دموعي وابتسامتي.. وثوبي البنفسجي

مريم عيسى اللاجئة السودانية من دارفور.. تحكي كيف تعيش حياة المخيمات بإيجابية رغم كل شيء

TT

انها ليست في دائرة الضوء، ولكن مريم عيسى مجرد امرأة من بين آلاف النساء في دارفور اللائي تطوقهن أزمة الاقليم التي توصف بأنها الافدح انسانيا على مستوى العالم. تقدم لها الازمة على طبق يومي البؤس والشقاء، وتحمل آمالها الى حافة حرف هار، وتنقلها الى ماض كان ارخبيلا.

مريم عيسى، 45 عاما، هي الان نازحة سودانية موزعة بين ماض اصبح رمادا، وواقع مثل جمرة تحرق في الحشا، وبين مستقبل مفتوح على افق «اللاشيء»، وذلك بعدما اكتسحت جحافل ميلشيات الجنجويد قريتها «كانقي» على سفوح جبل مرة بغرب دارفور، فقتل من قتل، وجرح من جرح، والباقون، ومنهم مريم، اصبحوا هياكل محشورة في معسكرات اللاجئين حول مدن دارفور. انتهت قرية «كانقي»، وهي تعني بلهجة قبيلة الفور، نوعاً من الذرة الشامي، اي «عيش الريف»، كما يسمى محليا. مريم وأسرتها الان في «عرض» خيمة من خيم النازحين في مدينة «زالنجي» القريبة من دارفور، ولأنها مستنيرة ومتعلمة، فقد تدرجت في سلم النزوح الى مشرفة غير رسمية، وقائدة رأي في شؤون النزوح، ووصلت مرتبة اهلتها للمشاركة في نشاطات خيرية تشق من خلالها طريقها بصعوبة، لتقدم ما يسد الرمق في المعسكرات، وهذا سر تنقلها بين مدن دارفور، وزياراتها للخرطوم التي تزورها هذه الايام، والتي اتاحت لـ«الشرق الأوسط» مقابلتها. في طفولتها تمنت مريم ان تكون معلمة مثل «ست خديجة»، التي جاءت من المدينة مع فريق تفتيش مدرسي الى مدرستها المختلطة الابتدائية في قرية سُلو الاكبر حجما وتطورا من قريتها كانقى، وكانت مريم واحدة من اربع تلميذات فقط في المدرسة، نالت ست خديجة اعجابهن الى حد السحر، فبتن يقلدنها في صوتها وحركتها وما يخرج من فمها من لهجة المدينة المعروفة في السودان، ولم لا فقد كانت ست خديجة اعلى درجة وظيفية لامرأة تصلهم في تلك البقاع.

وكان طموح مريم ان تكون مثل ست خديجة، مثل حلم اسطوري، وذلك لان التعليم في الخمسينات والستينات في قرية كانقى، وما حولها، كان ضربا من ضروب «الكفر»، ومن يتجه من ابناء الاعيان والذوات يتهم بالسعي «لتعلم كلام الخواجات» وكلام الخواجات عندهم «كفر»، وبسبب ذلك بدأت مريم مشوارها الاول في التعليم بالذهاب الى «خلاوي القرآن»، اي مدارس تعليم القرآن الكريم، فحفظت منه «جزء عم»، وشيئاً من «تبارك» في سنٍ مُبكرة، وأكثر ما يعجبها في هذه الخلاوى الوجبات التي تقدم، كانت «عصيدة من عيش الماريق» باللبن تصنع من الذرة.

وتدريجيا قبل الناس في كانقى ونحو 160 قرية وبلدة مجاورة التعليم المنظم، وبحذر دخلت مريم المدرسة، وتدرجت بتفوق الى ان اكملت دراستها الأولية في «سُلو»، ثم الوسطى في مدينة الجنينة اكبر مدن غرب دارفور، وهناك بدأت تحسب الفرق بين قريتها كانقي ومدينة الجنينة.

