حصاد العدالة في البلقان

عدد المتهمين 145 شخصا..57 صدرت بحقهم أحكام..74 ما زالوا على ذمة التحقيق..و8 فارون

TT

في بداية هذا الاسبوع أعلن في محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، عن انتحار متهم صربي كرواتي هو ميلان بابيتش (50 سنة)، وحادثة الانتحار هي الحادثة الثانية من نوعها منذ بداية عمل المحكمة الدولية عام 1996. وقد أكدت الحادثة بطريقة ما، على أن الحرب في يوغوسلافيا السابقة لا تزال مستمرة، وتداعياتها متواصلة على الاصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ذلك ان بابيتش شاهد اساسي على جرائم الحرب التي ارتكبت في البلقان في سنوات التسعينات المجنونة، وكان مقررا ان يشهد ضد عدد من ابرز المتورطين في الانتهاكات، كما شهد سابقا ضد الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفتش. لكن انتحار بابيتش اعاد السؤال حول ما الذي انجزته محاكم يوغوسلافيا السابقة حتى الان، وكم عدد المتهمين الذين تم اعتقالهم، ومن ما زال هاربا، وكم عدد الذين صدرت ضدهم احكام قضائية، وهل محاكم يوغوسلافيا السابقة دليل على ان العدالة تحققت اخيرا في البلقان ام لا؟ تأسست محكمة جرائم الحرب في لاهاي بقرار مجلس الأمن رقم 827 في 25 مايو (ايار) 1993، في وقت كانت انتهاكات حقوق الانسان في اوجها، وفي البوسنة على وجه الخصوص، اذ لم تحدث حرب في سلوفينيا، أو معارك كبرى في كرواتيا، ما عدا عام 1995 عندما تم طرد الصرب من كرايينا. وكان الهدف من تأسيس المحكمة إعادة الأمن والاستقرار إلى البوسنة، من خلال محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وتقديمهم إلى العدالة وإعادة الاعتبار للضحايا، ومنع تكرار مثل تلك الجرائم مرة أخرى.

