شيخ الانقسام

منتقدو الترابي يرون أن فتاواه الأخيرة لا تخلو من أغراض سياسية داخلية وخارجية .. وأنصاره يعتبرونها مواقف جريئة

TT

كان الدكتور حسن عبد الله الترابي، السياسي السوداني وأحد الرموز البارزين للحركة الإسلامية، شخصية أثارت الكثير من الجدل داخل بلاده وخارجها، بتقلباته السياسية ومواقفه وآرائه جول العديد من القضايا الفقهية. ومثلما قسم الترابي الساحة السياسية السودانية في عدة مراحل تاريخية فقد انقسم الناس حوله بين من يراه سياسياً ميكافيلياً لا تهمه الوسيلة التي توصله إلى غايته السياسية، وبين مريديه وأتباعه الذين لا يشيرون إليه إلا بلقب «الشيخ»، يتبعون آراءه السياسية ويدافعون عن مواقفه الفقهية بغض النظر عن الجدل الذي تثيره.

ومنذ خروجه من الاعتقال قبل بضعة أشهر بعد الانقسام الذي حصل في حركته وأدى إلى انقلاب عدد من أتباعه ومريديه القدامى عليه، أدلى الترابي بتصريحات وآراء أثارت الكثير من اللغط، لعل أكثرها إثارة للجدل الفتاوى التي أطلقها أخيراً حول جواز زواج المرأة المسلمة من المسيحي أو اليهودي. فهناك من كفر الترابي، وهناك من اتهمه بالسعى الى تسويق نفسه للغرب في وجه جديد يبعد عنه تهمة «الشيخ الإرهابي»، في نظر الكثير من الدوائر، ومراكز الدراسات الغربية. واتهمه آخرون بالزندقة والسعي الى محاكمة النصوص بصورة لا تمت الى الاجتهاد بصلة.

لكن الترابي، أحد مؤسسي حركة الاخوان المسلمين الحديثة في السودان والمعروفة بـ «الحركة الاسلامية» قال قولته ومضى، لم يعلق كثيرا، ولم يضف كثيرا لما افتى به، واكتفى في كل أقواله من بعد، في المنابر العامة والخاصة ومع مجالسيه «بأن من يرى خلاف ما افتى به، عليه ان يأتي بالحديث والسنة قبل ان يطلق الاتهامات التي لا تمت الى الاجتهاد في شيء». ووصف من يحرم ذلك بأنه مجرد «أقاويل وتخرصات وأوهام وتضليل»، الهدف منها جر المرأة إلى الوراء، وقال إن «التخرصات والأباطيل التي تمنع زواج المرأة المسلمة من الكتابي، لا أساس لها من الدين، ولا تقوم على ساق من الشرع الحنيف». وأضاف «وما تلك الا مجرد أوهام وتضليل وتجهيل واغلاق وتحنيط وخدع للعقول، الإسلام منها براء».

وحسب الترابي فإن من حق المرأة المسلمة، أن تؤم الرجال وتتقدم الصفوف للصلاة، إذا كانت أكثر علما وفقها في الدين من الرجال، وشدد على أن الاسلام لم يحرم أو يمنع إمامة المرأة وتقدمها للرجال في الصفوف، وضرب مثلا بالسيدة عائشة زوجة الرسول، التي كانت اكثر فقها وعلما من الرجال. وأجاز الترابي كذلك الصلاة المختلطة بين الرجال والنساء، شريطة التباعد وعدم الاحتكاك. ولم تتوقف فتاوى الترابي عند هذا الحد حول موضوع المرأة، إذ كان قد أفتى بأن شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل تماما وتوازيه بناء على هذا الأمر، بل أحيانا تكون أفضل منه وأعلم وأقوى منه، ونفى أن شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد، وقال «ليس ذلك من الدين أو الإسلام، بل هي مجرد أوهام وأباطيل وتدليس أريد بها تغييب وسجن العقول في الأفكار الظلامية، التي لا تمت للإسلام في شيء». وتحدى الترابي في هذا الخصوص «من يثبت صحة كل تلك الأباطيل أو يأتي بما يؤكدها من الكتاب والسنة».

وانبرى كثيرون للرد على الترابي في ما أفتى به، وأصدرت الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة وهي من تجمع للسلفيين في السودان، بياناً قالت فيه «هذا شأن الترابي في جميع المراحل السابقة، ومن قبل ضرب على رأسه في كندا (في اشارة الى تعرضه للضرب من بطل الكاراتيه السوداني هاشم بدر الدين في كندا العام 1992) ومن بعد ذلك، فليس هو المعتوه والمجنون فيما يزعمه ويعتز به، ولا هو الجاهل فيما يهرب به ويستبح، ولكنه في كل حين يتمطي ظهر التيه، ومبرهنا على الغي الموفي به الى الزندقة». وقالت الرابطة ان الترابي في حقيقته داعية الى غير دين الاسلام، ودعت «المعجبين به عن جهالة الى قراءة متأنية لأفكاره والوقوف بعناية على تصريحاته».

وقال الدكتور يوسف الكوده، القيادي في جماعة انصار السنة المحمدية السلفية في السودان لـ «الشرق الأوسط» إن الترابي يجتهد في مقابل النصوص «وهذا مرفوض»، وأضاف «كل فتاواه الاخيرة باطلة».

