سورية.. تصحو على صوت الأذان

زاد الحجاب وعدد المدارس الدينية والجمعيات الخيرية الإسلامية وخطاب الدولة المتدين.. لكن الأسباب متعددة

TT

فيما كانت مكبرات الصوت تصدح بأغنية «حبيبي يا محمد يا رسول الله» ذات اللحن الغربي، في أحد أكبر أسواق دمشق التجارية، كان التلفزيون السوري ينقل على الهواء مباشرة وقائع حفل موسيقى في قصر المؤتمرات، يظهر في الصف الأول من الحضور عدد من الوزراء والسياسيين وزوجاتهم، وبينهم على الأقل سيدتان محجبتان، وذلك في مشهد خارج عن المألوف في المشاهد الرسمية. فقد درجت العادة أن يكون المسؤول السياسي من المنتمين لحزب البعث، شخصا ذا توجه علماني، ومن النادر جدا ظهور سيدة محجبة إلى جانب زوجها المسؤول في الاحتفالات العامة. وفي حفل عشاء ضم مجموعة من البعثيين وعائلاتهم، طلب مسؤول بعثي مخضرم رفع المشروبات الكحولية من على الموائد، بسبب وجود «متدينين» في الحفل، وقد امتثل جميع الحاضرين لهذا الطلب، وحين سُئل إذا ما كان البعث «تخلى عن علمانيته»، ضحك ممازحاً «لا أعتقد، لكننا نريد حفظ خط الرجعة». ويبدو أن موجة المد الديني في سورية تسير حثيثا، وهي تعكس نفسها في زيادة المحجبات في الشارع السوري، وزيادة المعاهد التعليمية الدينية، والجمعيات الخيرية الاسلامية، كما تعكس نفسها في زيادة جرعة الخطاب الدينى في الخطاب الرسمي للدولة، وهو شيء جديد. فلماذا تزايد المد الديني في الشارع السوري، ولدى المؤسسات الحكومية؟ وهل لهذا تجليات سياسية، ام ان تجلياته تقتصر على النواحي الاجتماعية والثقافية؟ وموجة المد الديني في سورية تعود الى اعوام قليلة مضت، فقبل الغزو الاميركي للعراق في مارس (آذار) 2003، لم يكن ملحوظاً انتشار بث الأغاني الدينية بصوت مرتفع خارج زمان ومكان مناسبة الصلاة، ولم تكن صلوات التراويح خلال شهر رمضان تسمع سوى في محيط «الجامع الأموي» والجوامع الكبرى في المدينة، ومثلها أيضاً التراتيل الكنسية في منطقة «باب توما» و«القصاع» خلال شهر الصوم الكبير وعيدي الميلاد ورأس السنة. لكن فى السنوات الثلاث الأخيرة بدأت مظاهر الاحتفالات الدينية تتجاوز أحياء بعينها، لتعم كافة مناطق مدينة دمشق، في استعراض ديني ينطوي على كثير من المبالغة، فهو وإن بدا كأحد مظاهر الاحتفالات والفرح بالعيد، ينطوي أيضا على إعلان الانتماء لهذا الدين أو ذاك. ولوحظ في السنة الأخيرة أنه بدأ يحظى بما يشبه الرعاية الرسمية، ففي عيد الميلاد الماضي زُينت شجرة ضخمة اعتبرت الأكبر في الشرق الأوسط، أقيمت في ساحة جورج خوري، وجرى الاحتفال بإشعال أنوارها برعاية رسمية من الدولة، ووفد الى الساحة أعداد كبيرة من المواطنين من مختلف الانتماءات الدينية والمذهبية، كما أن موكب عاشوراء الذي لم يكن ليتخطى يوماً محيط مقام السيدة زينب، عَبَر خلال العامين الماضيين شوارع دمشق القديمة بالقرب من مقام السيدة رقية خلف الجامع الأموي. بل إن شهر رمضان الماضي، شهد نقلا حيا ومباشرا عبر التلفزيون السوري لموائد الرحمن في حرم الجامع الأموي. وتنافست الجمعيات الخيرية الاسلامية على تقديم المعونات بتوزيع حقائب الأغذية والملابس على الأهالي في الأحياء الفقيرة، وتحدثت الصحافة الرسمية بإسهاب حول هذه الظاهرة، التي كانت تتم سابقا بصمت. اما مظاهر تدين الشارع والتي كان الناس قبل سنوات يتحاشون اظهارها، فقد تمثلت بوضوح في أشكال الرد على الرسوم الدنماركية حول النبي صلى الله عليه وسلم، فبالاضافة الى إحراق السفارات، انتشرت في كافة أنحاء سورية ملصقات جدارية تدعو لمقاطعة البضائع الدنماركية، وملصقات أخرى تستنكر الاستفزاز