الحلقة المفرغة

أزمة رئاسة الحكومة العراقية تعيد السؤال القديم.. ما الذي تعنيه الأغلبية الديمقراطية؟

TT

«إنه لا يريد إنقاذ العملية السياسية»، كان هذا حكم طيف واسع من العراقيين على «الائتلاف الموحد» الشيعي، بسبب أزمة تشكيل الحكومة العراقية. وقد بدأ هذا الإحباط يتفاعل في العاصمة العراقية عندما عمد «الائتلاف» إلى إرسال لائحة مرشحين له إلى مجلس النواب، بمن فيهم رئيس الوزراء المنتهية ولايته إبراهيم الجعفري، مما فسّرته غير كتلة برلمانية بتجاهل مقصود لاعتراضاتها على إسناد المنصب الوزاري الأول للجعفري مجدداً والعبور فوقها. وتفاقم الإحباط عندما رد «الائتلاف» على اعتراض الكتل الرئيسية الأخرى لعبة الأسماء بمطالبته هذه الكتل تقديم مرشحيها إلى منصبي رئيسي الجمهورية ومجلس النواب لدرسها، في إشارة ضمنية إلى إمكانية حصول «صفقة» يدعم «الائتلاف» بموجبها مرشح إحدى الكتل الرئيسية لتولي منصب رئاسة الجمهورية مقابل الحصول على دعمها بالجعفري رئيساً للحكومة. وفي الضباب الذي ظل يلف صراع الكتل الرئيسية العراقية المختلفة، طوال الشهور الأربعة الماضية، من الأهمية بمكان إبراز «محطات الاشتباك السياسي» بين الأطراف المختلفة، لعل أهمها محطة التقاطع الأبرز المتمثلة في اسم رئيس الحكومة المقبلة.

كان إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده المقرر في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بمثابة فتح باب التحول في الحياة السياسية العراقية. وإذا ما تحقق لـ «الائتلاف» الشيعي إشباع يستحقه في الحلبة البرلمانية، دون القدرة على ممارسة طغيان اللون الواحد (128 من أصل 275 مقعداً)، فقد بات من حقه، وفقاً للقواعد الدستورية المعمول بها باعتباره أكبر الكتل البرلمانية، أن يفرز مرشحه لتشكيل الحكومة الدائمة.

وبعد صراع طويل استمر أسابيع عدّة وكاد يهدد وحدة «الائتلاف» الشيعي، تقدم أربعة مرشحين للسباق، وهم على التوالي: إبراهيم الجعفري رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته وزعيم «حزب الدعوة الإسلامية» ومرشح «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» عادل عبد المهدي، ونديم الجابري الرئيس السابق لحزب «الفضيلة الإسلامي» وحسين الشهرستاني من «المستقلين». لكن انسحاب الأخيرين من حلبة السباق مبكراً، جعل المنافسة حامية الوطيس بين الجعفري وعادل عبد المهدي، حيث فاز الأول بفارق صوت واحد على منافسه مرشح «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية».

وهكذا جاء اختيار الجعفري لشغل منصب رئاسة الوزراء ليطوي صفحة من الخلافات داخل «البيت الشيعي»، لكن الاختيار نفسه فتح صفحة جديدة من الخلافات مع الأطياف العراقية الأخرى. ففي البداية، عبّرت أطراف كردية عن استيائها لاختيار الجعفري رئيساً لحكومة عراقية دائمة، انطلاقاً من أنه لم يف بالتزاماته بشأن وضع مدينة كركوك، بل دعا البعض «الائتلاف الشيعي» إلى اختيار شخص آخر. وبغية ممارسة مزيد من الضغوط على حكومة الجعفري المرتقبة، ربط التحالف الكردستاني (53 مقعداً) تأييده لها بإشراك رئيس الوزراء السابق أياد علاوي وكتلته «القائمة العراقية» (25 مقعداً) في الفريق الحكومي القادم.

ولئن تعددت الأسباب التي دفعت بجلّ الصف الكردي رفض ترشيح الجعفري لرئاسة الوزارة، فإن «جبهة التوافق» السنية لا تعدم الحجج في رفضها هذا الترشيح، وهذه كثيرة. أولى هذه الحجج، تأكيدها على تحديد المسؤوليات، خصوصاً ما يتعلق منها بالملف الأمني، وهو ما دأب الجعفري على وصفه باعتباره «مخالفاً للدستور». وثاني هذه الحجج ما جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم الجبهة، ظافر العاني، الذي وصف الاختلاف بـ «محاولة الائتلاف الاستئثار بالسلطة والاستحواذ على الصلاحيات وخاصة الملف الأمني»، متابعاً التشديد على أن موقف الجبهة هو « إما أن نكون شركاء أنداداً.. فنحن لا نريد مشاركة صورية لتجميل ديمقراطية موهومة، ولا نريد أن نكون شهود زور».

