صدمة التغيير

TT

قرار الحكومة السورية تحرير أسعار المطاعم في الآونة الاخيرة جاء ضمن خطة الحكومة الاقتصادية الهادفة إلى تحرير الأسواق عموماً بعد اعتماد سياسة «اقتصاد السوق الاجتماعي» (تعبير سوري يقصد به الجمع بين الليبرالية الاقتصادية والدعم الاجتماعي) الصيف الماضي، كواحد من توصيات حزب البعث العربي الاشتراكي (الحزب الحاكم) منذ حوالي أربعة عقود، طُبق خلالها الاقتصاد الاشتراكي القائم على احتكار الدولة للتجارة والصناعة والتحكم بالأسعار ودعم المواد الأساسية. التحول الاقتصادي الذي تقوده دمشق حاليا، في محاولة لدفع عجلة الاقتصاد، تفضل أن يتم بالتدريج، وقد سبقته مجموعة كبيرة من القرارات لتمهيد أرضية له، من حيث السماح باستيراد البضائع الأجنبية، ودخول كثير منها عبر اتفاقية التجارة الحرة مع بعض الدول العربية، بالإضافة إلى افتتاح بنوك خاصة بعد أن كان القطاع المصرفي حكراً على القطاع العام، والبدء بتحرير السوق، والسير باتجاه رفع الدعم عن المواد التموينية الأساسية والمحروقات، التي تباع للمواطن السوري بأسعار مخفضة، تتناسب مع مستوى الدخل المتدني، الأمر الذي بات يشكل عبئاً كبيراً على الدولة وبالأخص ما يتعلق بالمحروقات التي يتم تهريبها الى دول الجوار ليذهب الدعم الى غير مستحقيه، بالإضافة الى استغلال الفاسدين لسياسة الدعم، التي نجم عنها الكثير من الأمراض المستعصية، ولم تعد معالجتها هينة. وبسبب «خصوصية» الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، فإن تحرير الاقتصاد يتم بحسب ما يرى الكثير من الخبراء الاقتصاديين بالاستفادة من التجارب العالمية الأخرى كالماليزية والصينية، اذ جرى العمل على تحرير السوق مع الإبقاء على بعض القوانين الهادفة إلى رعاية الدولة للمواطن كمحاولة تجنب إحداث صدمة من جراء المتغيرات المفاجئة. أما قرار تحرير أسعار المطاعم فقد اتخذ بغية ربط السعر بالجودة وفق المعايير المعتمدة عالمياً على أن تلتزم المنشآت التي ترغب بتحرير أسعارها بشروط وزارة السياحة السورية من حيث الإعلان عن الأسعار ولوائح الطعام وطريقة عرضها، ومظهر العاملين والتقيد بتوفير وجبة شهرية بأسعار لا تزيد في مطاعم النجمتين عن 300 ليرة سورية، ومطاعم الثلاث نجوم عن 375 ليرة، ومطاعم الأربع نجوم عن 425 ليرة. ‏وفي حال رغبة الزبون باقتصار طلبه على التقيد بأنواع الطعام المدرجة على لائحة الأسعار يجب أن لا تقل قيمة ما يطلبه عن 275 ليرة في مطاعم الأربع نجوم، و225 ليرة في الثلاث نجوم، و200 ليرة في النجمتين. وقد بوشر بتطبيق البند الثاني بغض النظر عن الأول، الذي هو بالأساس تحصيل حاصل، عدا عن رفع قيمة الضرائب، لتغدو تكلفة ارتياد المطعم للشخص الواحد لا تقل عن 500 ليرة والمقهى عن 200 ليرة وهي أرقام مرتفعة بالنسبة لشريحة واسعة تنتمي لذوي الدخول المتدنية بل والمتوسطة أيضاً. وعلى الرغم مما طرأ على دخل المواطن السوري من تحسن، فلا يزال غير قادر على تلبية متطلبات باتت في النهاية أعباء يفرضها نظام اقتصاد مازال في بداياته، فالمعدل الوسطي لدخل الفرد يتراوح بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً (200 ـ 300 $)، علماً بأن معدل المصروف الشهري لأي أسرة متوسطة الحال لا يقل عن ثلاثين ألفاَ (600 $) شهرياً، في مجتمع فتي تعداد سكانه 18 مليون نسمة وغالبية أسره تعتمد على معيل واحد، كما ترتفع فيه نسبة اليافعين والشبان (طلبة غير منتجين) إلى 50%. ويرى الخبير الاقتصادي سمير سعيفان أن مفهوم «اقتصاد السوق الاجتماعي» تم طرحه بدون تحضير في المؤتمر العاشر لحزب البعث، فبقي عنواناً عريضاً لم يحدد مضمونه. ويرى سعيفان ان السياسة الاقتصادية السورية اليوم تسير على غير هدى، تراوح بين «الليبرالية» وبين «اقتصاد السوق الاجتماعي» وبين الاستمرار في «الاقتصاد المركزي» بدون دراسة. ويقول انها علامة على استمرار تردد الحكومة في صوغ برنامج إصلاحي ثابت واضح معلن، واستمرارها في تفضيل الانتقائية والتجريب، بما لها من آثار سلبية. ويتابع سعيفان «من جهة أخرى فإن نمط اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يحافظ على القطاع العام مع إصلاحه، ويحافظ على دور كبير للدولة وتدخلها في السوق، يقيم سياسات تمنع استقطاب الثروة واستقطاب المجتمع وغيرها، وهو نمط يناسب سورية التي تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية». ومع هذا يعتقد سعيفان أن التوجه الليبرالي الذي روج له البعض بدأ يواجه تراجعاً، ربما خوفا من آثاره غير المرئية.