الحصار.. وسط الحصار

في حالات نادرة نجح صرافون في تحويل مبالغ من أفراد لعائلات فلسطينية لكن مقابل عمولة وصلت إلى 20%

TT

الحصار الاقتصادي ليس جديدا على الفلسطينيين فهو جزء حيوي في السياسات الاسرائيلية اليومية، ومع ذلك فإن الاشهر الماضية ومنذ وصلت حماس للسلطة كانت مضنية بشكل خاص. ابرز مظهر للحصار هو وقف أية تحويلات مالية إلى خزينة السلطة الفلسطينية، وتحتجز الحكومة الإسرائيلية نحو 120 مليون دولار من الأموال التي تجمعها لصالح السلطة كمستحقات ضريبية، بالإضافة إلى وقف الدول الأوروبية والولايات المتحدة لتحويل أموال كانت تدفعها للسلطة الفلسطينية. ولم يكن هذا المظهر سوى رأس جبل الجليد الظاهر، بينما الأصعب ما يجري تحت السطح، فخطة الحصار، لم تشمل فقط تجميد الأموال الأميركية التي كانت تقدم للسلطة وإجبار الدول الأوروبية على الحذو حذوها، بل انها توسعت لتشمل أية أموال تحولها لمؤسسات أو أشخاص من مختلف دول العالم إلى الأراضي الفلسطينية.

وفعليا بدأ الحصار منذ اكثر من عام، وكان المستهدف منه حركة حماس، ومؤسساتها الخيرية والمدنية، وامتنعت بعض البنوك عن قبول أي تحويل من أية شخصيات من حماس أو يشتبه أنها مقربة منها، من أية دولة في العالم إلى الأراضي الفلسطينية. وتوسعت بعض البنوك، في اتخاذ إجراءات من هذا النوع، خصوصا بعد دعوى رفعت ضد احد البنوك، يعد من أكبر البنوك العاملة في الساحة الفلسطينية. وشملت هذه الإجراءات منع تحويلات من قطاع غزة إلى الضفة الغربية أو بالعكس، لجمعيات خيرية، مما حرم مئات العائلات الفلسطينية المحتاجة من المساعدات. ونتيجة ما يعتقد انه تحذير أميركي مشدد للبنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية، فإن البنوك تمتنع عن قبول أية تحويلات مالية حتى تلك البعيدة جدا عن أي شبهة سياسية، مثل التحويلات المالية من الفلسطينيين من دول الخليج إلى عائلاتهم في فلسطين.

وقالت طالبة تدرس في جامعة «بير زيت» لـ«الشرق الأوسط» ان والدها الذي يعمل في دولة خليجية لم يتمكن من تحويل أية مبالغ مالية إليها، بسبب رفض البنوك لقبول أية تحويلات. وأضافت «الحصار الاقتصادي طالنا جميعا نحن مجموعة من الطلاب والطالبات الذين نعتمد في معيشتنا وتسديد اقساطنا الدراسية على تحويلات أهلنا في الخارج والذين يعملون في دول ترتبط بعلاقات حسنة مع الولايات المتحدة الأميركية». وقالت طالبة أخرى «ذهبت إلى البنك الذي أتعامل معه واخبرني انه مسموح فقط قبول التحويلات التي يرسلها قريب من الدرجة الأولى كالأب أو الأخ أو الام، ولكن بعد أسبوع اختلف الأمر، ولم يسمح بتحويل أموال حتى عن طريق هؤلاء». واثر وقف تحويل هذه الأموال خصوصا من دول الخليج على معيشة مئات العائلات الفلسطينية، وعلى الاقتصاد الفلسطيني الهش والتابع للاقتصاد الإسرائيلي. ولا توجد إحصائية عن حجم هذه التحويلات، ولكن يمكن لمس تأثيرها في المصاعب الجمة التي تواجه عائلات فلسطينية عديدة في تدبر أمر معيشتها اليومي. ويقول الدكتور نبيل كوكالي أستاذ الاقتصاد في جامعة الخليل، ومدير المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي ان الحصار الإسرائيلي، وإغلاق المعابر وعزل المناطق الفلسطينية زاد التكلفة على المستهلك الفلسطيني بنحو 37%. ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط» «حسب آخر استطلاع أجريناه فان 80% من الفلسطينيين يشعرون بقلق تجاه وضعهم المعيشي، وهذا يعني أن أغلبية العائلات الفلسطينية بالكاد تستطيع تدبير الحد الأدنى من الحاجات الإنسانية».