من هنا الانزلاق الطبيعي من المناقشة الدستورية حول صلاحيات رئيس المنصب الوزاري الأول إلى الجدل السياسي العنيف حول شخص رئيس الوزراء. والنقاش الدستوري والجدل السياسي يلتقيان عند نقطة حساسة، بل موجعة، هي الملف الأمني. فقد جاء اختيار الجعفري لتشكيل الحكومة الدائمة بمثابة خيبة أمل للأطراف السياسية الأخرى التي أرادت أن تكون الحكومة العراقية الجديدة المنتخبة دستورياً كخطوة أولى في توحيد صرح البلاد المتهالك الذي تهدده الحرب الأهلية وبناء اقتصاد قوي ووضع حد لعمليات القتل اليومي للمواطنين، حيث أخفق الجعفري طوال ولايته على جميع هذه المستويات، وبالتالي من غير المرجح أن ينهض بأعباء جسيمة من هذا الوزن في ولايته الثاني، خصوصاً أنه حظي بهذا الموقع نتيجة صفقة سياسية مع أتباع «التيار الصدري» الذي ربما يحتم عليه لاحقاً الموافقة على دور أكبر للمليشيات التابعة لأحزاب وتيارات شيعية كبنى غير نظامية ذات صبغة عسكرية باعتبارها، على حد وصفه «جزءاً من الواقع العراقي»، وهو الأمر الذي يصطدم بشدة مع مبدأ قومية المؤسسات الأمنية.

ولئن أبدت القيادات الكردية والسنية على حد سواء بعض الحكمة في التعامل مع غض نظر الجعفري على ممارسات مليشيات مسلحة شديدة الفتك، وتظاهر هذه القيادات أيضاً بتصديق روايته عن استمرار التحقيق في عمليات تعذيب في القضية المعروفة بـ «قبو الجادرية»، بقي أن الأمور لن تستمر على هذا المنوال، وهو ما جعل الملف الأمني يحتل مكان الصدارة على ما عداه من ملفات ساخنة أخرى المطروحة على جدول أعمال الحكومة المقبلة.

في هذا الخصوص، حاول الرئيس العراقي جلال الطالباني تسويق اقتراح إنشاء مجلس الأمن القومي، لضمان مشاركة الأطياف السياسية جميعاً في آليات عمل الحكومة الدائمة، بما يضمن تقليص صلاحيات رئيس الوزراء. وينص اتفاق تشكيل مجلس الأمن القومي على أن يترأسه رئيس الجمهورية وفي حال غيابه ينوب عنه رئيس الحكومة، على أن يتولى القضايا المجلس أعلاه القضايا المتعلقة بالمصلحة الوطنية ذات الطبيعة الإستراتيجية والحساسة والتشاور حولها والإشراف السياسي على شؤون البلاد العامة، إضافة إلى تفعيل آليات التنسيق بين مؤسسات الدولة المختلفة بما لا يتعارض مع عمل السلطات المختصة المنصوص عليها في الدستور والقوانين النافذة من الآليات المنصوص عليها. كما حدد الاتفاق على أن تتخذ القرارات بتصويت ثلثي أعضاء المجلس على القضايا المطروحة على جدول الأعمال، وأن يكلف لجنة مختارة من بين أعضائه لإعداد النظام الداخلي له، على أن تنتهي أعماله بانتهاء الدورة الانتخابية الحالية للبرلمان.

وإذا ما دلّل هذا الطرح عن تكوين سياسي لا يرقى الشك في حاجة العراق إليه، سارع الجعفري إلى رفض استحداث هذا المجلس لأنه، حسب رأيه، «مخالف للدستور»، وقال: «الدستور واضح في توزيع السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية، واستحداث جهة قرار جديدة مخالف له»، مشدداً على أن هذه الآلية الجديدة من شأنها أن «تصدع جهة القرار». وما لم يأت على لسان الجعفري، ذكره أحد أعضاء مجلس النواب عن «الائتلاف» الشيعي، حين أشار إلى أن استحداث جهة قرار جديدة ستسحب الملف الأمني من يد رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، وربما يؤدي لاحقاً إلى سحب مزيد من الملفات، مما يؤدي إلى حصول «ازدواجية» على رأس السلطة التنفيذية، مما يؤدي إلى شلها تماماً.

