الحرب.. المتسللة

العنف في الصومال تحول من قبلي إلى ديني.. وامتد إلى الوسط والشمال الشرقي والغرب والجنوب

TT

عندما تشكلت الحكومة الصومالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، تشكلت لإنهاء حرب أهلية نشبت على خلفية قبلية، غير ان الحكومة لم تنه الحرب، بل استمرت الاشتباكات والتوترات، غير ان الجديد هو ان خلفيتها تحولت من خلفية قبلية الى خلفية دينية، وذلك بعد صعود نفوذ بعض الجماعات الدينية. ولم تكن الاشتباكات الدامية بين الميليشيات الإسلامية التابعة للمحاكم الشرعية في الصومال وبين تحالف زعماء الحرب في مقديشو أو «تحالف السلام ومكافحة الإرهاب»، غير آخر التطورات التي تعيد المخاوف من اندلاع حرب أهلية جديدة في العاصمة مقديشو وفي مناطق أخرى من وسط وجنوب وغرب الصومال مع دخول أطراف أجنبية بقوة في المشهد السياسي الصومالي منذ تشكيل الحكومة الانتقالية الحالية. فبقدر ما كانت الحكومة الصومالية الأوسع من نوعها من خلال ضمها معظم زعماء الحرب الصوماليين وممثلي القبائل المختلفة، بقدر ما أدى ذلك الى استمرار الحرب بصيغة أخرى بين الفرقاء الصوماليين.

وقد أصبح ذلك واقعا، اذ سرعان ما انفجر الصراع داخل الحكومة والبرلمان وانقسما الى قسمين، فيما لم يجد الرئيس الصومالي عبد الله يوسف أحمد، ورئيس وزرائه علي محمد جيدي، مكانا ثابتا للحكومة التي شكلت في المنفى، الى أن منحهما أحد زعماء الحرب، وهو محمد عمر حبيب، حاكم منطقة «شبيلى الوسطى» مقرا مؤقتا لها بعد 6 أشهر من تشكيلها، لكن هذه الاستضافة لم تدم سوى عام واحد لتجد الحكومة نفسها مجددا فاقدة مقرا تعمل فيه حتي انتقلت في فبراير (شباط) الماضي الي مدينة «بيداوا» بجنوب غربي البلاد ( 250 كم الي الغرب من العاصمة) والتي هي الأخري أصبحت منطقة توتر، لتكون العوامل الطاردة للحكومة أكثر من الجاذبة لها في المرحلة الراهنة.

وقد دخلت عمليات «مكافحة الإرهاب» التي تقودها الولايات المتحدة الي الخط الصومالي بصورة علنية عندما تم الإعلان عن تشكيل «التحالف من أجل السلام ومكافحة الإرهاب» في مقديشو في 18 فبراير الماضي والذي يضم وزراء في الحكومة الانتقالية وعددا من قادة الميليشيات القبلية بدعم من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي اي ايه) لمطاردة عناصر من تنظيم «القاعدة»، تقول الـ«سي اي ايه» انهم يختبئون في العاصمة الصومالية بمساعدة الإسلاميين المسلحين. وفورا التقط الإسلاميون الإشارة واتهموا التحالف الجديد بأنه يسعى الى تسليم النشطاء الإسلاميين الصوماليين الى دول أجنبية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، واندلعت الحرب بين ميليشيات المحاكم الإسلامية المدعومة من قبل تيار عريض من الإسلاميين ورجال الأعمال، وبين ميليشيات تحالف مكافحة الإرهاب، وشهدت شوارع مقديشو معارك دامية بين الطرفين أعلنها الإسلاميون «جهادا»، وزعماء الحرب سموها «مكافحة الإرهاب»، وكانت هذه المعارك الأشرس من نوعها منذ سنوات طويلة ذكرت سكان مقديشو بأيام الحرب الأهلية الدامية بين القبائل الصومالية في بداية التسعينات من القرن الماضي. الصراعات بين الأطراف الصومالية في الماضي كانت قبلية بحتة لكن الحرب الأخيرة في العاصمة اختلفت عن سابقاتها حيث دخل العنصر الديني فيها لأول مرة فتحالف المحاكم الإسلامية يضم إسلاميين من شتى القبائل وكذلك الحال في تحالف مكافحة الإرهاب.