وكان هناك أيضاً من يختلف مع الترابي اختلافا مرفقا باسقاطات سياسية، ويعتقد خصومه من هؤلاء ان الترابي بفتاواه هذه يعتذر للغرب عن فترة عمله في «حكومة الانقاذ» التي يقودها الفريق عمر البشير والتي كانت قد وصلت إلى السلطة بانقلاب دبرته ودعمته الجبهة القومية الإسلامية بقيادة الترابي عام 1989. وفي هذا الإطار يقول الشيخ عبد الجليل الكاروري، القيادى البارز في الحركة السلامية في السودان وهو موال للرئيس البشير، إن الترابي «يفتي في ما لا يحقق مصالح الأمة الاسلامية بل يحقق مصالح الأعداء، يريد ان يقول لهم إنه لا علاقة له بتهمة الارهاب التي يدمغونه بها». ويرى الكاروري ان الترابي بفتاواه هذه «يسعى الى تحقيق دور اخر له في مقبل الايام، ولكنه بذلك يسبب احراجا اجتماعيا».

وفي مقابل الهجوم الخارجي والداخلي على الفتاوى التي أطلقها أخيراً انبرى أنصار الترابي للدفاع عنه. وفي هذا الإطار قال ياسين عمر الإمام، أحد شيوخ الحركة الاسلامية والمؤسسين لها، لـ«الشرق الأوسط»: إن الترابي يطلق آراء دينية وفتاوى جريئة ومن يرد عليه يجب ان يستخدم لغة الحوار معه». وتحدى الإمام منتقدي الترابي أن يعرضوا الاسانيد والأدلة من القرآن والسنة «بدلا عن خطف الكلام والتكفير بدون وجه حق». وأضاف الإمام أن الترابي «يتصدى الى علماء النصوص التقليدية، العلماء الذين دخلوا نفق النصوص الفقهية ولم يخرجوا منها ابدا رغم تطور وحركة الحياة والظروف». وهاجم الإمام الذين يدعون إلى تقديم الترابي للمحاكمة بتهمة الردة، وقال «هؤلاء جهلة يهربون من محاورته ويخشون ان يقولوا للحاكم انت ظالم، هم الاولى ان يحاربوا اليهود الذين يقتلون الابرياء، ويواجهون أميركا التي تقتل الان العراقيين».

ومثل العديد من انصار الترابي يتحدى الإمام من يهددون الترابي باباحة دمه، ويقول «ها هو فليأتون لقتله، فان حياته اصلا معرضة للخطر لانه يريد ان يقول الحق في الدين وفقا للاحكام والظروف ومستجدات الحياة وفك جمود التقليديين».

وبغض النظر عن نتيجة الجدل الحالي فإن الكثيرين يرون أن الترابي لن يتوقف عن إثارة الجدل سواء بمواقفه السياسية أو اجتهاداته الدينية. ويشير الكثيرون من انداد الترابي في الحركة الإسلامية الى ان مواقف الرجل في اصدار الفتاوى المثيرة للجدل ليست جديدة، ويشيرون الى ان الكثير من مثل هذه المواقف مضمنة في مؤلفات سابقة للترابي ولكنها جاءت هادئة» وقتها، وليست بالصورة الواضحة والمتكررة كما يحدث الان، والسبب حسب رأيهم محاولته استفزاز خصومه في الجانب الاخر للحركة الاسلامية، أي في «المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة البشير».

وفي هذا الصدد يقول الدكتور الطيب زين العابدين، الاسلامي البارز في السودان، ان فتاوى الترابي «لا تخلو من أغراض سياسية داخلية وخارجية، فهي تبدو متعجلة ترتبط بالمناسبات». ويتفق زين العابدين مع القائلين بانها «جرأة قديمة من الترابي لإحراج علماء الدين الذين يعتقد انهم لا يسايرون حركة الحياة والتي تطالب المسلمين بإعادة النظر في بعض مقولاتهم ويريد ان يقول ان انقطاع تطبيق الاسلام في حياة الناس جعل بعض الفتاوى قديمة».

ويشير علماء الدين الذين ينتقدون الترابي إلى كثير من فتاواه المثيرة للجدل مثل استباحته الارتداد عن الاسلام، وإنكاره إقامة الحد على المرتد، ورأيه في هذا الخصوص ان من حق اي مواطن في دولة الاسلام تغيير دينه. كذلك يشيرون إلى أن الترابي اجاز قيام ما وصفه بجبهة اهل الايمان التي تضم «المسلمين والنصارى واليهود»، وقوله «اعتقد ان النصراني اقرب اليّ ممن ينافقني ويدعي الاسلام»، وأن «النصارى ما هم كفار وهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والمسلم ممكن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض».

ويعتبر الترابي ان الرقص والغناء والموسيقى قسم من اقسام التوحيد والعقيدة الاسلامية حيث يقول ان «فقه العقيدة الموروث الذي نشأ عليه يجعل الفن شعبة من شعاب ايماننا وتوحيدنا ويهيبنا لان نتذكر الله بالجمال وصنعه ونعبده من خلاله». ويضيف ان «الرقص تعبير جميل يصور معنى خاصا بما تنطوي عليه النفس البشرية... ولا ننكر ان في الغرب رقصا يعبر عن معان اخرى كريمة». كما يؤيد الترابي ان الانسان اصله قرد وان نظرية داروين لا تعارض القرآن الكريم، ويقول في هذا الشأن «لا ارى تعارضا في القول بان الانسان اصله قرد مع النص القراني». وأفتى أيضاً أن الخمور لا تكون جريمة إلا اذا تحولت الى عدوان، ودعا الى الاختلاط بين النساء والرجال، ويقول في هذا الشان «ان عزل الرجال عن النساء يضر بالمجتمع وينشر فيه الرجس وعدم الطهر». من هنا فإن الضجة التي أثارتها فتاواه الأخيرة لن تكون نهاية الجدل حول رجل لم يتوقف عن إثارة الجدل منذ دخوله الحياة السياسية في السودان من أوسع أبوابها منذ أكثر من 42 عاماً. فهو كما يبدو يعشق الجدل ولا يستطيع الابتعاد عن الأضواء.