البحث عن ضمير نقي .. في واشنطن

شيئان مهمان في السياسة الأميركية: الأول هو المال.. والثاني هو المال

TT

أعلن روبرت مردوخ الملياردير الاعلامي، ومالك تلفزيون «فوكس» وصحف كثيرة في بريطانيا وأميركا واستراليا وغيرها، انه سيقيم حفلا لجمع تبرعات للسناتور الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي تنوي الترشيح لرئاسة الجمهورية بعد سنتين. ولم يفسر كل من مردوخ وكلينتون الخبر الذي فاجأ الكثيرين، وذلك بسبب الاختلافات السياسية والفكرية الكثيرة والعميقة بين الاثنين. فقط اكتفى مردوخ بالقول عند الإعلان عن التبرع «نحن في نيويورك، والسناتور هيلاري كلينتون تمثل ولاية نيويورك، ونحن نعتقد بأنها قدمت خدمات كثيرة للولاية وللمدينة». واكتفت هيلاري بالقول «لا بد أن للموضوع صلة بالخدمات الكثيرة التي قدمتها لنيويورك». وكان هذا التحول غريبا، لأن هيلاري ديمقراطية، ومردوخ يميل أيديولوجيا وسياسيا للحزب الجمهوري والأفكار اليمينية عموما، كما أن علاقة مردوخ مع ال كلينتون، لم تكن دوما على يرام. فقد هاجمت، قبل 6 سنوات، جريدة «نيويورك بوست»، التي يملكها مردوخ، هيلاري عندما اعلنت انها ستترشح سناتورا عن نيويورك. ونشرت الصحيفة عنوانا كبيرا في صفحتها الأولى هو «لا تترشحي يا هيلاري»، وكان ذلك بداية عداء واضح ومباشر من جانب صحف وتلفزيونات مردوخ ضدها. وقبل ذلك، انتقدت صحف وتلفزيونات مردوخ زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون، على خلفية الكثير من القضايا. لكن مردوخ اشترك، في السنة الماضية، مع بيل كلينتون في مؤتمر عن البيئة. ودعاه، في الشهر الماضي، لالقاء محاضرة أمام كبار الموظفين في شركة «نيوز كورب» التي تدير صحفه وتلفزيوناته واذاعاته. لماذا غير مردوخ رأيه عن الاثنين؟ لا بد ان الرجل الذي يملك امبراطورية اعلامية رأسمالها 60 مليار دولار، يعرف ان «المصالح» اهم من «الموقف السياسى»، خاصة اذا فازت هيلاري برئاسة اميركا بعد سنتين.

ويمكن اعتبار هذا النموذج مثالا على التداخل بين المال والسياسة في أميركا والعالم كله. فلا تخلو الاحزاب السياسية والانتخابات والمرشحين السياسيين من عنصر المال، لأن السياسيين يتسابقون على أخذ تبرعات من رجال الأعمال لحملاتهم الانتخابية.

لكن هل هذا جزء من حق الأميركيين الدستوري ليتبرعوا لمن يريدون، ويتسلموا تبرعات من يريدون؟ أو هو فساد؟ سأل الأميركيون هذا السؤال من قبل استقلال بلدهم قبل اكثر من 200 عام، وظلوا يتناقشون حوله، أوصلوا الموضوع مؤخرا الى المحكمة العليا التي قالت انها لا تستطيع حظر حرية التبرع بالأموال، كما لا تقدر، في نفس الوقت، على تقنين «نية وهدف» الذي يتبرع و«نية وهدف» الذي يتسلم التبرع.

وموضوع تداخل المال في السياسة، فتح عندما ترشح الرئيس الاميركي الراحل جورج واشنطن سنة 1757، قبل ان يكون أول رئيس أميركي بعشرين سنة، في دائرة انتخابية في ولاية فرجينيا. فقد صوت في الدائرة 391 شخصا فقط (كان عدد سكان اميركا في ذلك الوقت اقل من اربعة ملايين شخص). وفاز واشنطن، لكن بعد ان وزع كحولا على الناخبين، ويقال ان متوسط نصيب كل شخص صوت، كان ثلاث كؤوس. لكن تكاليف الانتخابات كانت قليلة في ذلك الوقت، قبل اختراع القطار والسيارة والطائرة والكهرباء. فقد كان السياسيون يتنقلون بالخيول، ولم تزد تكاليف الانتخابات عن اطعامهم هم وخيولهم خلال السفر، رغم انهم، وأصدقاءهم، استعملوا الموائد الدسمة لأغراء الناخبين.