ونظرا لعدم وجود حكومة فاعلة في الصومال تتعامل معها الولايات المتحدة في حربها ضد ما تعتبره أنصار «القاعدة» في الصومال،فإن جينداي فريزر المسؤولة عن الملف الافريقي بوزارة الخارجية الأميركية قالت الأسبوع الماضي ان الولايات المتحدة تبحث عن حلفاء لمحاربة «القاعدة والعناصر الإرهابية في المنطقة»، وأحجمت عن تأكيد أو نفي دعمها لزعماء الحرب الصوماليين. وفيما كانت العاصمة مقديشو مشتعلة بين الإسلاميين وتحالف مكافحة الإرهاب، كانت مناطق أخرى من الصومال أيضا تشهد صراعات مختلفة بين القبائل تصب كلها في زيادة النفوذ والسيطرة على مزيد من الأراضي.

ففي وسط البلاد، وبالذات مناطق «مدغ» و«جلجدود»، تستعر المواجهات بين القبائل هناك، وأدت هذه الحرب الى تشريد آلاف السكان من الرعاة والقرويين والى إغلاق الطرق الرئيسية التي تربط بين المحافظات الوسطى من البلاد، وعلى الرغم من أن هذه الحرب لم تكن حربا سياسية بالكامل إلا أن الخسائر المادية والبشرية التي خلفتها كانت هائلة، الأمر الذي يجعل مهمة الحكومة الانتقالية ـ لو قدر لها البقاء ـ مستحيلة لإعادة الاستقرار اليها.

وفي شمال شرقي البلاد، اندلعت الحرب بين قوات ولاية «بونت» وبين ميليشيات قبلية إثر توقيع حكومة الولاية اتفاقا للتنقيب عن النفط والغاز مع شركة أسترالية في منطقة «مجايهن» بمحاذاة خليج عدن ورفضتها القبائل الساكنة هناك لأنها لم تعط نصيبها من الثروة المحتملة، ويحاول عدد من المحافظات الصومالية الانفراد بصفقات مع الشركات الأجنبية للتنقيب عن النفظ والغاز والمعادن الأخرى في مناطقها بعيدا عن سيطرة الحكومة الانتقالية الضعيفة التي لا تقدر على منع ذلك ليتحول الصراع على الثروة الى حرب بين القبائل والإدارت المحلية للمحافظات التي تشكلت بنفسها.

وفي بيداوا بجنوب غربي البلاد، لم تسلم الحكومة الانتقالية في المقر الجديد الذي انتقلت إليه من المشاكل، حيث اشتبكت ميليشيات تابعة للرئيس مع ميليشيات قبلية في المنطقة، الأمر الذي أدى الى توقف الحياة في مدينة بيداوا نفسها، وتعرض قائد ميليشيات الرئيس عبد الرزاق أفجدود الى محاولة اختطاف داخل المدينة على خلفية الأزمة بين ميليشيات الرئيس والميليشيات القبلية في المنطقة. وهدد مسلحون قبليون بطرد ميليشيات الرئيس من المنطقة، ومع أن الأمر لم يخرج عن السيطرة بعد الا أن الوضع هناك مشحون جدا وخاصة بعد تدفق آلاف الميليشيات القبلية الي المدينة مطالبة بتوفير مرتبات ومؤن غذائية لهم، وهو الأمر الذي وعدت به الحكومة الانتقالية منذ أشهر، لكنها لم تنفذ ذلك الوعد بسبب عدم وصول الأموال التي وعدت بها الجهات المانحة.

وفي أقصى الجنوب الصومالي، تعتبر مدينة «كيسمايو» الساحلية مطمعا لكثير من القبائل الصومالية حيث يعطي موقعها الاستراتيجي أهمية خاصة لها، ومن يسيطر عليها يتحكم في مناطق واسعة من جنوب البلاد وهي أكثر المناطق توترا في الصومال بعد العاصمة مقديشو وجرت فيها معارك دامية بين أكثر من طرف كان آخرها الشهر الماضي الذي اندلعت فيه المعارك داخل «تحالف وادي جوبا» الذي يسيطر على المدينة، ولا تزال مرشحة لمزيد من الصراع المسلح للسيطرة عليها.