وحول تأثيرات الحصار الاقتصادي على الجامعات الفلسطينية، حيث يدرس نحو 50 ألف طالب، يقول كوكالي «حتى الآن لم تظهر تأثيرات مباشرة، ولكن نتوقع أزمة حقيقية مع بداية الفصل الدراسي المقبل، حيث يستوجب دفع الأقساط، ومع استمرار عدم تلقي نحو 160 ألف موظف في السلطة لرواتبهم، فان أزمة حادة تواجه التعليم الجامعي وتهدده بشكل جدي».

ويقول كوكالي بان تأثير الحصار ظهر في انخفاض حاد في القوة الشرائية، لان الموظفين يعتمدون على رواتبهم الهزيلة أصلا، وليس لديهم مدخرات، ليصرفوا منها. واعتقدت بعض العائلات الفلسطينية، بأنه يمكن التحايل على هذا الحصار، وذلك بالطلب من معيليهم العاملين في الخارج بتحويل الأموال إلى حسابات لها في بنوك في الأردن، ولكنها لم تنجح في مساعيها، وتبين أن الذين يفرضون الحصار على أراضي السلطة الفلسطينية فكروا في هذا الخيار الممكن أمام فئة من الفلسطينيين، فرفضت فروع البنوك في الأردن قبول أية تحويلات يشك بأنها ستصل إلى مستفيدين في الأراضي الفلسطينية.

وتكفلت السلطات الإسرائيلية بإحكام الحصار وسد أية ثغرات فيه، وذلك من خلال حجز الأموال التي حولتها مؤسسات في دول أوروبية تدعم أنشطة اجتماعية وثقافية، ومن بينها مثلا مركز للأطفال يعمل بدعم نرويجي، تحتجز السلطات الإسرائيلية الأموال التي تمكن الداعمون النرويجيون من إقناع البنوك بقبول تحويلها، إلى المركز.

مصادر مصرفية تحدثت لـ«الشرق الأوسط» عن الحصار الذي شمل عمل الصرافين، وأشارت هذه المصادر، الى ان الصرافين في الأردن وفلسطين، حاولوا كسر الحصار، وتمكنوا في حالات نادرة، من تحويل مبالغ من أفراد إلى عائلاتهم مقابل نسبة عمولة كبيرة وصلت إلى 20%، ولكنهم لا يتمكنون الآن من تحويل أية مبالغ. وقال صراف رفض الكشف عن هويته «مصاعب كثيرة واجهتنا في عملنا وقبل تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، وتم التحقيق معي شخصيا اكثر من مرة من قبل أجهزة الأمن الفلسطينية التابعة للسلطة الفلسطينية على كل مبلغ تم تحويله من الخارج ويزيد عن 5 آلاف دولار، والآن فانه غير مسموح لنا قبول التحويلات من الخارج، وفي المقابل فانه مسموح لنا تحويل أية مبالغ من هنا إلى أي مكان في العالم». وأضاف «هذا الترتيب الذي يسمح بتحويل الأموال إلى الخارج يفيد الطلبة الفلسطينيين في الخارج، ولكن واقع الأمر انه لا توجد أموال كافية لدى عائلاتهم لتحويلها لهم، فأصبحوا أيضا محاصرين». ويقول محمود الخطيب النائب عن حركة «حماس» في المجلس التشريعي الفلسطيني «استطاعت حكومتنا الإيفاء بالوعود التي قدمتها للفلسطينيين، وأعادت القضية إلى عمقها العربي والإسلامي، وتمكنت من جمع الأموال اللازمة لصرف رواتب الموظفين من مصادر عربية وإسلامية ولكن البنوك ترفض تحويل هذه المبالغ المودعة في حساب بالقاهرة إلى الأراضي الفلسطينية». واستنكر الخطيب في حديث لـ«الشرق الأوسط» موقف البنوك، مطالبا بأن تتخذ «موقفا وطنيا»، حسب تعبيره في مثل هذه الظروف. وفجر موقف البنوك بعدم تحويل الأموال، غضبا لدى أوساط عديدة، وقال الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية بمدينة نابلس لـ«الشرق الأوسط» «إذا كان لا بد من احتجاجات من قبل الموظفين على وضع الحصار، فليكن ذلك ضد البنوك». وفي تصعيد واضح ضد البنوك، طالبت النقابة العامة للعاملين في المصارف والبنوك والتأمين، سلطة النقد الفلسطينية بتوضيح موقف الجهاز المصرفي من الأزمة المالية التي تعاني منها الحكومة الفلسطينية. كما طالب رئيس النقابة خالد عبد الحق، سلطة النقد الفلسطينية، بتوضيح أسباب رفض هذه البنوك لاستلام هذه التحويلات وتحديد هذه البنوك، مطالبا إياها بتحمل جزء من الضائقة التي تلم بالمجتمع الفلسطيني من منطلق أن السوق المصرفي في فلسطين والذي عملت هذه البنوك في ظله وحققت عوائد من خلال عملها، يستحق بذل جهد في معالجة أزمته المالية. وانتقد الدكتور نبيل كوكالي قرارات البنوك بوقف برامج الإقراض للموظفين والتي كانت تروج لها قبل الحصار الاقتصادي. ويقول «حققت البنوك العاملة في فلسطين أرباحا كبيرة، وبعضها صنع اسمه ومكانته نتيجة عمله في السوق الفلسطيني، وعليها أن تواصل تقديم خدماتها، ولا يضير هذه البنوك التي حققت كل تلك الأرباح أن تعمل بدون ربح أو بربح قليل لمدة عام مثلا، كنوع من المؤازرة للفلسطينيين في أوضاع صعبة جدا». وتلتزم إدارات البنوك الصمت، وتحظر رئاستها في عمان على مدرائها العاملين في فروع فلسطين الحديث للصحافة، مع استمرار الانتقادات والتهديد بإصدار فتاوى بمقاطعتها. وعلى مدار ايام اتصلت «الشرق الأوسط» اكثر من مرة بإدارات البنوك، ولم يتم ايصال مراسلها، عبر السكرتاريا، الى أي مسؤول بعد معرفة الهدف من الاتصال. ويعتبر القطاع الصحي الفلسطيني الحكومي، اكثر المتضررين من الحصار الاقتصادي، وفي كثير من المشافي التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية وصل الحصار إلى نفاد الوقود وعدم تشغيل سيارات الإسعاف، كما هو الحال في مستشفى الخليل الحكومي، الذي يعتبر اكبر مستشفى حكومي فلسطيني ويخدم نحو نصف مليون مواطن.