الديني تحت شعار «إلا رسول الله»، بالإضافة إلى نشر قصائد على أبواب المحال التجارية تنتصر للإسلام وللرسول، وتصب جام غضبها على الغرب المسيء للدين. كما أقامت مديرية الأوقاف بمحافظة «دير الزور» مسابقة شعرية تحت عنوان «نحري دون نحرك يا رسول الله»، والمفارقة أن الفائز الأول في المسابقة، كان شاعراً مسيحياً من من سورية، وهو جاك صبري الشماس. كما صارت صور رجال الدين المسيحي والإسلامي تظهر في الصحف الرسمية ضمن مقالات فكرية دينية، بالإضافة الى استضافتهم في البرامج التلفزيونية لمناقشة قضايا وطنية عامة، خارج موضوع الدين. وهم أمر لم يكن ظاهراً حتى نهاية عقد التسعينيات. كل هذه تطورات لافتة، تشير إلى أن المد الديني «تجاوز الشارع» ليصل الى «المواقع الرسمية»، حتى المتمثلة بالإعلام كواجهة للدولة، وبات واضحاً أن السلطة تسعى الى إخراج التدين من «الحيز الخاص« لـ«الحيز العام»، للتمكن من تحديد وجهته، والسيطرة عليه والاستفادة منه. لكن ما هو سبب هذا المد الديني الشعبي والرسمي، من وجهة نظر مصعب الجندي وهو بعثي ذو اتجاه ديمقراطي، فإن ظاهرة التدين جاءت نتيجة فشل أصحاب الأفكار العلمانية في زرع تلك الأفكار في الأذهان، وهو فشل في الأداء وليس الفكر، ويقول الجندي «ما زلت مؤمناً بالأفكار العلمانية لكننا فشلنا في التعامل مع مجتمعاتنا، من حيث الأداء السياسي والاقتصادي والثقافي، الأمر الذي نجم عنه فراغ جعل المجتمعات تتجه بشكل طبيعي نحو ملئه من المخزون الحضاري؛ والمخزون الحضاري يرتكز بشكل اساسي على الفكر الديني. وهو أمر لا يدعو للتخوف، وإنما قد يثير الريبة على المدى القريب فقط». وبالملاحظة الاجتماعية يمكن القول ان ميل الشارع السوري للتدين، بدأ ربما منذ نحو 10 اعوام، لكنه لم يكن على هذا النحو من الإشهار والعلانية ولا حتى الأريحية، ولأن غالبية السوريين من المسلمين اتخذ التوجه الديني طابعاً إسلامياً، تجلى بالإقبال على ارتداء الحجاب الذي ارتفعت نسبته في الشارع على نحو غير مسبوق، وليبدو من جرائه أن المد الديني يشمل المسلمين فقط، لكن هذا ليس صحيحا، ففي إحدى بلدات ريف «حمص» طالب كاهن الرعية النساء المسيحيات بتغطية شعورهن داخل الكنيسة، وعندما جوبه بالرفض الشديد، طلب أن يتم تغطية الرأس أثناء تناول القربان المقدس، في عودة الغرض منها التأكيد على تعاليم بولس في احتشام النساء، ولدى مناقشة الكاهن في فرض أمر نسيته التقاليد الكنسية في مجتمعنا الشرقي، قال «إن المسلمات يغطين رؤوسهن والمسيحيات يجب ألا يكن أقل احتراماً للكنيسة، وأن يفعلن الأمر ذاته على الأقل أثناء الصلاة». وفي دمشق لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً، وتبدى برد فعل قوي من جانب رجال الدين المسيحي حيال ملابس الفتيات القصيرة أو الكشف عن أعلى الصدر أو الظهر، ومنهم من رفض إتمام عقد الزواج إذا كانت العروس أو وكيلتها ترتدي فستاناً مكشوف الكتفين وأعلى الصدر والظهر، وأحياناً إذا كان بين المدعوات من ترتدي فستاناً قصيراً بشكل لافت. وهو ما جعل العروس وغالبية الفتيات يتزودن بشال يتلفعن به داخل الكنيسة، أو يجلسن في زاوية متواريات عن أنظار الكاهن حتى يتم اتمام الزواج. ويعتقد الصحافي والكاتب نبيل صالح رئيس تحرير جريدة «الجمل» الالكترونية (خصص في جريدته صفحة للعقائد والاديان وهي الاولى من نوعها فى سورية)، انه لا شيء تغير بخصوص ارتداء الحجاب «ففي الأربعينات والخمسينات كانت نساء دمشق وريفها يرتدين الملاءة، والآن يرتدين المنديل». ولا يعتقد صالح أن هناك «مدا دينيا»، وإنما هناك «تسييس ديني»، كما يؤكد على أن سورية على مر التاريخ لم تشهد تطرفا دينيا «وهذا له علاقة بالجغرافيا والتبادل الثقافي مع أوروبا، الذي جعل المسلمين في سورية يختلفون عن المسلمين في مناطق أخرى، الإسلام في سورية محافظ وغير متشدد، لذا لا خوف من المتدينين». واذا كان صالح يرى انه لا شيء تغير بخصوص الحجاب، فإن الشيخ الدكتور محمد حبش العضو في البرلمان السوري يرى في ظاهرة التدين «تطوراً طبيعياً، وهي مريحة ولا شيء غير عادي فيها». وعما إذا كان هناك ما يثير المخاوف من «تسييس الدين»، قال حبش إنه في السابق «كان هناك مشكلة بين النظام مع بعض الإسلاميين، وانتهت بخروج الإخوان من سورية»، وذلك في اشارة الى صعوبة ركوب اي تيار سياسي موجة المد الديني فى سورية. وربما يتفق آخرون مع رأي حبش حول ان تدين الشارع السوري ليس رسالة سياسية بالضرورة، على أساس ان التدين «ليس أحد أشكال المقاومة بالمعنى السياسي»، بل هو «درع وقائي» يعزز القدرة على مواجهة صعوبات الحياة، خاصة البطالة أو الفقر. وتستطيع على سبيل المثال، عُلا ابنة العشرين عاماً، أن تنأى بنفسها عن التسييس، تقول: «صحيح أني محجبة وأثابر على أداء الفروض الدينية، وأتردد إلى الجامع بين يوم وآخر، لكني لا اقبل الفكر الأصولي التكفيري، ولا استسيغ فكرة العيش في ظل دولة دينية، ثمة نماذج قائمة لهذه الدولة لا تعجبني». ومثل عُلا كثر من شباب وشابات، وجدوا في الدين الإطار الأنسب لوضعهم على قيد المشاركة والفعل في مجتمعات تضعهم على الهامش.

وإذا عدنا للحجاب من زاوية مختلفة، سنجد أن الحجاب في سورية كان أحد وسائل تحرر المرأة عمليا، من حيث تسهيل حركتها في الحيز العام. فالمرأة المحجبة تحظى باحترام كبير في مجتمع محافظ، دون أي يعني هذا أن المرأة السافرة لا تنال الاحترام، لكن احتكاك المرأة بالرجال في مجتمع ذكوري يعرضها للكثير من المضايقات، تصبح اقل بكثير عندما تضع حجاباً. السيدة «و.ج»، 30 عاما، تفرض عليها طبيعة عملها في العلاقات العامة دخول مكاتب رجال أعمال وموظفين كبار، ولأن العلاقات العامة تعني المزيد من الدبلوماسية واللباقة، فقد يعرضها هذا لمضايقات، دون تمييز بين طبيعة عملها وشخصها. وتقول «و.ج» لـ«الشرق الأوسط» إن الحجاب الذي ارتدته جنبها مواقف محرجة كثيرة، وباتت أكثر حرية في التحدث والحركة، كونها وضعت نفسها داخل إطار محدد. ويعنى هذا ان الحجاب لا يمكن اعتباره مظهرا للتدين فقط، فهو مظهر اجتماعي ايضا، وهو مظهر اجتماعي «عابر للطبقات»، الثريات يتحجبن والفقيرات يتحجبن. وفقد أسرّ تاجر دمشقي لصديقه بأن زملاءه من التجار يقومون برشوة زوجاتهم بتسجيل بيت أو سيارة لإقناعهن بارتداء الحجاب، والسبب ليس تديناً بل لحماية نسائهم من تحرش محتمل ممن يخالطونهم في الحفلات والمناسبات الخاصة والعامة. وفي نفس الفلك تقريباً، تدور ظاهرة تحجب الأجنبيات المتزوجات من سوريين، وبالأخص منهن بنات أوروبا الشرقية. فماريانا وهي زوجة طبيب سوري تقول لـ«الشرق الأوسط» إنها اضطرت لارتداء الحجاب كي يميزها الرجال في الشارع عن بنات الفرق الاستعراضية اللواتي يأتين من دول أوروبا الشرقية للعمل في الملاهي الليلية. وتضيف ماريانا «رجل الشارع لا يميز بين طبيبة وراقصة، الاثنتان بنظره امرأة روسية شقراء». وتقول ماريانا انها لمست أن السوريين يظهرون مودة كبيرة للأجنبية المحجبة. ايضا مما يسترعي النظر ظاهرة حجاب الأجنبيات المنتشر لدى البائعات الآسيويات اللواتي تفترش بضائعهن أرصفة الأسواق التجارية في دمشق، فهن أيضاً يتشبهن بالمسلمات الدمشقيات فيرتدين المانطو الطويل مع الحجاب الشامي.

ومع ان المساجد ضيق عليها بعد مواجهات الثمانينات بين السلطة والاخوان المسلمين، الا انه في الاعوام الأخيرة تزايدت اعداد المساجد لتتجاوز اليوم تسعة آلاف مسجد، وهي برغم التضييقات على نشاطها، الا ان زيادتها مظهر من مظاهر المد الديني «الرسمي» و«الشعبي». والى جانب المساجد، هناك المعاهد والمدارس الدينية التي انتشرت ايضا في سورية، ففي عام 1982 تم الترخيص لـ«معاهد الأسد لتحفيظ القرآن»، ويتجاوز عددها اليوم 1000 فرع في مختلف أنحاء البلاد. ويقول الشيخ الدكتور محمد حبش عنها إنها ««مشروع يهدف إلى ربط الأمة بتاريخها وتراثها وحضارتها من خلال تحفيظ القرآن الكريم ونشر علومه وهي معاهد غير خاضعة للتنظيم معين، وإنما هي مبادرة من وزارة الأوقاف لتوفير خدمة تحفيظ القرآن في المساجد، وهي عملية طوعية وليس لها موازنة مالية».

وبموازاة «كلية الشريعة» في جامعة دمشق، التي تخرج سنويا نحو 650 طالبا، هناك عدة مراكز أساسية لتدريس علوم الدين، وهي مدارس تتخذ من التنوير شعاراً لها كـ«مركز الدراسات الإسلامية» الذي يهدف إلى «تقديم خطاب جديد عن الإسلام وبناء جسور للحوار بين المسلمين والحضارات الأخرى». وقد بدأ المركز نشاطه منذ عشرين عاما بعقد الندوات والمؤتمرات وإصدار الأبحاث بشكل شهري، ويشرف عليه الشيخ محمد حبش، ويقول عنه إنه «هيئة مستقلة لا تتبع لأي جهة»، هناك ايضا «مدرسة الخزنوي» في منطقة الجزيرة السورية شمال شرقي البلاد. وفي حلب، هناك مدارس الشيخ احمد حسون مفتي الجمهورية. وفي دمشق «مجمع أبي النور»، الذي أسسه المفتي العام الراحل الشيخ احمد كفتارو، يضم معاهد عالية لتدريس علوم الدين يتجاوز عددها 22 معهد يدرس فيها طلاب الدراسات العليا من سورية، ومن حوالي ستين دولة عربية وأجنبية، وهناك حلقات الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي يعطي دروساً أسبوعية في جامع «دينكز»، بالإضافة إلى تقديمه برنامج تلفزيوني. جميع تلك المدارس لها أتباع ومريدون بالمئات، ومؤخراً أعلن عن قيام «رابطة علماء بلاد الشام»، تضم أكثر من 400 عالم من علماء الشام يمثلون اتجاهات فكرية مختلفة، وتهدف إلى «ترشيد الصحوة الإسلامية، والتعاون والتنسيق مع المنظمات والمؤسسات الدينية في العالم، والدفاع عن الإسلام بالوسائل الحضارية». ولا ينحصر المد الديني على التدريس وتأسيس المعاهد التعليمية، بل يمتد إلى نشاط اجتماعي خيري، فهناك حوالي 300 جمعية خيرية ذات توجه إسلامي، من أصل 600 جمعية بينها جمعيات ذات توجه ديني غير إسلامي، وهى تقدم مساعدات مالية وغذائية وطبية للفقراء، كما تقدم خدمات تعليمية واجتماعية سواء عبر الدروس اليومية أو النشاطات الترفيهية، مثل جمعيتي «المحسنية« و «اليوسفية« اللتان تضمان أعرق مدرستين خاصتين إسلاميتين في دمشق، وهناك ايضا الجمعية «الخيرية لإغاثة الفقراء«، و«الرحمة والإحسان« و«المبرات الإسلامية« التي تقدم رعاية للتلاميذ، وجمعية «التمدن الإسلامي« التي توفر رعاية صحية وتعليمية خيرية، وجمعية «الفرقان للعلوم الشرعية« وهي تعليمية، وكذلك «جمعية المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني« للتعليم الشرعي. وبينما تحتل الواجهة الجمعيات والمدارس الخاصة بالمسلمين، تكاد لا تذكر نظيرتها لدى أبناء الأديان الأخرى رغم كثرتها فى سورية، ما يؤكد محاولة السلطة خلق إسلام رسمي غير مسيس.

