لاجئو دارفور في تشاد.. الثمن الباهظ

TT

200 الف لاجئ سوداني دفعوا ثمن الحرب في دارفور، وفروا عبر الحدود ليستجيروا بأبناء عمومتهم في تشاد المجاورة، ولكن يبدو أنهم اختاروا الوجهة الخطأ. فبعد أحداث الأسبوع الماضي التي شهدتها العاصمة التشادية نجمينا، من محاولة انقلابية، وما سبقها من اضطرابات ومعارك على الحدود، دامت اشهرا في الدولة «المجيرة»، اتضح لهم انهم باتوا كـ«المستجير من الرمضاء.. بالنار». ورغم تراجع نظام الرئيس التشادي ادريس دبي عن قراره عدم طرد هؤلاء اللاجئين، بعد اتهامه الخرطوم بالتورط في الاضطرابات في بلاده، إلا ان بقاء هؤلاء اللاجئين في المنطقة الحدودية الملتهبة تحت «ظلال السيوف» وبين «أسنة الرماح»، يجعل من مهمة توصيل الخدمات اليهم والمساعدات، أشبه بالمستحيلة. فمنظمات الإغاثة هربت من المنطقة الواحدة تلو الاخرى، وأكد برنامج الغذاء العالمي انه أجلى موظفيه من تشاد، تاركا اللاجئين بين ناري الازمة في دارفور ونجمينا، في انتظار حل قد يطول مداه، خاصة بعد اعلان تشاد انسحابها من مفاوضات السلام في ابوجا حول دارفور وهي التي كان لها اليد الطولى في انجاز اتفاق السلام الاول، والكلمة العليا لدى مسلحي دارفور. وحذر وزير الدولة السوداني بوزارة الداخلية أليو أينغ من ان وضع اللاجئين السودانيين في الحدود مع تشاد ينذر بكارثة محققة اذا لم يتدارك المجتمع الدولي المخاطر المحيطة بهم خاصة بعد مغادرة وكالات الاغاثة. واشار في اتصال مع «الشرق الاوسط» الى ان مساعد معتمد اللاجئين زار معسكراتهم برفقة المندوب السامي للاجئين في الخرطوم. واكد ان الجانب السوداني استقبل خلال اليومين الماضيين نحو 3500 لاجئ فروا من تشاد مؤكدين ان الاوضاع على الجانب السوداني اكثر امنا منها في تشاد. وقال ان معسكرات جديدة تم فتحها لاستقبال الفارين، وحذر من كارثة اذا لم تصل مساعدات عاجلة لهم خلال الاسابيع المقبلة. اما مسلحو دارفور فقد طالبوا دولة تشاد بحماية اللاجئين، وذكروا بوجود تهديدات أمنية، كما ناشدوا وكالات الاغاثة الى العودة. وقال أحمد حسين ادم، العضو البارز في حركة العدل والمساواة، في اتصال مع «الشرق الاوسط» من ابوجا بنيجيريا، ان «الاوضاع الامنية تثير قلقنا (...) ناقشنا الموضوع مع الدولة المضيفة ومع الاتحاد الافريقي من اجل توفير الحماية حسب ما تنص عليه اتفاقية جنيف لحماية اللاجئين الموقعة 1951 والبروتوكول الملحق 1961»، مؤكدا حدوث هجمات عليهم من قبل المعارضة التشادية آخرها معسكر «ابونبق» في شرق تشاد.

وبالنظر الى الأزمة التي يعيشها حاليا نظام الرئيس دبي نجد انها ليست منفصلة في أبعادها وأسبابها عن الحرب الأهلية التي تمزق اقليم دارفور المجاور لتشاد منذ العام 2003. فالرئيس دبي نفسه كان لاجئا في دارفور عام 1990 بعد انشقاقه عن نظام حسين حبري، حيث نظم فيه طلائع هجومه الناجح على نجامينا، وقد ساعده في ذلك التداخل القبلي المثير بين البلدين، حيث تنقسم قبيلة الزغاوة الكبيرة التي ينتمي اليها دبي على طرفي الحدود بين تشاد والسودان، وتمتد الى ليبيا وافريقيا الوسطى ودول مجاورة أخرى، ما أكسبه الدعم من كل تلك البلدان وقتها في الوصول الى الحكم.