زارت «الشرق الأوسط» المستشفى في مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية، ورفضت إدارة المشفى الحديث عن المصاعب بسبب تعميم من وزارة الصحة بعدم الحديث للصحافة، ولكن الدكتور الصيدلاني سمير بدر، المسؤول عن صيدلية المستشفى تحدث عما وصفها أوضاعا مأساوية يعيشها المستشفى ومرضاه وموظفوه.

قال الدكتور بدر ان الأزمة التي يعاني منها المستشفى والنقص الحاد في الدواء بدأت منذ شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، بسبب الحصار وإغلاق المعابر بين الضفة وغزة، والحصار الاقتصادي، وعدم قدرة وزارة الصحة على توفير الأدوية اللازمة، لعدم وجود الأموال الكافية لذلك، موضحا ان هذا اثر على عدم توفير سيولة مالية على العملية التشغيلية للمشافي. والآن فان النقص في الأدوية في المستشفى الحكومي بالخليل تأثر به نحو 60% من المرضى والمراجعين، ويمكن لمس التأثير المأساوي لنقص الأدوية الخاصة بمرضى الكلى، حيث توجد في المستشفى وحدة غسل للكلى لا تخدم فقط مرضى محافظة الخليل ولكن محافظات أخرى.

وأورد بدر عدة أمثلة على الأدوية المهمة غير المتوفرة حاليا مثل «اريكورمون» والذي يحتاجه مرضى الكلى بشكل ملح، لرفع نسبة قوة الدم لديهم، وأدوية أخرى مثل «اميران» و«برغراف» والذي يحتاجه بشكل ملح نحو 100 مريض على الأقل يراجعون المستشفى زرعت لهم كلى، وهذا الدواء مهم لمساعدة أجسامهم على قبول الكلى المزروعة. ويقول الدكتور بدر «الأدوية الناقصة هي من الأنواع الغالية جدا التي تباع في الصيدليات الخاصة، واثر الحصار على وجود هذه الأنواع حتى في الصيدليات الخاصة». ويضيف «يتوجب الإشارة هنا أن المرضى الذين يحتاجون هذه الأدوية هم من الفقراء والمعدمين، ويمكن من هنا الوقوف على الجحيم الذي يعيشونه».