وعلى الساحل الصومالي، تدور معارك أخرى بين الميليشيات المسلحة التي تحولت الي مجموعات من القراصنة وسفن الصيد الأجنبية وكذلك العابرة للمياه الصومالية وتقوم هذه الميليشيات بخطف السفن واقتيادها الى الشاطئ الصومالي للمطالبة بمبالغ مالية ضخمة مقابل الإفراج عن هذه السفن وطواقمها وقد وقع في أسرهم حتى الآن أكثر من أربعين سفينة وباخرة خلال الـ 12 شهرا الماضية. وقد دخلت البحرية الأميركية ـ التي تراقب السواحل الصومالية في إطار مكافحة الإرهاب ـ في هذا الصراع واشتبكت مع القراصنة الصوماليين أكثر من مرة واعتقلت مجموعة منهم تحتجزهم حاليا في كينيا. وهدد نشاط القراصنة الصوماليين وصول المساعدات الإنسانية المتوجهة الي المتضررين من الجفاف في مناطق واسعة من الصومال حيث أصبحت سفن الأمم المتحدة مستهدفة من قبل القراصنة. وعلى ضوء قراءة تسلسل الأحداث في الصومال، فإن الوضع شبيه فيها بعام 1992، أي من حيث تأزم الوضع السياسي والفوضى السائدة في عموم البلاد الى جانب الكارثة الطبيعية المتمثلة بالجفاف والمجاعة التي اجتاحت الصومال آنذاك والميليشيات القبلية التي كانت تنهب المساعدات المتوجهة الى المنكوبين، وهذه الأمور مجتمعة كانت هي التي استدعت التدخل الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي سمي بعملية «إعادة الأمل». ومع أن تلك العملية ساهمت بشكل كبير في تخفيف المعاناة عن الجوعى في الصومال وتهدئة الصراع المسلح في بعض المناطق، الا أنها خرجت عن مسارها فيما بعد عندما تحولت شوارع مقديشو الي ساحات حرب بين القوات الأميركية والميليشيات القبلية الصومالية أدت الى سحب الولايات المتحدة جنودها من الصومال تاركة المهمة للأمم المتحدة التي انسحبت هي الأخرى من الصومال في أبريل (نيسان) عام 1995 لتدخل البلاد بعدها في دوامة التناحر القبلي، وتصارُعِ زعماء الحرب على الإمساك بالنفوذ في الصومال. والحالة الراهنة الآن عام 2006 لها نفس الملامح فالوضع السياسي الحالي في الصومال متأزم وأركان السلطة الجديدة في خلاف متفاقم، وخطر الجفاف والمجاعة يطل برأسه من جديد فيما الميليشيات القبلية عينها على المساعدات الإنسانية المتوجهة الي المنكوبين، علاوة على الصراع بين الإسلاميين وزعماء الحرب، وكذلك الصراع على الثروة الباطنية المحتملة.

بعض الناس بمن فيهم قادة الحكومة الانتقالية يعولون على التدخل الخارجي، سواء من قبل قوة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة أو قوات عربية أو أفريقية حسبما تقترح الحكومة الحالية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو؛ هل الاتحاد الافريقي الذي يعاني من شح في الموارد المالية في مناطق تدخل فيها مثل دارفور، مستعد لفتح جبهة تدخل أخرى في الصومال تتطلب أموالا إضافية وإمكانيات لوجيستية ضخمة فضلا عن أنه ليس هناك سلام أو وقف إطلاق نار تحفظه هذه القوات في بلد تكاد مساحته تقرب من نصف السودان يقطنه عشرة ملايين، أكثر ما يعرفونه هو السلاح والحرب والفوضى؟ ونفس الأمر ينطبق على الجامعة العربية التي هي أصلا متحفظة على التدخل العسكري. وكل المؤشرات تؤكد على استمرار الصراع في الصومال لفترة أطول متخذا أشكالا متعددة خاصة بعد تورط قوى دولية، أبرزها الولايات المتحدة، في بعض تفاصيله بعد أن كان الصراع الصومالي ذا طبيعة عشائرية متكافئة، فهو يتحول الى ميدان تصفية بين القوى الإقليمية والدولية.