إحكام الحصار

بعد فتح تحقيق بقضية «المال مقابل الألقاب».. بلير يواجه أصعب فترات حكمه

TT

«لنسجن بلير»... «بلير يشعر بالضغط»...«على بلير دفع ضرائب سفراته الخاصة»... «دقة الشرطة الآتية قد تكون على باب 10 داونينغ ستريت (مقر إقامة بلير)»... كل هذه عناوين اخبار من صحف بريطانية الاسبوع الماضي خصت رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والتي لحقت اسابيع من العناوين والاخبار المشابهة التي أظهرت تفاصيل عن تلاعب مادي من نوع أو آخر، لتأتي صحيفة «واشنطن بوست» الاميركية وتضيف «البريطانيون يشعرون بالملل من توني» بلير، ذلك الرجل الذي اعاد حزب العمال الى حكم بريطانيا عام 1997 بعد انحصارهم في الجبهة المعارضة البرلمانية منذ عام 1979 حين اصيب الحزب بالاحباط في خسارته انتخابات برلمانية تلو الاخرى، يواجه احدى اصعب فترات حكمه اليوم.

كان بلير في سن الـ 44 عندما قاد حزب العمال لكسب الانتخابات ليصبح اصغر رئيس وزراء سناً منذ عام 1812 ويضفى جواً جديداً من الحيوية على الحياة السياسية البريطانية. أتى بوعود لإنهاء عجز حكم حكومة حزب المحافظين الذي تزعزع بقيادة رئيس الوزراء السابق جون ميجور بعد سنوات من تسلط المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر. الا ان الصورة اختلفت اليوم، وبعد حوالي عقد من الحكم تغيرت الصورة العامة عن بلير بسبب سلسلة من المشاكل والتساؤلات عن تعاملات مادية متعلقة به وأقرب المقربين له، وأول تلك الحوادث كانت المتعلقة ببيتر ماندلسون، مفوض التجارة الخارجية في الاتحاد الاوروبي حاليا، ووزير التجارة السابق في حكومة بلير الاولى، والذي اخذ قرضاً بقيمة تفوق 370 الف جنيه استرليني من دون اعلام مصرفه عام 1998. وادت تلك القضية الى استقالة ماندلسون لعدم إحراج بلير، إلا انها لم تكن الاخيرة من نوعها.

وبينما واجه بلير ازمات سياسية ومواقف محرجة عدة في السنوات التسع الماضية، الا ان التهمة الاخيرة الموجهة له هي الاكثر اهمية وحساسية. ففضيحة «المال مقابل الالقاب» تتهم حزب العمال بمنح المتبرعين له، او الذين يزودونه قروضاً، بقيمة 10 ملايين جنيه استرليني، لقب «لورد» وكل ما يحمله اللقب من فوائد. واصبحت هذه القضية التي مازالت لم تظهر جميع تفاصيلها، بعد حوالي شهرين من ابرازها على الصفحات الاولى من الصحف البريطانية، اقرب الى الفضيحة السياسية بعدما فتحت الشرطة البريطانية تحقيقاً رسمياً بالموضوع وتفكر بإمكانية استجواب بلير بعدما بدأت باستجواب شخصيات قريبة منه. ومنذ الاعلان عن هذه الفضيحة ظهرت قصص مماثلة، مثل استخدام بلير طائرات القوة الجوية الملكية 677 مرة منذ توليه منصبه، ليكلف ذلك دافعي الضرائب حوالي 1.22 مليون جنيه استرليني ولتشمل بعض هذه الرحلات سفرات عائلية خاصة. وادت هذه القضية الى المزيد من الاستهجان بين معارضيه.. وحتى بعض مؤيديه. وقال جون كريغ، الباحث في مؤسسة «ديموس» الفكرية البريطانية والقريبة من حزب العمال لـ«الشرق الأوسط»: «من الضروري تحليل هذه القضايا في اطار العلاقة الشخصية جداً بين توني بلير والشعب البريطاني، وخاصة المصوتين له». وأضاف «في عام 1997 وعد بلير الشعب البريطاني بأنه سيكون قريبا منهم وبنى علاقة خاصة بينه وبينهم مباشرة، وهذا ما جعل له حصانة في السابق، الا ان اية مشاكل مبنية على تصرفاته المباشرة تؤدي الى ضرر كبير له فتستهدف شعبيته ومكانته بين المصوتين». وأظهر إحصاء اجرته شركة «اي سي ام» بالتعاون مع صحيفة «نيوز أوف ذا ورلد» قبل ثلاثة اسابيع ان 42% من الذين شملهم الاحصاء يرغبون بتخلي بلير عن منصبه «الآن»، بينما طالب 21% منهم ان يتمسك بمنصبه حتى بعد الانتخابات المقبلة. وتابع كريغ ان الأسابيع المقبلة ستثبت استطاعة بلير على اعادة «علاقته بالمصوتين من الطبقة الوسطى الذين أوصلوه الى الحكم أساساً».

