عن الرزق في جوف المدينة. في هذا المنزل تغسل الملابس وتكويها، وفي منزل اخر تمسح وتنظف المنزل. مرة تعيد حياكة المفارش، ومرة تبيع حب اللب في الاسواق. وتقول «حياتي هي رزق اليوم باليوم.. ما اكسبه في اليوم الواحد اصرفه في ذات اليوم ولكن تستمر حياتنا على كفافه ليوم اضافي ما لم اخرج للعمل واكسب الرزق». تركت البنت الكبرى لاشول واسمها ماى التعليم لانها لم تستطع ان تدفع لها نفقات الدراسة. وهي الان، اي ماي، تسير على نفس الدرب الذي سلكته والدتها، اي العمل على طريقة «رزق اليوم باليوم»، في الاسواق او في المنازل في احياء العاصمة.

ولم يكن ترك ماى الدراسة من الصف الثانى ثانوى، هو الجمرة الوحيدة التي تحرق اشول، اذ انها تتلوى من الحسرة لانها تقوم بتعليم الباقى من ابنائها بالتناوب، اى بتجميد دراسة اربعة منهم لعام على ان يستمر اربعة اخرون في الدراسة، وفى العام اللاحق يتم تجميد من درسوا، واعادة الذين غادروا وهكذا، والسبب كما تقول اشول هو «عدم القدرة على تسديد نفقات دراستهم كلهم في وقت واحد». وتضيف «لا ادري هل بامكانى تحمل نفقات دراستهم بهذه الكيفية في مقبل السنوات... ولكن الله كريم». وتمضي «انا الان لا افكر في نفسي ابدا.. كل تفكيرى في ابنائى وزوجى المريض». ومضت «انا البس بقايا الناس، ومن سوق الاخوان، واتحمل كل التعب والمرض الذي اصاب احدى كليتى، فقط اريد ان تجد اسرتى اسباب الحياة».

اشول لا تحلم بامتلاك منزل في الخرطوم، ولا حتى لديها القدرة على استئجاره، فهى ظلت تتنقل من منزل مهجور الى اخر تحت التشييد بخيمتها المصنوعة من جوالات الخيش. رحلة السكن المتنقل تحط بها الان في منزل مهجور بأقاصي ضاحية «الفتيحاب» بمدينة ام درمان. اشول تحلم الان بالعودة، مثل حلم نحو 4 ملايين نازح من جنوب السودان ومليوني نازح من دارفور قذفت بهم الحرب الى اتون الضياع في المدن واطراف المدن، واليد التي تمد لهم الاغاثات. وتقول «وجودي في الخرطوم لا طعم له بالنسبة لي ولكنني مضطرة للبقاء رغم ان السلام جاء في ابيي لعدم قدرتي على تحمل نفقات السفر الى هناك باي وسيلة من الوسائل». كما ان السؤال الذي تطرحه اشول هو هل بوسعها ايجاد وسائل البقاء هناك من اكل، وشرب، ومنزل يؤوي؟