الشيخ والباحث حسين شحادة يرى أن الدين لم يتأثر سوى في مرحلتين: مرحلة «تسيس الدين« ومرحلة «التوظيف السياسي للدين«، وكلاهما يشكلان خطورة باستمرار من جانب توتير الواقع الديني«. ولعل هذا ما يجعل اهتمام الدولة بالتدين الشعبي يترافق مع رفض لمبدأ الأحزاب الدينية، بتأكيد من المؤتمر القُطري العاشر الذي عقد يونيو (حزيران) 2005 بعدم السماح بقيام أحزاب على أساس ديني أو عرقي. ويقول الدكتور محمد حبش الذي أشيع عنه العام الماضي القيام بتأسيس حزب إسلامي، أنه حالياً لا يرى مبررا لقيام حزب دينى لسببين «أولا انه لا يوجد لدينا أحزاب تعادي الإسلام، حتى ننشأ حزباً للدفاع عنه. ثانيا: لا يوجد لدينا حزب يتبنى تفسيراً راديكالياً للإسلام، حتى ننهض لمقاومة هذا التشويه«. ويرى حبش أن المطلوب الآن وضع قانون للأحزاب يؤسس لتعددية سياسية. أما الشارع الذي يرغب برؤية أحزاب إسلامية في سورية، فيفضل حبش ان يكون على «الطريقة التركية في حزب العدالة والتنمية بحيث تقوم أحزاب مماثلة تحترم القيم الإسلامية وتدعو إليها ولكنها في الوقت نفسه لا تقوم بإدخال التصنيفات الدينية في الحياة السياسية«. لكن هل خلق اطر للإسلام الرسمي، ومحاولة قولبة المجتمع داخلها، تتمتع بدرجة من الأمان تجعل السلطة مطمئنة إلى احتوائه لاسيما عناصر الشباب؟ قد تكون الثقة التي يتمتع بها رجال الدين المتحالفون مع السلطة، عنصر الأمان الوحيد، لكن دونما ضمانات حقيقية، إذ في حال نجحت جهة أو عامل سياسي في إشعال المشاعر الدينية، فمن الصعب السيطرة عليها. وتكشف حادثة إحراق السفارات في دمشق احتجاجاً على الرسوم المسيئة للرسول، عن حد السيف الجارح لظاهرة التدين، إن هي خرجت عن نطاق السيطرة، وهو ما يجعل التخوف من المد الديني، ليس مجرد مخاوف لا أساس لها. فالشاب الذي تُرك لفترة طويلة أمام خيارات محدودة هى: الدين أو الحزب أو لا شيء؛ وصل اليوم إلى مرحلة بات فيها جاهزاً للفرز وفق تلك الخيارات المسبقة، وأكثر ما يثير التوجس أن يتم فرز المتدينين تبعاً لدعوة سياسية من خارج الحدود، في ظرف سياسي دولي يجير أية تحولات نحو مصالحه. وبالتالي لم يعد ممكنا الثقة العمياء، بأن التدين الشعبي في سوريا بعيد عن السياسة، وحتى لو كان بعيداً عنها فهو جاهز للالتحاق بها.

إلا أن الشيخ حسين شحادة يرى أنه الآن «تجري عملية مراجعة حقيقية لبعض الشعارات الدينية التي طرحت في الثمانينات حول الصحوة الدينية، حيث تبين أنه لم يكن هناك صحوة حقيقية، إنما كان هناك «احتماء في الخندق الديني«، أمام اجتياحات الخارج. واليوم إذا كان هناك مؤشر إلى العودة إلى الدين، فإن هذه العودة ناتجة عن تداعيات الانهيار العام فى المنطقة«.