وكان بلير قد صرح العام الماضي انه ينوي التنحي عن منصبه قبل الانتخابات المقبلة (التي يجب اجراؤها قبل عام 2010 ولكن باستطاعة الحزب الحاكم ان يقرر موعدها كما يشاء خلال هذه الفترة)، ليفسح الطريق امام الرجل الثاني في حزب العمال وزير المالية البريطاني غوردون براون ليتسلم الحكم. وبعدما كان بلير وبراون فريقاً واحداً، استطاع ان يوصل حزب العمال الى الحكم، اصبحت المنافسة بين الرجلين واضحة في السنوات الأخيرة، اذ بدت الخلافات بينهما، إذ سعى براون الى اخذ زمام الامور بنفسه. ولفت المحرر في المؤسسة الفكرية البريطانية (مركز الدراسات السياسية) تيم نوكس الى ان «براون يحاول ان يثبت مسافة بينه وبين بلير لتصبح جميع التساؤلات عن النزاهة مرتبطة بشخص بلير ولا تؤثر على فرص حزب العمال بكسب الانتخابات المقبلة وفرص براون لتولي منصب رئاسة الوزراء». وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «كلما اثرت هذه الفضائح على بلير شخصياً، استفاد براون». وبما ان القانون البريطاني ينص على أن لا تكون أية علاقة لوزير المالية البريطاني بجمع الاموال لحزبه، فقد ساعده ذلك منذ البداية على ان يكون بعيداً عن الفضيحة الاخيرة المتعلقة بمنح الالقاب. وبينما يتحدث المراقبون عن الضرر السياسي الذي ستلحقه هذه الفضيحة وغيرها من المشاكل ببلير في هذه الفترة الحرجة، ينظرون ايضاً الى «تركة بلير». فمنذ توليه منصبه، عرف رئيس الوزراء البريطاني باهتمامه بمكانه في التاريخ البريطاني وتحدث في مقابلات عدة عن رغبته بأن تكون تركته للمملكة المتحدة جملة من الاصلاحات في مجالات عدة، من الخدمات الصحية الى محاربة الجريمة. وقال نوكس: «بسبب اهتمامه بتركته التاريخية، واصراره على ترك منصبه في الوقت المناسب وفي أوج شعبيته، لن يتخلى عن منصبه الآن في وقت تؤثر هذه الفضائح على سمعته»، مضيفاً: «يجب ألا ننسى قدرة بلير على الخروج من المآزق عادة». ورأى كريغ انه «من الصعب الحكم على تركة بلير الآن، ولكنها اكبر بكثير من فضيحة المال مقابل المناصب». الا انه اردف قائلاً: «ستترك الحرب على العراق اثرها على تاريخ بلير، وهذه هي المشكلة الاكبر له، فالسياسة في العراق كانت سببَ احراجٍ واحباطٍ له ولحزبه وسيحمله الشعب مسؤولية ذلك». وبينما ينتظر الشعب البريطاني نتيجة التحقيق بـ«المال مقابل الالقاب»، يعمل بلير على صيانة سياساته داخل البلاد، وعملية انتقال السلطة داخل حزبه.. فمسألة تنحيه عن منصبه أصبحت مسألة وقت فقط.