شهية التمديد

منذ بشارة الخوري مال كل رؤساء لبنان إلى تمديد ولايتهم.. حتى لو كان استقرار البلاد هو الثمن

TT

يعود الزعماء اللبنانيون الاثنين المقبل الى طاولة الحوار المستديرة التي نصبوها في مبنى البرلمان في محاولة منهم للوصول الى تفاهمات، ولو بالحد الادنى، على المواضيع التي يختلفون حولها والتي كاد ينذر تجاذبهم حولها بجر البلاد الى ما لا تحمد عقباه. ولن تكون الايام الفاصلة بين تعليق جلسات الحوار الاربعاء الماضي واستئنافه الاثنين، فترة راحة واستراحة من عناء التجاذب الذي ساد اجواء الحوار، بل ستكون فرصة للمتحاورين لتقييم نتائج الجولة الاولى قبل الانتقال الى الجولة الحاسمة التي ستقرر مصير الوضع اللبناني المتأزم منذ اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري في العام الماضي.

لقد اصطدمت رغبات المتحاورين (وبينهم العديد من المتحاربين السابقين) بصعوبات كبيرة من بينها قضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومتفرعات القرار 1559 ومتفرعاته، مثل موضوع رئاسة الجمهورية وسلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني، والعلاقات مع سورية، لكن ملف رئاسة الجمهورية ما يزال العقدة الكبرى امام الحوار، ذلك ان فريق الاكثرية النيابية يريد اسقاط رئيس الجمهورية اميل لحود، غير انه لا يمتلك الاغلبية المطلوبة لتعديل الدستور من اجل هذا الهدف، وهو بحاجة الى اصوات واحدة من كتل «حزب الله» وحركة «امل» و«التغيير والإصلاح» التي يرأسها العماد ميشال عون، وهؤلاء يشترطون الاتفاق على البديل قبل الشروع في اسقاط الرئيس الحالي الذي تعتبره قوى الاكثرية «رئيسا فاقدا للشرعية الشعبية والدستورية». ولطالما كان هناك ميل لدى الرؤساء اللبنانيين الى تمديد ولايتهم، وتاريخيا ولدت مشاكل سياسية كبيرة من رحم هذا الميل. فقد تعاقب على لبنان منذ استقلاله عام 1943 وحتى اليوم 11 رئيسا للجمهورية، تسعة منهم حكموا فعليا فيما اغتيل اثنان منهم قبل ممارستهما الفعلية للحكم، حتى ان احدهما اغتيل قبل تسلمه منصبه.

والرئيس في لبنان وفقا للعرف الدستوري هو من الطائفة المارونية وذلك وفقا لعرف غير مكتوب عمره من عمر الاستقلال اصبح مع الايام عرفا دستوريا يقيد زعماء لبنان ويجعل من كل مولود ماروني «مرشحا طبيعيا للرئاسة» وفق ما يتندر اللبنانيون عليه مع كل موسم رئاسي.

ومدة ولاية الرئيس اللبناني هي 6 سنوات غير قابلة للتجديد او التمديد، غير ان الوقائع التاريخية تقول ان «شهية معظم الرؤساء» كانت مفتوحة على كسر القيد الوارد في الدستور حول هذا الامر، حتى ان احد المشاركين في جلسات الحوار قال ان رئيسين فقط رفضا تمديد او تجديد ولايتهما. ويقول التاريخ ايضا ان المس بولاية الرئيس ـ او حتى مجرد المحاولة ـ كان يهز استقرار البلاد بشكل كبير وكأن في الدستور لعنة ما تصيب الذين يحاولون المس بنصوصه ومع هذا فقد نجح ثلاثة رؤساء في تعديل مدة ولايتهم فيما فشل الباقون بسبب ازمات كبرى مرت بالبلاد. وقد بدأت محاولات المس بالدستور مع اول رئيس للبنان بعد استقلاله وهو بشارة الخوري الذي نجح في تأمين وصول اكثرية نيابية كافية لتعديل الدستور فجددت ولايته عبر تعديل الدستور «لمرة واحدة فقط» كما اضيف الى نص الدستور عندها، وقد تكررت هذه الاضافة ثلاث مرات حتى الان.