هناك، في الجنينة، كبرت طموحاتها، وصارت اكثر حماسا في السير على خط ما تتمنى ان تكون: معلمة، ولكن اضواء الجنينة ربما بهرت مريم، فانتكست جزئيا في مستواها الدراسي حتى أحرزت، في مرة من المرات، درجات متوسطة في مادة الحساب بعدما كانت في سلو تحرز الدرجة الكاملة، وتقول في هذا الخصوص «ربما سبب التحول في الجنينة يعود إلى السكن الداخلي، سكن الطالبات»، وهذا ما لم تعتد عليه في السابق. مضت مريم عيسى في سلم التعليم، فدرست في كلية المعلمات بمدينة «الابيض» اكبر مدن غرب السودان في اقليم كردفان، وتخرجت منها عام 1970، والتحقت بالتدريس، وصارت معلمة مثل ست خديجة، التي زارتهم في سُلو، وبعد اعوام قضتها في حقل التدريس من مدرسة الى اخرى، تبدلت النظرة التجريمية للتعليم، فكبر طموح مريم وتخطت درجة المعلمة، فقد واصلت الدراسة، وقررت ان تنال الشهادة الثانوية، التي تعتبر الجسر المؤدي الى الجامعة، لكن لم يحالفها الحظ في مواصلة الدراسة، رغم التحاقها بالدراسة في ساعات المساء في مدينة نيالا في السبعينات، ولاحقا نالت مريم دبلوم تغذية وفلاحة مدرسية من معهد شمبات الزراعي، في الخرطوم.

مريم تقول الان انها بلغت درجة الموجهة في التربية والتعليم، في زالنجي وهي سعيدة اجمالا في حياتها لولا ظروف اللجوء بسبب الاوضاع في دارفور، التي اضطرتها الظروف ان تتحملها وحدها فهي مطلقة، ولم تتزوج. وهي وشقيقها الاكبر، وهو معلم ايضا، يتحملان مسؤولية الاسرة المكونة من 12 شخصا، من الوالدة الى الاشقاء الى الشقيقات الى ابناء الاخوات. بعضهم يعيش في المعسكر والبعض الاخر في مكان عمله في مدن اخرى، وبينهم طلاب في الجامعات. وتضيف مريم «ان حياتنا تقتضي الاعتماد على كل مدخول افراد الاسرة، الذين يعملون في وظائف ثابتة، فضلا عن الاعانات التي تصل الى المعسكر من المنظمات وهي عبارة عن وجبات جاهزة، ومواد غذائية تحتاج الى التصنيع».

وتقول «كنا في كانقى نزرع المحاصيل الزراعية مثل: الذرة والفول والبصل والخضروات، وغيرها، ونربي الماشية، ولكن الان فقدنا كل ذلك، فالارض هناك مهجورة الا من الكلاب الضالة، والماشية نهبت كلها، وعليه اصبحت الحياة عندنا في الاسرة صعبة للغاية، لان الاعتماد كله صار على المرتب المحدود، او على ما يرسله لنا ابناء الاسرة في دول الاغتراب، والاعانات التي نتلقاها من المنظمات».

وتتابع «اثناء العام الدراسي ظللت في زالجني امارس عملي بدوام مستمر، لان عملي هو الاهم وهو مصدر رزقي ورزق اسرتي الاهم بعد ان فقدنا كل مدخراتنا في كانقي، وفي الاجازة السنوية اجد الفرصة للتنقل من منطقة الى اخرى للمشاركة في الاعمال الخيرية، وأشارك في المعارض، والبحث مع اخرين من نساء دارفور عن كل ما من شأنه ان يوقف الحرب في دارفور، حتى نعود الى ديارنا التي فقدناها». وتقول «اكثر ما يقلقنا ليس هو توفير متطلباتنا اليومية، وانما الانتظار الذي طال للسلام وعودة الاستقرار الى قريتنا».