أما الراغبون في استحداث هذا المجلس فلا يعدمون حججاً من جانبهم، فهم يقولون ضمناً أو علناً التالي: كنا نفضّل لو كانت مناصب الدولة غير مرتبطة بتكتل معين أو بآخر، لكن «احتكار» الشيعة للمنصب الوزاري الأول يجعل من صلاحيات رئيس الوزراء أمراً شديد الحساسية، إذ أنه يكرس امتياز عراقي على آخر، بصورة يأباها النظام الديمقراطي الذي يدعي العراق أنه يتبناه. وبالتالي فالخيار الأول عند هؤلاء هو إلغاء التوزيع الضمني للمناصب الدستورية على كتل دون غيرها. وإن كان هذا الخيار مرفوضاً، وغير قابل للتحقيق في الظروف الراهنة المشحونة بالتناحر، فالخيار الثاني هو التقليل من صلاحيات رئيس الوزراء وتوزيعها. وخلاصة هذا الخيار الثاني صياغة جديدة للصلاحيات الممنوحة لرئيس الوزراء في الشأن الأمني، بحيث تولى السلطة التنفيذية لا للوزير الأول بل لمجلس أمني كسلطة جماعية. لكن اتفاق الكتل السياسية الرئيسية على برنامج موحد ينص على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في نهاية مارس (آذار) الماضي، شهد قطيعة ملموسة مع كل ما سبق، إذ دعا بصراحة على مبدأ المشاركة وتمثيل المكونات العراقية على أساس الاستحقاق الانتخابي ومقتضيات المصلحة الوطنية والعمل وفق الدستور والالتزام به.

كما نص البرنامج على تشكيل حكومة وحدة وطنية والسير قدماً في سياسة «الحوار الوطني» وتوسيع دائرة المشاركة في العلمية السياسية ونبذ العنف والإرهاب بكافة أشكاله عبر مؤسسات القضاء، والتأكيد على ترسيخ دولة المؤسسات وبناء دولة القانون واتباع الأصول الإدارية والمؤسساتية وفق مبدأ المواطنة ورفض التفرد والارتجال في صنع القرار.

إلا أن هذا الاتفاق لم يكن كافياً لوحده للخروج من هذه الأزمة، حيث استمرت دوامة الشد والجذب التي استنزفت وقتاً طويلاً، مما دعا رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، إلى طرح مبادرة تضمنت، في خطوطها العريضة، دعوة جميع القادة السياسيين في الكتل الرئيسية للاجتماع في كردستان من أجل وضع برنامج عملي وآلية واضحة للحوار الصريح والشفاف بغية الاتفاق على القضايا المطروحة والخروج بنتيجة واضحة «تخدم المصالح العليا للبلاد». لكن اللقاءات التي أجراها الزعيم الكردي مع الأطراف المختلفة بـ «المفرق» لم تثمر عن أي نتائج ملموسة، حيث كان يصعب عليه التوفيق بين مواقف القوى المختلفة. وإن تعددت أسباب فشل مسعود البارزاني في بلورة موقف موحد، فمأزق الملف الأمني ربما أحد هذه الأسباب إن لم يكن أهمها.

أما مبادرة السفير الأميركي في بغداد، زلماي خليل زاد التي تضمنت دعوة أبرز السياسيين العراقيين للمشاركة في مؤتمر خارج بغداد أو ربما خارج العراق لإعادة العملية السياسية إلى مسارها الصحيح، فهي الأخرى لم تلق آذاناً صاغية من الطيف السياسي العراقي.

ومع استمرار تعثر عملية تشكيل الحكومة وتضاؤل الوقت المتبقي قبل غرق السفينة السياسية بركابها، قامت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس ونظيرها البريطاني جاك سترو بزيارة إلى بغداد من أجل البحث في العقبات المستمرة في وجه تشكيل الحكومة وأزمة ترشيح الجعفري لرئاستها. وبالرغم مما أشيع حينها أن موقف كلا المسؤولين لم يتسم بالوضوح الكافي، إلا أن ما يمكن استشفافه من تصريحاتهما للصحافة هو تشكيكهما بقدرة الجعفري على لم شمل العراقيين مع استمرار الاعتراضات الكردية والسنية عليه، الأمر الذي يعني أن الخيارات باتت تتضاءل أمامه، خصوصاً مع تصاعد أصوات داخل «الائتلاف» الشيعي تطالب بانسحابه من الترشح. ولذلك، من الخطأ إذن اعتبار التصلب الحالي الذي ضرب موقف الجعفري موقفاً نهائياً، فهذا التصلب ما هو إلا تأقلم مرحلي مع الأفق المسدود ومع استمرار التناحر على منصب رئيس الحكومة وصلاحياته، فإن بدا في الأفق مشروع جديد لإقامة حكومة وحدة وطنية، عادت الكتل السياسية عن تصلبها المقابل والتحق بها كثيرون. هذه هي الجدلية الراهنة: حكومة وحدة وطنية تسمح بتصور التأسيس الثاني للوطن العراقي، وهو تأسيس قد تكون فرص نجاحه أعلى من تلك التي صاحبت التأسيس الأول في بداية العشرينات من القرن الماضي. فلئن وجدت هذه الكتل وسائل للتفاهم، رأى العراقيون بصيص نور، وإن لم تجد، فالقلق سيبقى خبز العراقيين اليومي.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا