نيويورك.. البيضاء أكثر

يتناقص عدد السود في المدينة باطراد لأسباب اقتصادية واجتماعية.. فما هي؟

TT

هل يختفي عرق من مدينة معينة لدواع اجتماعية واقتصادية؟ الإجابة هي نعم. والدليل هو الانخفاض المطرد لأعداد السود في مدينة نيويورك الأميركية. فقد أوضحت إحصائية جديدة أن نسبة الأميركيين السود في نيويورك انخفضت الى رقم قياسي، وكادت تصل الي ما كانت عليه خلال الحرب الأهلية الأميركية، قبل مائة وخمسين سنة. كانت النسبة، في ذلك الوقت، 10% من السكان. ووصلت، قبل ثلاثين سنة، الي 30%. لكنها تنخفض الآن الي اقل من 20%، وبمعدلات الانخفاض الحالية ستصل الي نحو 10% مجددا قريبا. وبسبب هذه الظاهرة وصف وليام فراي، خبير السكان في معهد «بروكنغز» في واشنطن، ما يحدث لسود نيويورك بأنه «هجرة جماعية». لم يقل أي أسود أو سوداء إن التفرقة العنصرية كانت سبب هجرته من نيويورك. وذلك لأن بعضهم هاجر الي ولايات الجنوب، حيث توجد تفرقة أو بقايا تفرقة أكثر من نيويورك التي تعد مدينة ليبرالية منفتحة متعددة، ومتنوعة التكوين العرقي واللغوي أكثر من أي مدينة أميركية أخرى. لكن البعض يهاجر لأسباب اقتصادية، تتعلق بارتفاع تكلفة الحياة في نيويورك، أو لأسباب اجتماعية تتعلق بارتفاع معدلات الجريمة، وقلة فرص العمل. فقد هاجرت جاكلين دوويل، رئيسة تحرير نشرة شهرية في مركز ثقافي في هارلم، لأنها «وجدت أن الحياة في ولاية نورث كارولينا أرخص منها في نيويورك». وهاجرت غلاديس فيفورز، الموظفة في مكتب عضو مجلس بلدية نيويورك، لأنها «مطلقة، وعمري 50 سنة، وعمر ولدي 10 سنوات. خفت عليه من الجرائم، ولأن الأولاد السود في نيويورك مكتوب عليهم الفشل». وهاجرت كرستين ويغنز، مساعدة مدير فرع بنك، لأنها «سئمت من الزحمة والحركة والضجيج والسرعة».

لكن فراي، خبير السكان في معهد «بروكنغز» في واشنطن، لاحظ انه بينما يتناقص أعداد الأميركيين السود، يتزايد أعداد السود المهاجرين. وفرق بين نوعين من السود: أميركيين (أحفاد الرقيق)، ومهاجرين (جاءوا، خلال الثلاثين سنة، من أفريقيا وجزر البحر الكاريبي)، انخفضت نسبة المجموعة الأولي، وارتفعت نسبة المجموعة الثانية.

وقد عقد قادة المهاجرين الأفارقة، في السنة الماضية، مؤتمرا في جامعة «كولومبيا» في نيويورك، حضره مندوبو أكثر من 150 منظمة. وتوضح القائمة هويات الدول التي جاءوا منها، فعلى سبيل المثال هناك اتحاد السنغاليين في نيويورك، وتحالف النساء الإثيوبيات لدعم متبادل، وكنيسة غانا لليوم السابع، وقوات تحرير موريتانيا، وجمعية غامبيا في نيويورك، والكنيسة الغانية الإصلاحية، وحركة البحيرات العظمي (منطقة منابع النيل)، وتحالف النوبيين (مصريون وسودانيون)، ومجلس مالي الأعلى لما وراء البحار، ودورية «الهجرة الأفريقية الي الغرب»، والجمعية النيجرية الكاثوليكية، ومركز مساعدة مهاجري نيجريا، واللجنة السنغالية الثقافية، والكونغرس الأفريقي المتحد، ونادي الشقيقات الأفريقيات، وشبكة رجال الأعمال الأفارقة، والمجلس الاقتصادي الأفريقي. لكن ما هو الخط الفاصل بين المهاجرين الأفارقة والأميركيين السود؟ قالت د. ليندا بيك، نائبة عميدة قسم الدراسات الأفريقية في جامعة كولمبيا في نيويورك، «يجب ألا يكون اللون هو المقياس الرئيسي للحكم علي هويات الناس. لا هنا في أميركا، ولا في أي مكان آخر. وليس صدفة أن القسم الذي أعمل فيه اسمه «الدراسات الأفريقية»، وليس «دراسات الأميركيين الأفارقة».

لكن بسبب وحدة اللون، ليس سهلا تقسيم سود نيويورك الي اميركيين سود، ومهاجرين أفارقة. لكن إحصائية أصدرها قسم الدراسات الأفريقية في جامعة كولومبيا أوضحت أن المهاجرين الأفارقة (وسود البحر الكاريبي وكوبا والمكسيك والبرازيل وغيرها) يشكلون أكثر من 5% من سكان نيويورك، أي خمس كل السود (يشكلون 25% من جملة السكان).

وبالإضافة الي البيض والسود، قويت مجموعة عرقية جديدة في نيويورك، وهم السمر، المهاجرون من أميركا الوسطي والجنوبية. ويسمون «لاتينيين»، أو «ناطقين باللغة الإسبانية»، أو «إسبان»، أو «هسبانيك». ويشكل هؤلاء نسبة 25% من جملة السكان، ويزيد عددهم بنسبة عالية، ليس في نيويورك فقط، ولكن، أيضا، في كل أميركا. ولم تكن نيويورك تاريخيا رحيمة مع السود، فقد ظل سود نيويورك مضطهدين حتي انتقلوا، قبل 100 تقريبا، الي حي هارلم الذي اشتهروا به، والذي اشتهر بهم، حتي اليوم.

لكن حي هارلم تأسس قبل 200 سنة كمنطقة للمهاجرين من هولندا (سموه علي اسم مدينة هارلم في هولندا). أسسه الهولنديون، لكن الرقيق السود هم الذين بنوه. أحضرتهم سفن شركة «دتش ويست إنديا» الهولندية من أفريقيا، وهي نفس الشركة التي مهدت لاستعمار إندونيسيا وجزر في البحر الكاريبي. (كانت مثل شركة «بريتش إيست انديا» التي مهدت للمستعمرات البريطانية). بدأ الهولنديون «هارلم سندروم» (مرض هارلم المتلازم): تركوا الحي بعد أن تحسنت أحوالهم. وانتقل بعدهم الي هارلم مهاجرون بريطانيون، ثم تركوه بعد أن تحسنت أحوالهم. ثم المان، ثم فرنسيون، ثم إيطاليون، ثم يهود من شرق أوروبا مع بداية القرن العشرين.

ثم جاء، مع الحرب العالمية الأولي، دور السود. زحفوا بأعداد كبيرة من ولايات الجنوب هروبا من التفرقة العنصرية، ولملء الوظائف التي خلت بتجنيد الجنود في الحرب. وخلال سنوات قليلة خلت هارلم من أي جنس أو لون غيرهم. وانخفض مستوى الحياة فيها، وزادت مسدساتها، وجرائمها، واغتيالاتها، ومخدراتها. لكن السود بدأوا ما عرف بـ«عصر نهضة هارلم»، وشيدوا المسارح والأندية الأدبية ومطابع الصحف والكتب. وظهرت «حركة الزنجي الجديد»، وظهر أول جيل من المثقفين السود. هنا ولد دبليو دوبوي، أول أسود نال دكتوراه من جامعة هارفارد (كان عنوان رسالته: «كبت الرقيق في ولايات الجنوب»). وهنا ألف لانغستون هيوز قصيدة «زنجي يتكلم عن الأنهار (الكونغو والنيل ودجلة والفرات)». وهنا عزف لوي آرمسترونغ، أعظم عازف ساكسوفون في القرن العشرين، لحن «احزان الطرف الشرقي» الذي صور حالة السود. وهنا تعلم المغني مايكل جاكسون الغناء. وهنا ولد كولن باول، أول أسود يصبح قائدا عاما للقوات الأميركية أو وزيرا للخارجية.

وعكست ثقافة وإعلام نيويورك جانبين في حياة سودها: سلبي ربط السود بالقتل والجرائم والمخدرات، وايجابي عكس تطور حالهم. فقد عرضت دور السينما في نيويورك، قبل 40 سنة، فيلم «خمن من سيأتي للعشاء» عن شاب اسود أحب بنتا بيضاء، بينما منعت ولايات الجنوب عرض الفيلم لأنه «يؤذي مشاعر الناس». وعارض، في ذلك الوقت،50% من بيض نيويورك هذا الحب المختلط، بالمقارنة مع 96 % في كل أميركا. وكانت نيويورك واحدة من عشر ولايات فقط لا تمنع زواج البيض والسود. وقبل خمس سنوات نقل الرئيس السابق بيل كلينتون مكتبه من البيت الأبيض الي عمارة في هارلم، وقال انه فعل ذلك كدليل على حبه للسود. وأحب، في الجانب الآخر، كثير من السود كلينتون (وصفه بعضهم، تجاوزاً، بأنه «اول رئيس اسود لأميركا»).

لكن هجرة كلينتون الي هارلم جاءت متأخرة بعض الشيء، لأن «هارلم سندروم» (مرض هارلم المتلازم) دار دورة جديدة. وجاءت موجات مهاجرين جدد: أولا، جاء سمر يتكلمون اللغة الإسبانية، من المكسيك ودول أميركا الوسطي والجنوبية. ثانيا، جاء سود من أفريقيا وجزر البحر الكاريبي. ثالثا، جاء بيض من أحياء نيويورك المجاورة، يبحث كل واحد عن شقة رخيصة بعد ان ارتفعت أسعار الشقق في الحي الذي كان يسكن فيه.

وجاء موسم هجرة السود الي مناطق اخري. وقالت جريدة «نيويورك تايمز» إن ثلاثين ألف أسود تركوا نيويورك خلال السنوات الخمس الماضية. وقالت إن غالبيتهم عادت الي ولايات الجنوب (بعد مائة سنة من بداية هجرة مضادة). عادوا الي ولايات مسيسيبي، وجورجيا، وألاباما، حيث كان أجدادهم رقيقا وعمالا في مزارع القطن. لكنهم عادوا أكثر تعليما، وثروة وحرية. واشترى واحد من أثريائهم، وهو هنري هوانتوب، منزلا كبيرا في ريف ولاية جورجيا كان يملكه، قبل مائة وخمسين سنة، إقطاعي ابيض. ولم ينس هوانتوب أن يحتفظ، كذكري، بغرف جانبية بائسة كان يسكن فيها عبد أسود.