ورغم ذلك فان الدكتور بدر لا يرى بان الوضع في المستشفى وصل إلى الخط الأحمر، ولكنه يتوقع الوصول إلى هذا الخط بسرعة إذا استمر الحصار ويقول «إذا حدث ذلك فسنواجه كارثة حقيقية». وفي فناء المستشفى الخلفي تقف سيارات الإسعاف صامتة بدون عمل، ويقول أحد السائقين «الوضع مأساوي ولا يمكن وصفه، تصور انك تتلقى اتصالا عن حالة حرجة ولا تستطيع تلبية النداء ونقل المريض إلى المستشفى، وفي أحيان نضطر بشكل شخصي إلى اللجوء للاستدانة من معارف لنا لشراء وقود لتلبية نداء حالة حرجة، ربما تتوقف حياتها على سرعة استجابتنا». وفي مواجهة هذا الوضع، قررت الهيئة الإدارية لنقابة أطباء فلسطين تخفيض رسوم الكشف الطبي بنسبة 50%، وتخفيض أجور العمليات الجراحية أيضاً بنسبة 50 % في مشافي القطاع الخاص، وذلك كحد أعلى مع احتساب التكاليف الأساسية للمواد المستخدمة في العملية، وعدم احتساب رسوم فتح غلاف العمليات.

وطالبت النقابة، وزارة الصحة بإيجاد بدائل عن العلاج في الخارج فوراً أو العمل على استقدام الخبرات التي يحتاجها الوطن، والعمل على وقف تحصيل رسوم التأمين على الحالات الاجتماعية المحتاجة، وأسر الشهداء والأسرى، وذوي الاحتياجات الخاصة، ومرضى الأمراض المدمنة والمستعصية، والموظفين والعمال الذين لم يتقاضوا أجورهم إلى أن يتقاضوها بصورة منتظمة. وناشدت النقابة القائمين على المستشفيات والعيادات الخاصة والأطباء إبراز أعمالهم التطوعية والمساهمة في علاج المرضى بالمجان أو بأجر زهيد لأبناء الشعب محدودي الدخل.

طبيب الأسنان الدكتور ماهر الشيخ يقول بان إجراءات تخفيض الرسوم لم تؤثر كثيرا على المواطنين، لأنه بسبب عدم تلقي الموظفين رواتبهم، فانهم يمتنعون عن اللجوء للأطباء إلا في الحالات الحرجة. ويضيف الشيخ لـ«الشرق الأوسط» «أصبحنا كأطباء نعاني من البطالة، فعدد المراجعين لعياداتنا انخفض بشكل كبير وغير مسبوق». وقررت شركة الاتصالات الفلسطينية، تأجيل قطع الخدمة عن الهواتف، بسبب تأخر صرف الرواتب، في حين أعلن عدد من رجال الأعمال الفلسطينيين تبرعهم بمبالغ للمساهمة في حل الأزمة، ولكن لا يعتقد أنها ستجد حلا مع استمرار الحصار الخانق.

«الشرق الأوسط» سألت جيكوب ويلص، القنصل الأميركي في القدس، عن المعلومات التي نشرتها وسائل إعلام أميركية عن ضغوط تمارسها الإدارة الأميركية على البنوك لمنع نقل الأموال لحكومة حماس من القاهرة إلى الأراضي الفلسطينية، ولكنه تجنب الإجابة المباشرة عن السؤال، وقال بان بلاده تريد أن تستمر في تقديم المساعدات في مجالي الصحة والمصالح العامة للشعب الفلسطيني، من خلال المنظمات غير الحكومية وان حكومته تشجع الأوروبيين لاتخاذ نفس الخطوات، بعيدا عن الحكومة الفلسطينية. وأضاف ويلص «سنستمر في تقديم مساعداتنا للشعب الفلسطيني، ولكن الشيء الوحيد المتمسكين به هو أننا لن نسمح بالتعامل مع السلطة الفلسطينية». ولا يرى ويلص ان بلاده تعاقب الفلسطينيين على اختيارهم حماس، ويقول «لا نريد للفلسطينيين أن يعانوا، وعليهم أن يعلموا أن المشكلة ليست في إسرائيل أو أميركا، ولكن في الحكومة الفلسطينية التي لا تعترف بالاتفاقيات السابقة، ولكن إذا استطاعت أن تتغير فسيختلف الأمر». واكد ويلص بان الإدارة الأميركية لا يمكنها تقديم المساعدات المباشرة إلى الحكومة الفلسطينية حتى تقبل شروط اللجنة الرباعية وتعترف بإسرائيل. فهل يصمد الفلسطينيون حتى ذلك الحين؟

