صورة الانتحاري

الشرق الاوسط تلتقي مع عائلات عدد من منفذي العمليات الانتحارية الفلسطينيين لتعرف منهم ظروفهم

TT

عندما قالت عائلة الشاب الفلسطيني الذي قام بعملية انتحارية في تل ابيب نهاية هذا الاسبوع انه طالب جامعي يبحث عن العمل لدفع تكاليف حياته ودراسته، فتحت باب النقاش مجددا وبقسوة حول علاقة الاوضاع الاقتصادية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بالعمليات الانتحارية التي يقوم بها شباب مراهقون لا تتجاوز اعمارهم العشرين عاما.

بالرغم من ان دراسات اسرائيلية وغربية ربطت بين العنف وبين القيام بعمليات انتحارية، ربما لتقول بشكل غير مباشر ان حل الصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين يتوقف على اعادة البناء الاقتصادي فقط، دون ان يترافق مع هذا حل سياسي عادل، الا ان المشاهدة الواقعية توضح ان هذا غير حقيقي، فغالبية المراهقين والشباب الفلسطيني الذي نفذ عمليات انتحارية، كان في الواقع من الشريحة العليا والوسطى من الطبقة الوسطى بل ان بعضهم كان ينتمي الى البرجوازية الفلسطينية. وفي مسعى لتشريح الظروف الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية التي ينتمي اليها غالبية الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات انتحارية، تابعت «الشرق الاوسط» نحو 15 حالة من الشباب الفلسطيني الذين نفدوا عمليات لتقف افضل على ظروفهم، كما قابلت العديد من اسر الانتحاريين الفلسطينيين، الذين نفذوا عمليات منذ مطلع 2000 لتعرف منهم اليوم الظروف الاقتصادية التي انتمى اليها هؤلاء الشباب. والمثير ان المسح الميداني يوضح ان الظرف الاقتصادي الصعب ليس محركا للعمليات الانتحارية، فالغالبية العظمى من الحالات كانت من الطبقة الميسورة، كان هناك فقراء ايضا، كما ان الغالبية العظمى كانت من الشباب الحاصل على مؤهلات عليا، اما الظروف الاسرية فكانت مستقرة، مما يعني انه من الصعب «اليا» الربط بين الفقر وبين القيام بعمليات انتحارية، فالصورة الحقيقة اكثر تعقيدا بكثير. وهنا موضوعان، الموضوع الاول، مقابلات «الشرق الاوسط» مع عدد من اسر الانتحاريين الفلسطينيين، والثاني حول الاوضاع الاقتصادية في غزة. في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الجمعة 12 ابريل (نيسان) 2002، استيقظت عندليب طقاطقة 22 عاما، بينما كان كل من في البيت نائماً، بعد سهر ليلة طويلة كانت من بين الأصعب على الفلسطينيين منذ يونيو (حزيران) 1967، قضتها في متابعة أخبار ما يجري في المدن الفلسطينية، التي تتعرض لإعادة احتلال.

صنعت عندليب شاياً وقدّمت كأساً منه إلى شقيقها أحمد الذي بدأ يتململ في فراشه، وفي لقاء مع «الشرق الاوسط»، فيما تبقى من منزل العائلة الذي هدمته سلطات الاحتلال في بلدة بيت فجار، شمال الخليل، يستذكر أحمد تلك اللحظات الثمينة «كان كل شيء عادياً، جلبت لي عندليب الشاي وخرجت إلى باحة البيت لتشرب هي أيضاً كأس شاي».

ومنذ تلك اللحظات لم يرَ أحمد شقيقته مرة أخرى، اذ تمكنت وبشكلٍ يبدو وكأنه معاندة المستحيلات، من اختراق الحواجز وفجرت نفسها بالقدس الغربية، التي كان يزورها آنذاك، كولن باول، وزير الخارجية الأميركية السابق.

وتعتبر طقاطقة، بظروفها الاقتصادية المتواضعة، حالة قد تكون غير شائعة، في قائمة ليست قصيرة من المفجرين والمفجرات، فهي كتبت اسمها، في هذا القائمة الافتراضية آتية من خلفية اقتصادية متواضعة، في حين أن معظم الأسماء في القائمة، وخلافا لما هو شائع، أتوا من ظروف اقتصادية مريحة نسبيا، وينتمون في معظمهم إلى الطبقة المتوسطة، وفئة الفلاحين مستقري الأوضاع الاقتصادية، وطلبة الجامعات الذين شكلوا ـ تقليديا، مخزونا مثاليا لا ينضب للتجنيد بالنسبة لفصائل المقاومة الفلسطينية.