لم يهنأ الرئيس بشارة الخوري بولايته الجديدة فقد عكرتها اضطرابات سياسية وتظاهرات واضرابات شلت البلاد واجبرت الرئيس على الاستقالة بعد 3 سنوات من عمر ولايته الجديدة.

لم يتعلم الرئيس التالي كميل شمعون الدرس جيدا، فقد بدأ عند اقتراب موعد نهاية ولايته التحضير لتكرار سيناريو التعديل الدستوري، فأتى بمجلس موال بالكامل تقريبا بعدما اسقط في الانتخابات زعماء الكتل الكبرى المعارضة، لكن هؤلاء ثاروا على شمعون ودخلت البلاد مجددا في موجة اضطرابات استعمل فيها السلاح هذه المرة وتدخل فيها الاسطول السادس الاميركي الذي نزل على الشواطئ اللبنانية لحماية شمعون الذي عاد عن مسعاه وقبل بانتخابات رئاسية مبكرة اتت بقائد الجيش فؤاد شهاب رئيسا.

وعندما اقتربت نهاية ولاية شهاب اتى من يحاول اقناعه بتعديل مدة ولايته لكنه رفض ذلك، فانتخب الرئيس شارل حلو القريب منه رئيسا ثم تلاه الرئيس سليمان فرنجية الذي راودته الرغبة مجددا، لكن اندلاع الحرب الاهلية وثورة معارضيه منعاه من ذلك فانتخب الرئيس الياس سركيس (من النهج الشهابي) الذي رفض بدوره تعديل ولايته فأجريت الانتخابات الرئاسية بالرغم من الاحتلال الاسرائيلي مرتين، الاولى لانتخاب بشير الجميل رئيسا والثانية لانتخاب شقيقه امين الجميل بعد اغتياله قبل تسلمه مقاليد السلطة.

لم تكن نهاية امين الجميل افضل من نهايات ولايات رئاسية عديدة، بل كانت اسوأ، فهذه المرة لم يتم الاتفاق على رئيس جديد ودخلت البلاد في فراغ رئاسي استمر نحو سنة انتخب بعدها الرئيس رينيه معوض رئيسا كتتويج للمصالحة التي اقرها «اتفاق الطائف» لكنه سرعان ما اغتيل ليأتي الرئيس الياس الهراوي الى السلطة. وقد يدخل الرئيس الهراوي التاريخ من باب انه الرئيس الوحيد الذي مر تعديل ولايته بسلام فقد تم تمديدها لثلاث سنوات وقد ساعده في ذلك النفوذ السوري الداعم للتمديد وتوافق القوى الاساسية والتفافها حوله. اما الرئيس الحالي اميل لحود فقد مددت ولايته لثلاث سنوات ايضا حملت قبل بدايتها الازمات، ذلك انها افتقدت الى العامل الدولي المعارض والعامل المحلي ايضا بسبب رفض الكثير من السياسيين لهذا التمديد. والان يؤكد الكثير من المشاركين في الحوار الوطنى اللبناني ان الوصول الى تفاهم في ما يتعلق بالملف الرئاسي من شأنه ان يفتح الباب واسعا امام الحلحلة في الملفات المتبقية. فقوى «14 اذار» التي تمثل تحالف الاغلبية النيابية (72 نائبا) ترفع شعار اسقاط لحود الذي ترى ان ولايته مددت بالإكراه السوري، فيما يبدو تحالف الاقلية (غير معلن) المكون من نحو 55 نائبا «منفتحا» على الفكرة شرط ان يكون له اليد الطولى في اختيار الخلف، وهذا الخلف يجب ان يكون رئيسا «تطمئن اليه المقاومة» من وجهة نظر «حزب الله». اما بالنسبة الى العماد ميشال عون فالامور اكثر وضوحا وتحديدا، فهو يجاهر بترشيح نفسه للرئاسة، غير انه حتى الان لا يبدو رئيسا مقبولا من الاكثرية النيابية التي تستطيع باصوات نوابها ان تنتخب رئيسا جديدا عند انتهاء ولاية لحود الممددة في خريف العام 2007، لكنها غير قادرة على اطاحته الان الا بالتوافق مع قوى الاقلية او استقالة لحود التي تبدو مستبعدة حتى الان.

ويدرك المتحاورون جيدا ان هذا الحوار يشكل الفرصة الاخيرة امام لبنان قبل دخوله نفق المواجهة بين التيارات المتجاذبة، ولهذا فان لا احد منهم يجرؤ على الظهور بمظهر من اسقط الحوار، وهذا هو العامل الابرز الذي ما يزال يجعل الآمال معقودة على تحقيق تفاهم «الحد الادنى» على الاقل لمنع انزلاق الوضع الى ما قد لا تحمد عقباه.

لقد اختار زعماء الكتل النيابية الاساسية في البرلمان اللبناني الدخول الى الحوار تحت قبة البرلمان لمنع انزلاق الحوار الى الشارع الذي حذر كثيرون من انه يتجه الى ما يشبه الحرب الاهلية. كما انهم على موعد مع استحقاق اخر يتعلق بمدى اهليتهم للاتفاق دون اية «رعاية» خارجية يفضل البعض وصفها بالوصاية. فالتجارب الحوارية السابقة لم تنجح الا بضغط من اطراف «غير لبنانية» تمتلك تأثيرا معنويا او ماديا على الاطراف اللبنانية المتحاورة. وقد خاض اللبنانيون 3 تجارب حوار خارج لبنان وهذه الحوارات تمت على الشكل الاتي:

1ـ مؤتمر جنيف: دعي المتقاتلون الى مؤتمر حوار عقد في مدينة جنيف السويسرية في 31 اكتوبر (تشرين الاول) 1983 برعاية سعودية ـ سورية لإيجاد حل للازمة الناشبة بين الرئيس امين الجميل ومعارضيه. لكنه لم يسفر عن اتفاقات جوهرية، رغم انه شكل اختراقاً على صعيد الوضع المتأزم كما انه كان قد استبق بالغاء اتفاق «17 ايار» مع اسرائيل كشرط اساسي لدخول الحوار من قبل القوى اللبنانية المتحالفة مع سورية آنذاك وفي طليعتها الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط. 2 ـ مؤتمر لوزان: في 6 فبراير (شباط) 1984 اندلعت موجة عنف جديدة اسفرت عن سيطرة حركة «امل» التي يرأسها نبيه بري والحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه وليد جنبلاط على الشطر الغربي من بيروت. وتمت محاولة الحوار الثانية في 12 مارس (اذار) 1984 في مدينة لوزان السويسرية برعاية سورية ـ سعودية ايضا اسفرت عن تشكيل حكومة مختلطة ضمت القوى المتحاربة برئاسة الرئيس رشيد الصلح. 3 ـ في العام 1988 دخل لبنان في «غيبوبة رئاسية» نجمت عن انتهاء ولاية رئيس الجمهورية امين الجميل من دون انتخاب بديل، فانقسمت البلاد بين حكومتين. ودعي النواب الـ 62 الى مدينة الطائف السعودية بمباركة دولية حيث اسفر اجتماعهم الذي استمر 22 يوماً، عن الاتفاق الشهير المعروف بـ «وثيقة الوفاق الوطني» او «اتفاق الطائف» الذي اصبح لاحقا الدستور الجديد للبنان. ونتائج مؤتمر الحوار الوطني المرتقبة ستكشف الى حد كبير ما اذا كان المتحاورون اللبنانيون قادرين وحدهم على التوصل الى حل لمشاكلهم الداخلية ام انهم يحتاجون الى «لاعب دولي او اقليمي» مؤثر يتدخل لفض خلافاتهم الانية، دون ان تحل المشاكل الاساسية من جذورها.