* لماذا أمقت كلمة.. صمود؟ > في بداية العام الجاري، كانت لدى جاك فليفل، 45 عاما، أحلام، يعتبرها أكبر من وظيفته كمفتش في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، حيث خطط وزوجته التي تعمل مدرسة، للقيام برحلة إلى مصر أو سورية، لمدة أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر، ليتمكنا من تجديد حياتهما، بعد ما يعتبرها سنوات السجن والحصار الطويلة، بسبب إجراءات الاحتلال الإسرائيلي وعملياته العسكرية التي لا تنتهي، ولكن تطورات الأمور السياسية وتوقف صرف راتبه وراتب زوجته منذ شهر مارس (اذار) الماضي، أعادته ليس فقط إلى أرض الواقع كموظف بسيط، ممنوع عليه أن يحلم، كما يقول، ولكن إلى مرحلة أقسى وأصعب.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال فليفل: «نعيل أنا وزوجتي ابنين لنا، وأمي المريضة التي تبلغ سبعين عاما، وكيفنا ظروفنا حسب دخلنا، وحرصنا على إلحاق الابنين بمدارس خاصة لنيل تعليم أفضل، مستفيدين من بعض التسهيلات، ولكن الأمور تغيرت الآن».

وأضاف فليفل: «المسألة المهمة بالنسبة لنا كانت تأمين أدوية الأم، والتي تحتاج إلى نحو 70 دولارا شهريا لشراء أدوية للضغط والسكري وأمراض الشيخوخة، ولم نتمكن إلا من تأمين جزء من الأدوية، أما إذا بقيت الرواتب مقطوعة، فسننقل ابنينا إلى المدارس الحكومية، لأنني لن أستطيع دفع الأقساط فحسب، ولكن ليس لدي مال لتسديد رسوم التسجيل للعام المقبل». وتحاول أم جاك، التخفيف من وطأة مطالبها على ابنها، وتقول: «بالنسبة لنا لم يبق الكثير من العمر الذي عشناه في هم وغم في ظل الاحتلال والحروب، ما يهمني هو أن يبقى ابناي يتعلمان في المدرسة التي تعلما بها، ليتخرجا بمستوى جيد، فليس أمامنا كفلسطينيين سوى التعلم، أما بالنسبة لدوائي، فيمكن الاحتمال حتى يفرجها الله».

ومثل كثير من الموظفين، يذهب جاك إلى عمله سيرا على الأقدام، ولكن لا يصل جميعهم إلى أعمالهم، فتوجد نسبة لا يعرف عددها أخذت تمتنع عن الذهاب إلى أعمالها، لعدم وجود نقود لديهم تغطي المواصلات. وتحدث موظفون لـ«الشرق الأوسط»، مشيرين إلى أن نسبة منهم تأخذ إجازات من الوظائف ليوم أو يومين أسبوعيا للعمل في قطاع البناء أو كعتالين في الأسواق أو كعمال نظافة، لتوفير أو عدم وجود مصاريف للمواصلات. ولا تتوفر دائما فرص عمل مستمرة في هذه المجالات، وعندما يجد الموظف المعني عملا مثل هذا، يأخذ إجازة من عمله الحكومي، ليعمل ليوم أو اثنين ويقبض ثمن ذلك ليعينه على استمرار عمله في وظيفته الحكومية.

ويساعد الموظفين في الخروج للعمل خارج الوظيفة الرسمية ليوم أو اثنين، الشلل الذي أصاب مؤسسات السلطة، ووزاراتها، فكثير منها أصبحت، علاوة على عدم دفع الرواتب بدون خدمات هاتف، او موارد مياه وخدمات أخرى، واتخذت إجراءات لتقنين النفقات بشكل كبير.

ورغم معاناة جاك فليفل إلا انه يرى نفسه محظوظا، بالنسبة لآخرين، خصوصا المرضى، الذين أثرت عليهم بشكل كبير التقليصات التي طرأت على الخدمات الطبية الحكومية، مثل يوسف دعدرة (65) عاما، المصاب بالفشل الكلوي منذ سنوات نتيجة لخطأ طبي. وقبل الحصار الاقتصادي ومنذ سنوات، توجد لدى دعدرة وزملائه من مرضى الكلى، مطالب من وزارة الصحة لم يكن تتم الاستجابة لها، لتحسين خدمة غسيل الكلى التي تقدم لهم، فكثير من نواقص هذه الخدمة أدت إلى وفاة عدد من مرضى الكلى. وفي حين فشلت حركة المطالبات التي قادها دعدرة، بسبب ضعف إيرادات السلطة في السابق، يجد نفسه الآن يكاد يدفع حياته ثمنا للنقص غير المسبوق في وحدات غسل الكلى في المستشفيات الفلسطينية، والتي تسبب ألما ليس فقط للمرضى، ولكن للأطباء. وأشرف دعدرة الذي كان يتوجب عليه إجراء عملية غسل للكلى مرتين أسبوعيا، على الموت أكثر من مرة، لأنه لا يتمكن من إجراء عملية الغسل إلا مرة واحدة في الأسبوع وفي ظل ظروف صعبة.