وتشتهر بلدة «بيت فجار»، التي ولدت وعاشت فيها عندليب، بمصانع ومقالع الحجارة، التي تشكل قطاعا اقتصاديا هاما في فلسطين، وظروف سكان البلدة الاقتصادية مريحة جدا وفيها كثير من الأثرياء لعملهم في قطاع الحجارة وتصديره إلى الخارج.

عبير شقيقة عندليب، تتحدث عن شقيقتها وكأنها ذهبت في مشوار صغير وستعود آخر النهار، وقالت لـ«الشرق الاوسط» «قبل أيام من استشهادها، طلبت مني عندليب أن أصنع لها حلوى محلية، ولم ألحظ أبدا أنها تعاني من أزمة أو إحباط، وبقي بعض من مواد هذه الحلوى لم أصنعه، وأحتفظ به حتى الآن كذكرى».

وتعتقد عبير أن من المهم، النظر لكل حالة من حالات المفجرين الفلسطينيين، ضمن الظروف التي نفذت فيها العملية، وبالنسبة لشقيقتها ترى عبير أن الأمر كان مفاجأة للأسرة، ولكن لو تم التدقيق في الأسباب التي دعت شقيقتها لتنفيذ العملية، فترى انه يجب استذكار ما تسميه مجازر الجيش الإسرائيلي خلال عملية السور الواقي، في جنين ونابلس ورام الله وحصار كنيسة المهد بمدينة بيت لحم، وحصار ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية الراحل في رام الله.

وتقول عبير «وجدت عندليب نفسها في منطقة لم يدخلها الجيش بعد، وهزها ما يحدث، فقررت تنفيذ العملية» ولا تعتقد عبير أن تكون هناك دوافع اقتصادية شكلت سببا لعندليب لتنفيذ عمليتها.

أما احمد فيقول «صحيح أن ظروفنا الاقتصادية متواضعة، إلا أن أبي يعمل، وأنا اعمل، وعندليب كانت أيضا تعمل». وبالنسبة للفلسطينيين تحولت عندليب، إلى «الاستشهادية الرابعة»، بعد وفاء إدريس الممرضة من مخيم الامعري، قرب رام الله، والطالبة الجامعية دارين أبو عيشة من نابلس، وطالبة الثانوية العامة آيات الأخرس، من مخيم الدهيشة. ويجلس محمد الأخرس (أبو سمير) والد آيات وزوجته وأولاده في منزلهم في المخيم، بعد أن انتهت أيام العزاء بالمطلوب الأول للمخابرات الإسرائيلية ابن عمومتهم جبر الأخرس، الذي اغتالته وحدات إسرائيلية خاصة الأسبوع الماضي، ونقل الأخرس إلى رفح ليدفن هناك، في حين استقبل أبو سمير وعائلته المعزين من مختلف المناطق الفلسطينية. وتحظى آيات، ابنة أبو سمير، بشهرة وشعبية واسعتين، تجاوزت الأراضي الفلسطينية، عندما توجهت لمدرستها 29 مارس (اذار) 2002، وكان يوم جمعة لتلقي دروس تعويضية، بينما كانت دبابات الجيش الإسرائيلي على مشارف المدن الفلسطينية، تنتظر الأوامر لاقتحامها، وبدلا من أن تعود إلى منزلها، بعد الدوام المدرسي توجهت إلى القدس، بطريقة معقدة ونفذت عملية، كان لها وقتذاك صدى واسع. ونفذت آيات عمليتها، في اليوم التالي، لبدء أعمال مؤتمر القمة العربية الذي استضافته بيروت، وكان مقرّراً للقمة «التاريخية»، كما وصفت، أن تستمع لرئيس السلطة الفلسطينية المحاصر في مقره في رام الله، ليلقي كلمة افتتاحية عبر الأقمار الصناعية، ولكن تدخلات عربية رسمية منعت عرفات من إلقاء كلمته.