* الآنسة منيرة.. والمنديل الأزرق > الى جانب معاهد تحفيظ القرآن فى سورية هناك حوالي 40 مدرسة ذات طابع ديني تدور في فلك الشيخة منيرة القبيسي، وهي مدارس تدرس المناهج التربوية المعتمدة رسمياً في عموم المدارس السورية، يضاف اليها خدمات تدريس دينية. ويقول الشيخ محمد حبش عضو البرلمان السوري إنه «خلال أربعة عقود عملت الآنسة الفاضلة منيرة القبيسي على إعداد الجيل عبر التربية الدينية والإيمانية في المجتمع، وخلال هذه الفترة حققت نجاحاً واضحاً نظراً لاهتمامها بالأساليب التربوية، ولانضمام سيدات خبيرات بالتربية إليها، وظهر تأثيرها بعد أن بدأت تؤسس المدارس الخاصة، ابتدائية وثانوية، حيث كان لهذه المدارس تأثير خاص في الشارع السوري، نظراً لنجاحها، وبات معظم أبناء المجتمع السوري يحرصون على تسجيل ابنائهم فيها، الأمر الذي وفر لهذه الآنسة ومجموعتها مزيداً من النجاح والمحبين من النساء اللواتي انخرطن معها في العملية التربوية». ويقدر عدد أتباع الآنسة منيرة القبيسي من النساء بـ75 ألف امرأة، منهن مربيات ومدرسات يعقدن حلقات تدريس ديني في المنازل. ومؤخراً نقلت الصحف خبر سماح السلطات بممارسة نشاطهن علناً، علماً أن هذه الحركة التي باتت تعرف شعبيا بـ«القبيسيات» ليست حركة سرية، وانطلقت من دمشق باتجاه العديد من الدول العربية والأجنبية. ويقول الشيح محمد حبش «إنه من الناحية التنظيمية لا يوجد شيء اسمه القبيسيات، ولا توجد جمعية خاصة تنتمي إليها المدارس، وإن الأمر هو تقديم خبرات الآنسة منيرة وخبرات الفريق المحيط بها في مجال التعليم الديني لتلك المدارس، كما أن هذا النشاط لم يذهب باتجاه السياسة». ويضيف حبش «وقوف الآنسة منيرة على مسافة واحدة مع رجال الدين أكسبها احترامهم، وبالتالي أصبحت مدارسها بشكل طبيعي رافداً للجيل الذي ينشأ على التربية الدينية». والمنضويات فى مدارس الآنسة منيرة معروفات للجميع من طريقة ملابسهن التي تشير إليهن حيث يرتدين المانطو الكحلي والمنديل الأزرق الداكن مع جوارب نسائية سميكة، وهذا لا يختلف عن الزي المعاصر للمتدينات السوريات، إلا من جانب الالتزام بلون معين، أما حراكهن داخل المجتمع الدمشقي، فلم يكن خفية كما يتم الترويج له من قبل البعض. وأياً كانت أهداف هذه الحركة فإن الظاهر للعيان منها، السعي لتحويل «التدين الشعبي» الفطرى الى «تدين ثقافي» عبر تدريس علوم الدين وتأصيلها بالأخص لدى النساء.

أم عمار (60 عاما) وهي معلمة ثانوي، ربت بناتها الأربع بطريقة حديثة، وهي شخصيا ليبرالية الأفكار ومتزوجة من شيوعي سابق، لكنها وجدت نفسها أمام امتحان صعب لدى التحاق أكبر بناتها بحلقة تدريس ديني، فوقعت في الحيرة، بين أن تنهى ابنتها عن تلك اللقاءات وبين إحساسها الداخلي بعدم جواز نهيها، كفعل أخلاقي يهذب النفس، وامتثلت الى إرادة ابنتها عندما قررت الأخيرة ارتداء الحجاب رغم ممانعة الأب الشديدة، كما وقفت مندهشة أمام التزام ابنتها بممارسة الواجبات الدينية كافة. ويوماً بعد آخر وجدت نفسها تلتحق بابنتها الى تلك الحلقات، والتي تصفها بأنها لتعليم الفتيات حفظ القرآن الكريم، والتشجيع على العمل الخيري والتعاون في مواجهة الانحلال الأخلاقي. وبسبب ممانعة الزوج انكفأت «أم عمار» عن الجماعة وكذلك ابنتها بعدما تزوجت، لكنهما لم تغيرا سلوكهما «المتدين».