لكن وصل عدد سكان أميركا في سنة 1828 (بعد خمسين سنة من الاستقلال) الى عشرين مليون شخص، وزادت مساحة البلاد، وعدد الأصوات في كل دائرة، وزادت تكاليف الانتخابات، وزاد دور رجال الأعمال. وطلب، في نفس تلك السنة، مرشح لمنصب حاكم ولاية كينتاكي 10 آلاف دولار تبرعات من أصدقاء ورجال أعمال لتغطية حملته الانتخابية. وأعتقل، بعد ذلك بعشر سنوات، مرشح لمنصب عمدة نيويورك، لأنه دفع عشرين دولارا لشراء كل صوت.

وعندما اشتدت الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب أدت، مثل كل الحروب، للنهضة الاقتصادية (بسبب زيادة انتاج المصانع الحربية، وزيادة توظيف الجنود). وظهر بوضوح تحالف بين السياسيين الذين كان هدفهم جمع تبرعات ليصرفوها في حملاتهم الانتخابية، ورجال الأعمال الذين كان هدفهم تحقيق مصالح من بينها سن قوانين تخفض الضرائب عليهم، أو تمنحهم عقودات حكومية، أو تبني طرقا قرب مصانعهم.

ووضح التحالف أكثر عندما ظهر عمالقة الرأسمالية الأميركية مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، مثل: كارنغي صاحب مصانع الصلب، وفورد صاحب مصانع السيارات، وروكفلر صاحب آبار البترول، وروجرز صاحب مناجم الفحم، ودوبونت صاحب مصانع الكيماويات، وفاندربيلت صاحب اساطيل السفن والقطارات (كان اغنى رجل في العالم في وقته).

ومع تزايد الروابط بين المال والسياسة في اميركا، بدأت الاتهامات من كل جانب. فدافع السياسيون عن انفسهم، ردا على ذلك، مثل السناتور مارك هانا الذي قال، في سنة 1895: «هناك شيئان مهمان في السياسة: الأول هو المال، لكني نسيت الثاني». وأضاف «نعم، قبضت أموالا من رجال أعمال، لكنها لم تؤثر على ضميرى. نعم أنا صوتت لصالح قوانين تخدم رجال أعمال، لكن ليس بسبب أموالهم».

لكن تبرير مارك هانا وغيره من السياسيين لم يقنع بعض المؤرخين الأميركين الذين وجهوا انتقادات شديدة الى هذه الفترة، مثل المؤرخ جورج ثايار الذي كتب مؤخرا أن ذلك الوقت كان «عصر الرشوة الذهبي». وأضاف «لم يحدث مثل هذا الفساد في تاريخ أميركا. لم يكن هناك منصب أعلى، أو شخص أهم، أو ضمير أنقى، أو قانون أقوى، أو مبدأ اكثر قدسية من ان يصبح ضحية الفساد، او ينهزم امام اغراء المال». وربما سبب هذا الحكم القاسي أن رجال الأعمال والسياسيين كانوا يلتقون في الملاهي الليلية، وأماكن للرقص كانت مشهورة، وأصبحت جزءا من تاريخ مدن كثيرة. مثل «تماني» في نيويورك، و«بن روز» في فلادلفيا، و«أيمز» في منيابوليس، و«باث هاوس» في شيكاغو.

للرد على المخاوف من تداخل المال في السياسة، صدرت خلال النصف الاول من القرن العشرين، تعديلات دستورية وقوانين لمواجهة هذا وما قد يترتب عليه من فساد ومحسوبية. مثل التعديل السابع عشر لانتخاب اعضاء مجلس الشيوخ (كانوا يختارون بالتعيين، مما فتح الباب أمام محسوبية ورشوة). والتعديل التاسع عشر بمنح المرأة حق الانتخاب (قال البعض إن المرأة أكثر نزاهة من الرجل، وأثبتت احصائيات في ذلك الوقت، أن الرجل مستعد لبيع صوته الانتخابي اكثر من المرأة).

ووضع الرئيس الاميركي الراحل فرانكلين روزفلت، قبيل وخلال الحرب العالمية الثانية، أسس «المذهب الجديد» لحماية الشعب من طمع رجال الأعمال وشركاتهم، وسن قوانين الضمان الاجتماعي والضريبة التصاعدية، والحد الأدني للأجور، والتأمين الصحي، وغيرهم. وظهرت اتحادات ونقابات عمالية قوية لمواجهة رجال الاعمال وشركاتهم، وبدأت تتبرع للسياسيين الليبراليين. لكن هذا النوع الجديد من التبرعات اصبح نوعا من انواع استغلال النفوذ. فقد تبرع اتحاد المنظمات الصناعية بربع مليون دولار للحملة الانتخابية للرئيس روزفلت سنة 1936. رفض روزفلت، في البداية، التبرع خوفا من اتهامات الفساد. لكنه قبل المال عندما احتاج له.