وما زال ما فعلته آيات طاغيا على أبي سمير، فهي لم تكن فقط ابنته بل أيضاً صديقته، وما زال يذكر الليلة الأخيرة مع ابنته، يتابعان أخبار الاجتياحات، وأيقظته ليصلي الفجر، بينما كانت منهمكة في مذاكرة دروسها، دون أن يدري أحد أنها كانت أيضا تستعد للامتحان الأكبر في حياتها بعد ساعات.

وعما إذا كانت الأسباب الاقتصادية وراء تنفيذ ابنتها للعملية تقول والدة آيات «ابنتي كانت متفوقة في دراستها ومخطوبة وتعيش في وضع مالي جيد ولا تعاني من فقر أو إحباط، وقبل ساعات من توجّهها إلى عمليتها الاستشهادية قدّمت امتحاناً في مدرستها وحصلت فيه على علامة كاملة، فهي لم تكن محبطة أو كارهة للحياة، بل كانت متفقة مع خطيبها على أسماء الأولاد الذين سيأتون في السنوات المقبلة». ويعتقد حسين القصاص، جار العائلة ان مقتل جارهم عيسى زكريا فرج، الذي كان يجلس مع ابنته الرضيعة داخل منزله، عندما أطلق عليه قناص إسرائيلي النار، فجعله يتخبط بدمه، سببا جعل آيات تنفذ العملية.

ويقول القصاص لـ«الشرق الاوسط» «أسرعنا لإنقاذ جارنا فرج، وعندما أخرجناه من منزله، لإسعافه، كانت آيات فوق سطح المنزل تصرخ بشكل هستيري، كانت المرة الأولى التي أراها على تلك الحالة». وما زالت عائلة ايات تنتظر عودتها، لدفنها، لان سلطات الاحتلال ما تزال تحتجز جثمانها، وهو أيضا ما تفعله، مع جثمان الفتى عيسى عبد ربه بدير (16) عاما، وهو اصغر مفجر من الضفة الغربية ينفذ عملية وكان ذلك يوم 22 مايو (أيار) 2002، في مستوطنة ريشون لتسيون، قرب تل أبيب، المقامة على أنقاض قرية (عيون قارة) الفلسطينية.

وعيسى هو ابن لمحام معروف، اسمه عبد ربه بدير، وهو محام كفيف وعصامي، تلقى تعليمه العالي في أميركا، وظروفه الاقتصادية جيدة. وعيسى هو ابنه الأصغر، والأقرب إليه، وعندما نفذ عمليته كان الأب في زيارة للأردن، وما زال يشعر بالمفاجأة. والمحامي بدير شخصية معتدلة سياسيا ويؤيد الجهود السلمية لحل القضية الفلسطينية، ويستبعد تماما ان تكون أية ظروف اقتصادية كانت وراء ابنه لتنفيذ العملية. ويعيش الان في منزل مستأجر بعد أن هدمت سلطات الاحتلال منزل العائلة الجميل ذا الطبقات، ويقول لـ «الشرق الأوسط» «يجب أن يتم وضع حد لدوامة العنف التي تحصد الأرواح البريئة». ومثل المحامي بدير، يتمتع اسحق النبتيتي بمستوى تعليمي عال، وهو والد اكرم (24) عاما، الذي نفذ عملية في مستوطنة التلة الفرنسية بالقدس الشرقية يوم 17 مارس (آذار) 2002. وشعر النبتيتي، وهو معلم متقاعد، بالمفاجأة، خصوصا ان ابنه كان خاطبا ومقبلا على الزواج، وظهر ابنه اكرم في شريط سجله قبل العملية يكشف عن دواع تنفيذ العملية، وهي رد على قتل أصدقاء ومعارف له، وكان متأثرا، خصوصا لمقتل جارة لهم هي أم لعدة أبناء. وتحدث أكرم بثقة عن عدالة القضية التي آمن بها والتي جعلته يختار هذا الطريق وعبّر عن إيمانه بتحقيق النصر في النهاية، كما قال. وسجل اكرم النبتيتي، كما رأى رفاقه تفوقا أخلاقيا على المحتلين، عندما ترك المنزل الجميل والمستقبل العاطفي مع الفتاة التي احبها لينفذ عملية «دفاعاً عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين»، كما قال في وصيته التي شاهدتها «الشرق الاوسط».