ولم يتمكن دعدرة من الحديث مع الـ«الشرق الأوسط»، بعد تحديد موعد مسبق معه، حيث ظهر متهالكا على سريره في غرفة بسيطة في مخيم العزة قرب مدينة بيت لحم، لا يستطيع الحراك وليست لديه قدرة على الكلام، وتحريك أي عضو من جسمه كان يشكل له إرهاقا كبيرا. وأثر الحصار على فئة أخرى، هي الجرحى الذين أصيبوا برصاص الجيش الإسرائيلي، ويقول أكرم شعفوط، الناشط في جمعيات الجرحى، بأنه لم يعد لدى الكثير منهم ثمن الدواء. وكان شعفوط وجه اتهامات لقيادة السلطة قبل تشكيل الحكومة الأخيرة، بأنها لم تول عناية لقضايا الجرحى، وتنكرت لاحتياجاتهم، ووجد شعفوط الذي عاد إلى الحياة بأعجوبة، بعد أن أصيب إصابات قاتلة مع صديق له فارق الحياة، نفسه يحمل هم زملائه من الجرحى في ظروف يصفها بالكارثية.

ويمقت شعفوط الذي كان على استعداد لتقديم حياته من أجل الوطن، وأطلق عليه خلال غيبوبته الطويلة (الشهيد الحي) الحديث عن كلمات مثل «الصمود». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «كل الكلمات الكبيرة يصبح لا معنى لها، عندما تجد نفسك أمام جريح لا يستطيع شراء دواء، في كثير من المرات يتوقف عليه استمرار نشاطه اليومي، فكثير من الجرحى يتناولون أدوية بشكل دوري ودائم، بعد خروجهم من المستشفيات، وتزداد الأمور صعوبة، إذا كان الأمر يتعلق بأجهزة يحتاجها الجرحى من المعاقين، ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الجرحى هم من عائلات فقيرة أو معدمة، قبل الحصار، ولك أن تتصور وضعها بعد الحصار».

ومثل الجرحى، يواجه نحو 9 آلاف أسير فلسطيني أزمة كبيرة، لأن حياتهم داخل السجون الإسرائيلية تعتمد على مخصصات شهرية توضع لهم من قبل وزارة الأسرى الفلسطينية في حسابات بنكية تشرف عليها سلطة السجون الإسرائيلية، وعمليا يصرفون منها على أكلهم وشربهم وشؤون حياتهم في السجن. ويؤكد معظم المسؤولين الفلسطينيين ان المبالغ التي تخص الأسرى تحتل أولوية، وانه سيتم دفعها قبل أي استحقاقات أخرى، ولكن حتى الآن فشلت في تأمين المبالغ التي يحتاجها الأسرى. وأمام هذا الوضع، أعلنت سلطة السجون الإسرائيلية أنها مدت الأسرى بكميات من المواد الغذائية مثل الزيت، ولكن ممثلين عن الأسرى تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، نفوا ذلك.

وأثر الحصار أيضا على فئة المتقاعدين بشكل كبير وحاد، وعطل مطالبهم بإقرار «نظام تقاعدي منصف يوازن بين رواتب المتقاعدين القدامى والحديثين حيث لا يجوز وليس من العدل هذا الفرق الشاسع بين رواتب الطرفين»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط»، النائب في المجلس التشريعي، عيسى قراقع، الذي عقد لقاء مع نقابة الموظفين المتقاعدين لبحث مطالبهم. وقال ميخائيل سعد، الناشط في مجال المتقاعدين: «نطالب بإقرار قانون يحقق العدالة للمتقاعدين وربط رواتبهم بمؤشر غلاء المعيشة كما هو الحال مع الموظفين الذين هم على رأس عملهم، ونطالب بتحسين وضع وإمكانيات التأمين الصحي الحكومي حيث يعاني من نواقص أساسية خاصة لشريحة كبار السن».