حتى روزفلت لم يقدر على الصمود امام اغراء المال، وذلك لأن ظهور الراديو، ثم التلفزيون، فتح الباب امام الاعلانات الانتخابية التي كانت قاصرة على الصحف ولافتات الشوارع حتى ذلك الوقت، وأدت الدعاية بالراديو والتلفزيون الى زيادة تكلفة الحملات الانتخابية. فقد صرف كل المرشحين 155 مليون دولار في انتخابات سنة 1956، وارتفع الرقم الى 300 مليون دولار في انتخابات سنة 1968 بسبب الاعلانات التلفزيونية. وكان ارتفاع تكاليف الانتخابات من أسباب زيادة اقبال ابناء الاغنياء على السياسة. وظهر اولاد روكفلر (عملاق البترول)، واولاد كنيدي (عملاق صناعة الكحول)، واولاد هاريمان (عملاق النقل بالقطارات)، واولاد هاينز (عملاق الخل والكاتشب). وبسبب هذا أصبح الفساد السياسي ظاهرة مقلقة للديمقراطية الأميركية، خاصة خلال ادارة الرئيس ريتشارد نيكسون. ورغم انه اشتهر لاستقالته بسبب فضيحة «ووترغيت» الخاصة بالتجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي، الا أن فضائحه المالية لم تكن اقل فقد ارسل له المليونير روبرت فيسكو، حقيبة فيها 200 الف دولار نقدا، وأرسل له المليونير هوارد هيوز100 الف دولار عن طريق طرف ثالث. وأوضح تقرير كتبه الكونغرس أن شركات اميركية وأجنبية ارسلت له تبرعات بطرق لا تليق بمنصبه كرئيس للجمهورية. وسن الكونغرس، في نهاية القرن الماضي، مثلما فعل في بداية القرن، ثم في منتصف القرن نفسه، قوانين جديدة لمواجهة التأثيرات السلبية لعلاقة المال بالسياسية. منها:

اولا: حدد حجم تبرعات الشركات والأفراد.

ثانيا: امر بأن يكشف كل مرشح التبرعات التي يتسلمها.

ثالثا، امر بتسجيل جماعات الضغط (اللوبي)، التي تقدم تبرعات.

لكن الفساد وجد طرقا أخرى:

اولا: نسقت جماعات الضغط تبرعاتها بشكل ذكي اكثر.

ثانيا: انتقلت التبرعات من واشنطن الى فروع الحزبين في الولايات.

ثالثا: ظهرت تبرعات عينية، مثل شراء اعلانات لصالح مرشح معين بدلا عن التبرع له.

وقال تقرير أصدره مركز السياسة المسؤولة (رسبوسنف بوليتكز)، في واشنطن، المتخصص في كشف الفساد السياسي، إن «القوانين تغيرت، لكن لم يتغير مصدر المال الذي يصرفه السياسيون على حملاتهم الانتخابية. وقال التقرير ان 80% من الاموال التي صرفت على انتخابات الكونغرس مؤخرا جاءت من لجان العمل السياسي «باك». و«باك» هذه اسست، خلال العشرين سنة الماضية، مئات مكاتب في واشنطن لاسماع صوتها للسياسيين، وللتبرع لهم، ولاقناعهم بالتصويت لقوانين تخدمهما.

ويقول البعض في محاولة للتخفيف من اثر القضية، ان تداخل المال والسياسة في اميركا «جزء من طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي الاميركى»، وانه مهما تشددت الاجراءات والقوانين سيظل هناك دوما قضايا واتهامات. ويستعرضون في هذا الصدد قضية ما زالت تشكل احراجا بالغا لأعضاء بالكونغرس، خاصة بعد الحكم الذي صدر في الشهر الماضي، بالسجن 8 سنوات على راندي كننغهام، عضو الكونغرس الجمهوري من ولاية كاليفورنيا، لأنه تسلم رشى بملايين الدولارات من رئيس شركة اسلحة تعاقدت مع البنتاغون، بعد ان استغل منصب كننغهام كرئيس للجنة العسكرية في مجلس النواب. وقد بكى كننغهام امام المحكمة، وشاهده عشرات الملايين من الاميركيين في التلفزيون وهو يبكي. ويعود الفضل في كشف فساد كننغهام الى صحافي في جريدة «سان دييغو يونيون تربيون»، لاحظ ان كننغهام يعيش في منزل عائم في نهر بوتوماك، في واشنطن العاصمة، لكن المنزل مسجل باسم مدير شركة الأسلحة. وأعلن محققون، في الاسبوع الماضي، ابعادا جديدة لقضية كننغهام من بينها اكتشاف ان اعضاء غيره في الكونغرس لهم صلات بشركة الأسلحة، ثم اعتقال كايل فوغو، الرجل الثالث في وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.ايه)، لأنه وقع عقودات مع الشركة، وقد نقل التلفزيون صورا حية للشرطة، وهي تفتش منزله وتنقل منه أوراقا وملفات، وأكدت مصادر أن الشركة اقامت حفلات لأعضاء الكونغرس وكبار المسؤولين، وجمعت في فندق كان اسمه، وللمصادفة «ووترغيت».