وادرك دبي، بفهمه العميق للمنطقة، ان مخاطر الازمة في دارفور ومنذ بداياتها في عام 2003، لن تستثني نظامه، فسارع الى التدخل في وساطة لنزع فتيلها منذ البداية، حماية لنظامه، اسفرت عن التوقيع في ابريل (نيسان) 2004 على اتفاق هدنة (اتفاقية نجمينا) لم يطبق، بين مسلحي دارفور ومعظمهم من ابناء قبيلته (الطرف السوداني) والسلطات السودانية المدعومة من ميليشيات الجنجويد في الاقليم. ونتيجة لموقفه هذا وحسب مراقبين للاوضاع في المنطقة والاقليم فان دبي وقع فريسة ضغوط قسم كبير من عشيرته الزغاوة من أجل تقديم العون والمساعدة لـ«أبناء العمومة» من الزغاوة في دارفور المنخرطين بكثافة في صفوف التمرد، وعدم الوقوف على الحياد. ومن هنا بدأ الانقسام في القبيلة بين مؤيد ومناصر للرئيس. وخرجت الخلافات الى العلن منذ انشقاق مسؤولين كبار محيطين بادريس دبي عنه وتنظيم حركة تمرد تشادية من الزغاوة هي «قاعدة التغيير والوحدة والديمقراطية». ووصلت الانشقاقات الى دائرة الرئيس العائلية المقربة. وتمكن النظام من كشف محاولة انقلابية عام 2004 يقول مراقبون ان مقربين من دبي تورطوا فيها. وتداولت الصحف أسماء التوأمين توم وتيمان ارديمي، وهما من اقارب الرئيس وسبق ان توليا ادارة مكتبه، كمشاركين في المحاولة. ويقول خبير في شؤون المنطقة ان المحاولة الانقلابية التي وقعت في مايو (أيار) الماضي كان هدفها «اجبار دبي على تغيير موقفه من قضية دارفور».

ولم يمنع رفض دبي التدخل في دارفور، وهو قرار فقد الكثير من حدته على مر الوقت، اعضاء نافذين وميسورين في عشيرة الزغاوة من تقديم العون المالي واللوجستي الذي رفضه دبي لمتمردي دارفور. كما يقوم عدد من الضباط التشاديين احيانا بالانضمام الى المتمردين في دارفور ما اثار غضب الخرطوم وأثار الازمة بين البلدين الجارين. وبلغ الاحتقان حده الاقصى في يناير (كانون الثاني) الماضي عندما أعلنت تشاد نفسها انها «في حالة حرب» مع السودان الذي اتهمته بالوقوف وراء هجوم متمردي «التجمع من اجل الديمقراطية والحرية» ضد مدينة ادري الحدودية.

والتجمع، المنبثق من حركة تمرد سابقة لقبائل «التامة»، يتخذ من السودان قاعدة له اذ تؤمن له الاسلحة والاموال بدون ان يتمكن الخبراء من تحديد ما اذا كان هذا الدعم يأتيه من النظام السوداني نفسه او من اجنحة معينة فيه لديها مصالح في دارفور، وهذا ما تنفيه الخرطوم تماما، مؤكدة دائما ان ما يحدث في تشاد هو شأن داخلي وتنفي كذلك أي دعم للمتمدين التشاديين. ويشير المراقبون الى ان الخرطوم ستنظر بعين الرضى الى احتمال وصول نظام اكثر تفهما لمصالحها في دارفور الى السلطة في نجامينا.

ويبقى هناك احتمالان في ظل اهتزاز نظام دبي، فمن الممكن ان تنجح حركة الزغاوة والمتعاطفين مع أبناء عمومتهم في دارفور في الوصول الى الحكم، أو تنجح حركة تجمع القبائل الاخرى بزعامة قبيلة «التامة» القريبة من الخرطوم في الوصول الى الحكم قبل الآخرين، وفي كلا الحالتين فان الازمة في دارفور وتشاد مرشحة بقوة الى التفاعل أكثر. ويبقى السؤال الان عن الدور الدولي، ومدى تأثيره في ايجاد مخرج للقضية. والحديث يبدأ دوما عن الدور الفرنسي تحديدا والتي ترتبط تاريخيا بالمنطقة وتنشر آلاف الجنود هناك. يقول محللون في لندن ان فرنسا تسعى فقط الى امتلاك عضلات عسكرية ودبلوماسية تكفي لان يكون لها كلمة في الصراع المتنامي في تشاد بدون أن تتورط في حرب أخرى في فنائها الخلفي السابق في أفريقيا. ويشير باتريك سميث رئيس تحرير نشرة «أفريكا كونفدنشال» التي تصدر في لندن الى انه يرى أن فرنسا «لا تتحرك لإنقاذ دبي». وقال لرويترز ان باريس تسعى لأن يكون لها وجود واستراتيجية وأن تكون وسيطا فيما سيحدث لاحقا وان توجه رسالة تحذيرية واضحة للخرطوم بعدم التدخل. وفي ما تبقى من الاحتمالات فان المراقبين يخشون من «صوملة» تشاد وانهيار عدد من دول المنطقة، المتداخلة قبليا، اذا تمت اطاحة نظام الرئيس دبي المتداعي.

واعتبر باحث فرنسي في الجيوستراتيجيا تحدث قبل ايام الى وكالة الصحافة الفرنسية ان الهدف «اصبح تجنب عملية انتقال دامية وعنيفة» للسلطة قد تنتج من انهيار النظام «اذا لم يتم ايجاد مخرج سلمي للأزمة، والخطر هو صوملة تشاد». ويتساءل المراقبون «عن استقرار الكاميرون في حال تعرض جاريه الشرقيين (تشاد وافريقيا الوسطى) الى زعزعة استقرارهما». واعتبر العديد من المراقبين ان نهاية دبي تبدو مجرد مسألة وقت. وليس السؤال «هل سيرحل دبي؟ بل.. متى وكيف؟». وتظل قضية اللاجئين «مرهونة» بحل سياسي في المنطقة رغم انه بعيد المنال.