وما زال يذكر اسحق النبتيتي ما قال انه عبارات وداع مؤثرة سجلها ابنه في شريطه، وفي حديث مع «الشرق الاوسط» يقول النبتيتي «أنا لا اعرف دواعي اكرم وراء تنفيذ عمليته، وان كانت بالتأكيد ليست اقتصادية». ويضيف «بغض النظر عن موقفي الشخصي من العمليات، فأنا احترمت خيار اكرم، وما زلت رغم هدم منزلي الذي بنيناه بالجهد والتعب». والوضع الاقتصادي المريح ذاته ينطبق على اسماعيل المعصوابي، الذي فجر نفسه في شمال غزة عام 2001 بعد أن تطوع في صفوف «عز الدين القسام» ـ الجناح العسكري لحماس، فهو ابن عائلة ثرية تمتلك بيتا فخما وسيارات فارهة، وتخرج من كلية الفنون في جامعة الأقصى. ايضا هناك نبيل العراعير الذي كان ينتمي لـ«سرايا القدس» ـ الجناح العسكري لفتح، والذي نفذ أول عملية تفجيرية في الانتفاضة، فهو ايضا من عائلة ميسورة الحال بشكل لافت للنظر، ورفض والده بشدة الحصول على أي دعم مالي للعائلة في اعقاب مقتل ابنه، بل انه قام بدلاً من ذلك بالتبرع بجزء من ماله لبناء مسجد في مدينة غزة. اما الشاب ياسر المصدر الذي لم يكن يتجاوز العشرين من العمر عندما نفذ عملية شرق مخيم المغازي للاجئين وسط غزة اواخر 2004 ادت لمقتله، فينتمي الى عائلة تعتبر من أكثر العائلات ثراء في غزة، ولا خلاف على انها العائلة التي تمتلك اكبر مساحة من الأراضي في غزة. وهنادي جرادات المحامية التي نفذت العملية التفجيرية في مدينة حيفا في سبتمبر عام 2003 فقد كانت تنتمي لعائلة ميسورة الحال، الى جانب وظيفتها الجيدة. ولا توجد إحصائية حول انتماءات المفجرين السياسية، ولكنهم يتوزعون على الفصائل الإسلامية مثل حركتي «الجهاد» و«حماس»، والتنظيمات العلمانية مثل «فتح» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».

وفي حين تحول المفجرون إلى ظاهرة في المجتمع الفلسطيني، خلال السنوات (2001-2003)، يعتقد أن مراكز الأبحاث الغربية والإسرائيلية، فشلت على الأغلب في تفسيرها، وفي تحديد ما تسميه هذه المراكز «نموذج الانتحاري»، فمع تكرس فعل «الاستشهاد»، كما تطلق عليه فصائل المقاومة الفلسطينية، كظاهرة، يرى مراقبون انه يجب أن يستتبع بالضرورة دراسات من نوع آخر، لفهمها دون إطلاق أحكام قيمة مسبقة عليها، فـ«نموذج الانتحاري » بالنسبة لهذه المراكز التي درسته يتحدد بسنّه وتعليمه وبانتمائه الفصائلي ودرجة تعليمه وحالته الاجتماعية وإن كان أعزبا أو متزوجاً وغير ذلك، ولكن على ارض الواقع هناك من المفجرين من هو سنه أكبر مما يحدّد عادة في صفات «نموذج الانتحاري» مثل داود أبو صوي (45 عاماً)، ويوسف أبو صوي 38 عاماً، وياسر عودة ، 36 عاماً، ـ والثلاثة كانوا متزوجين ويعيشون حياة «مستقرة» نسبياً، وآخرون كانوا ناجحين في أعمالهم بشكلٍ كبير مثل إيهاب حبيب الذي كان رجل أعمال ناجحاً، وغيرهم كانوا مقبلين على بناء حياة زوجية مثل محمد توفيق الشمالي. وهناك من نفذوا عمليات تفجيرية من المتفوّقين مثل حامد أبو حجلة، من جامعة النجاج بمدنية نابلس، وهو ابن عائلة ثرية، وضياء الطويل من جامعة بير زيت، وهو ابن صحافي يساري.

ويعتقد بان المفجرين خرجوا من أوساط اجتماعية مختلفة ومن بيئات مختلفة، وقلة منهم من خرجوا من أوساط فقيرة جداً أو غنية جداً، ومعظمهم من الطبقة المتوسطة.