لكن الانتهاكات استمرت حتى نهاية القتال إثر توقيع اتفاقية «دايتون» للسلام في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995. وفي عام 1996 بدأت المحكمة تعمل على تنفيذ الاهداف التي عجز أو بالاحرى، تقاعس المجتمع الدولي عن تنفيذها لمدة 4 سنوات طاحنة من عمر الحرب، والتي كانت وفق المراقبين، والقضاء الدولي، حربا عدوانية شنها الصرب والكروات بهدف التوسع على حساب جماجم وأرواح ومصالح البوشناق المسلمين. وتمتلك محكمة جرائم الحرب في لاهاي أدلة كثيرة على تورط العديد من المتهمين، سواء عبر الادلة الموثقة كاعترافات المتهمين او تصريحاتهم، أو إفادات الضحايا، وشهادات المسؤولين الدوليين الذين عملوا في البوسنة اثناء الحرب، او معلومات الاستخبارات الدولية التي كانت تسجل بعض الاتصالات بين الوحدات العسكرية الصربية، ومحادثات المسؤولين السياسيين ولعسكريين الصرب بما في ذلك الاتصالات التي تمت بين زعماء الحرب من صرب البوسنة والقيادة الصربية في بلغراد، وفي مقدمتها الرئيس اليوغوسلافي الاسبق سلوبودان ميلوشيفيتش (64 سنة) الذي يحاكم حاليا أمام محكمة جرائم الحرب في لاهاي. ومحكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغوسلافيا السابقة في لاهاي، لا تعنى سوى بالجرائم المتعلقة بالافراد. وهي بالتالي لا تنظر في الدعاوى المرفوعة ضد المؤسسات والاحزاب السياسية، وهي مختلفة عن محاكمات نورنمبرج في المانيا وطوكيو في اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثاني، والتي كانت المحاكمات تجري فيهما بالجملة ضد كل جندي وكل مسؤول شارك في الحرب من دول المحور، وحتى المؤسسات والاحزاب لم تسلم من المساءلة و العقاب. كما تختلف عن محكمة العدل الدولية التي تنظر في الدعاوى التي ترفعها الدول ضد بعضها، ومن ذلك شكوى البوسنة ضد صربيا والجبل الاسود. وتعتمد محكمة جرائم الحرب في لاهاي على الاتفاقات الدولية والقانون الدولي الذي تم استنباطه في العقود السابقة، ومن ذلك اتفاقية جنيف سنة 1949 والتي نصت على عقوبات تطال مرتكبي جرائم الابادة والجرائم ضد الانسانية، ومنعت الاعتداء على المدنيين أثناء الحرب. ويظل المتهم الذي يتم جلبه إلى المحكمة داخل السجن التابع للمحكمة، إلى حين صدور الحكم النهائي بحقه، ويسمح للمتهمين الذين يسلمون أنفسهم طواعية، بالتمتع ببعض الاجازات يقضونها بين ذويهم، تتراوح بين شهر وعدة شهور أما أقصى عقوبة يمكن اصدارها فهي السجن مدى الحياة. وبعد صدور الحكم يتم نقل المتهم إلى احدى الدول التي وقعت مع الامم المتحدة على اتفاق قبول المدانين في سجونها، ويبلغ عدد الدول الموقعة حتى الآن 10 دول هي النرويج، والسويد، وفنلندا، واسبانيا، وايطاليا، واستراليا، وفرنسا، والدنمارك، والمانيا، وبريطانيا. ويعمل لدى محكمة لاهاي 1146 موظفا من 79 دولة. وبالرغم من ان التفاصيل والاجراءات السابقة هامة، الا ان الطريقة الاساسية التي يمكن بها الحكم على عمل المحكمة هو عدد المتهمين الذين قدمتهم للمحاكمة، والذين اتخذت ضدهم احكاما، وبهذا المعنى، فإن المحكمة قد يكون حصادها متوسطا. فعدد المتهمين بارتكاب جرائم حرب 145 شخصا، وفيما هناك 57 شخصا صدرت بحقهم بالفعل احكام بعد جلسات المحاكمة، هناك 74 شخص ما زالوا على ذمة التحقيق، اما عدد الفارين فهم 8 وعدد الذين توفوا 6، بينهم اثنان انتحرا. لكن المشكلة ان المتهمين الفارون من كبار القادة العسكريين الذين تورطوا في انتهاكات جسيمة وارتكبوا جرائم حرب الادلة متوفرة فيها لادانتهم، لكن التواطؤ السياسي بين بعض الحكومات الحالية في البلقان، وبين المتهمين يحول دون تسليمهم، وبعضهم مكان اختبائه معروف، وهؤلاء الفارون هم رادوفان كراجيتش، زعيم صرب البوسنة سابقا المولود في 19 يونيو (حزيران) 1945، في منطقة يتسينيتسا، وتتهمه محكمة جرائم الحرب في لاهاي بأنه المسؤول المباشر عن جرائم الحرب التي تمت في البوسنة في ما بين 1992 و 1995، وأنه تعاون مع آخرين من بينهم ممشيلو كرايشنيك وبليالنا بلبافيشيتش، في الفترة ما بين أبريل (نيسان) 1992 و30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، بتنفيذ مشروع اجرامي منظم استهدف أرواح الآلاف من غير الصرب في البوسنة. وكان كراجيتش رئيسا لصرب البوسنة في الفترة ما بين 12 يوليو 1991 وحتى 19 يوليو (تموز) 1996، وهي الفترة التي تمت فيها جرائم الابادة الجماعية ضد البوشناق المسلمين في البوسنة تحت اشرافه، كما كان كراجيتش رئيسا للحزب الديمقراطي الصربي في نفس الفترة. اما الهارب الاخر، فهو راتكو ملاديتش قائد قوات صرب البوسنة في الفترة ما بين 12 مايو (ايار) 1992 إلى 22 ديسمبر (كانون الاول) 1996، وكان مشرفا على كافة الاعتداءات العسكرية التي وصفت بالبربرية، وفي مقدمة ذلك مجازر سريبرينتسا التي راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف شخص، وملاديتش مولود في 12 مارس (اذار) 1942 بمنطقة بوجانوفيتش. اما الهارب الثالث، فهو غوران هاجيتش، المولود في 9 سبتمبر (ايلول) 1958، في منطقة فينكوفيتسا بكرواتيا. والهارب الرابع، فلاستمير جورجوفيتش، المولود في سنة 1948 بمنطقة كوستونيتسا التابعة لبلدية فلادشين هان. والهارب الخامس هو توليمير زدرافكو، المولود في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948. كان مساعدا لقائد الاستخبارات الصربية، وكان أحد الضباط السبعة الذين ساعدوا الجنرال راتكو ملاديتش في عمليات الابادة بالبوسنة. وشارك في مجازر سريبرينتسا. والهارب السادس هو زيلينوفيتش دراغن، المولود في 12 فبراير(شباط) 1961 بمنطقة فوتشا شرق البوسنة. اما الهارب السابع، فهو ستويان جوبلانين: المولود في 22 سبتمبر(ايلول) 1951 بمنطقة بوروفيتسا والمتهم بارتكاب جرائم حرب في منطقة كوزاريتسا في 27 مايو (ايار) 1992. والهارب الثامن هو السريتن لوكيتش من مواليد 5 أبريل (نيسان) 1961، في منطقة رويوجيتا التابعة لفيشي غراد، التي تنبأ الكاتب اليوغوسلافي الاسبق، ايفو أندريتش الحاصل على جائزة نوبل للآداب في سنة 1961 في روايته «على جسر فيشي غراد»، بحرب إبادة ضد المسلمين في المنطقة. ومن المقرر أن يستمر عمل المحكمة إلى عام 2008، حيث يتوقع الانتهاء من الفصل في قضايا جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، وهناك من يرى أن عملها سيستمر حتى 2010. وقد سمحت المحكمة بفتح محاكم لجرائم الحرب في بعض الدول المستقلة عن يوغوسلافيا المنهارة، كالبوسنة، وكرواتيا، وكوسوفو، وصربيا، وهي محاكم تعتمد نفس المعايير والقوانين المطبقة في محكمة لاهاي. ورغم الجهود التي قامت وتقوم بها محكمة جرائم الحرب في لاهاي، تبقى عدالتها قاصرة عن تحقيق الاهداف التي أسست من أجلها، إذا علمنا أن عددا كبيرا من المتهمين المتورطين في جرائم الابادة، حكم عليهم بعشرات السنين، ثم خفضت الاحكام، ولم يقض الكثير سوى بضع سنوات، ليخلى سبيلهم لاحقا.