ثم يخرج الزفير ساخنا من جوف مريم وتقول «أصبحت المعسكرات هي مساكننا.. نتنقل بين معسكرات زالنجي والجنينة، نبحث في هذه الامكنة وما فيها من اشياء عن كانقى التي كانت». لقد فقدت مريم 9 من افراد اسرتها، وهم عمها وثلاثة من اولاد خالها واربعة من اولاد شقيقاتها، وابن عم، كما فقدت 15 بقرة. من باب شر البلية ما يضحك تحكي مريم «ان احد افراد اسرتها جره الحنين جرا الى القرية، فذهب اليها، فهاجمته الكلاب الضالة فلاذ بجذع شجرة يابسة تسلقه واحتمي بعلو الشجرة من أنياب الكلاب الجائعة، مكث في اعاليها ما مكث، حتى أنقذه بعض المارة».

وبرغم كل الظروف تحب مريم القراءة والرسم، ولكن «لا وقت لذلك ولا مكان لامرأة تولول بين المعسكرات، وضياع كانقى»، كما تقول. تحب مريم اللون البنفسجي، ويندرج هذا اللون في تفاصيل اشيائها الى حد بعيد، وتهوى ملاعبة الاطفال، وهذا سر انهماكها في تربية اطفال شقيقاتها، تعاملهم وكأنهم ابناؤها، هي امهم التي لم تلدهم، وتبدو مريم في اعلى تجلياتها النفسية عندما تعصب شعرها بخمار وترتدي الثوب وحبذا لو كان بنفسجيا.

وثمة جوانب اخرى في مريم اكتشفتها هي في اواخر السبعينات، وهي انها فنانة لها القدرة على تطويع «الاشياء المحلية» الى تحف فنية فولكلورية، مثل «الطبق والبرتال والعمر والقفة وجدائل صناعية»، وهي تردد دائما انها الاقدر من بين صديقاتها في القرية على صناعة « الطبق من السعف»، وقد شاركت في العديد من المعارض المحلية في دارفور المعروفة بمعارض الولايات، او الخرطوم، كما ظلت تتعامل تجاريا مع هذا الفن، وتقوم بتوفير ما يطلبه بعض المعارض الدائمة لبيع الاشياء الفولكلورية، ولكنها تقول ان «العائد منها اقل من متعة مجرد التعامل مع هذه الاشياء».

لكن المصاعب الشديدة اظهرت قدرة مريم على المقاومة وعلى التحرك للامام بايجابية، وهي تقول حول تأثير الحرب على شخصيتها «في مرة من المرات اختيرت مجموعة من النساء المتعلمات للذهاب الى ابوجا النيجيرية، حيث تدور المفاوضات بين الحكومة والحركات المسلحة لعكس قضية المرأة في دارفور بعد المشكلات، وقد كان لذلك الاثر الكبير في حلحلة بعض المشكلات، قد ركزنا على صعوبة وضع المرأة ورداءة وضعها المعيشي في المعسكرات». مريم الان لا تتمنى اكثر من العودة الى كانقى، والى مساكنها الريفية المصنوعة من الحطب والحشيش والطين النيئ والمعروفة بـ «قطاطي دَرادِر»، وان تستنشق رائحة البلل الصاعدة من عشب القرية وارضها التي تؤاخي بين الطين والرمال. وتتذكر «حينما كنت طفلة كان الفرح منثورا في القرية، له مواسم ومناسبات مثل مناسبات الطهور والختان، وهناك موسم الحصاد. كنا نلهو بلعبة (الكوسوك)، وهي رقصة شعبية معروفة عند قبيلة الفور». هكذا تتذكر مريم، وهي تمد عنقها، وتردد: السلام، السلام، السلام. اما وقت الترفيه القليل عند مريم فتقضيه في سماع الاغاني القديمة التي تحبها، وهي تحب صوت المطرب السوداني عبد الكريم الكابلي، وهي تحلق في سماوات اغنيته الشهيرة «زمان الناس» التي تقول في مستهلها «زمان الناس هداوة بال.. وانت زمانك الترحال»، تسمعها فتفرح.. وتبكي.