عندما أكبر .. أريد أن أقتل

المقاتل الصومالي الصغير حسن بيكلو .. كيف أخذت الميليشيات المسلحة نصف ابتسامته ؟

TT

  يخيل إليك وأنت تجلس الى جوار حسن الصغير «صبي المليشيات» الذي تحول الى محارب يافع وكأن عذابات الطفولة المشردة اجتمعت عليه.

فقد خطفت الحرب الأهلية الصومالية والده وهو في أشد الحاجة الى حنان الأبوة، فبدأ حياة من التشرد وطريقا وعرا للبقاء على قيد الحياة، نحيف البنية ينظر اليك بوجه معروق وعينين متقدتين تخفيان وراءهما معاناة سنين طويلة، تقرأ براءة الأطفال أحيانا فيهما، وفتك المجرم أحيانا، خجول عند الحديث ولا يحب الاختلاط إلا مع زملائه في ثكنة المليشيات القبلية وهو فوق كل ذلك «مشروع محارب قبلي» مهمته الحفاظ على مركز القبيلة في النزاع الصومالي المسلح الذي لا يعرف النهاية أو حتى الاستراحة.

حسن الصغير أو «حسن بيكلو»، كما يطلق عليه اصحابه من شباب المليشيات، يبلغ من العمر الآن 15 عاما قضى 6 منها برفقة مليشيات مسلحة من قبيلته. تبدأ قصة حسن عام 1999 عندما كان عمره نحو 8 أعوام، فقد مات والده في الحرب الأهلية، فأصبح مشردا حيث لم تقدر والدته، كما يقول، على «توفير الغذاء والطعام» فلجأ الى التسول في الشوارع، وفي مواقف الحافلات، يرجع مساء الى بيت الأسرة التي نزحت من الريف وتعيش في أكواخ مصنوعة من القش والكرتون في أحد مخيمات النازحين بالعاصمة مقديشو.

وفي أحد الأيام تعرض حسن لهجوم من قبل عدد من أطفال الشوارع الذين كانوا يريدون أن يأخذوا منه مبلغ 5 آلاف شلن، جمعها من التسول: «فهربت منهم حتى وصلت الى ثكنة قريبة كانت مقرا لمليشيات مسلحة تسيطر على المنطقة وصحت عاليا.. احموني فهؤلاء الأطفال يريدون أخذ فلوسي بالقوة وأنا طفل مسكين يتيم». ويتابع حسن «أوقف رجال المليشيات الأطفال الذين كانوا يطاردونني وأبعدوهم عني، ثم لما انصرفوا، كان رجال المليشيات يسألونني ماذا أصنع ومن أين جئت بالفلوس القليلة التي كانت معي، فحكيت لهم قصتي بأنني من قبيلة فلان وأن والدي قد قتل في الحرب وأمي لا تعمل ولذلك لجأت الى الشارع حيث لا أعرف في البلدة أحدا.. وعندما عرفوا قبيلتي سألوني عن (فخذي) و(بطني) ثم اسم والدي ليتأكدوا من هويتي، وقالوا لي: ابق هنا قليلا. وذهب أحدهم الى قائدهم وبعد فترة قصيرة عرفوا أنني من قبيلتهم وتحدثوا عن الواقعة التي قتل فيها أبي قبل سنوات ثم رحبوا بي وأطلقوني».

قادت هذه الواقعة الى مزيد من التعارف بين حسن الصغير والمليشيات، تطور التعارف بمرور الأيام الى علاقة حميمة، يقول حسن «كنت أمر عليهم يوميا وأتحدث معهم وتعارفنا أكثر. وأحيانا أتناول معهم الغذاء ويرسلونني في بعض حاجاتهم، كأن أشتري لهم علب السجائر، أو أنادي بائعة الشاي التي كانت تملك كشكا صغيرا جنب الثكنة لتأتي لهم بالشاي الساخن وغيره».

كانت هذه المليشيات، كما يقول حسن، «المكان الذي يجد فيه الأمان من أولاد الحرام الذين كانوا يسرقون ويفرون ويحملون السكاكين ويهددون الأطفال الآخرين بأخذ ما لديهم حتى الثياب أحيانا ولا يخافون من شيء». ويحكي حسن كيف كانت «أكشاك القات» التي يُخليها باعة القات ليلا ثم يعودن اليها في الصباح مسرحا للصراع بين الأطفال المشردين الذي يستخدمونها مكانا للنوم حيث يأتي الأٌقوياء منهم الى من ينام فيها قبلهم، فيرمونهم في الشارع ويحلون مكانهم، وإذا قاوموا يضربونهم بالعصي وأحيانا يطعنونهم بالمسامير الطويلة أو بالسكاكين. لكن حسن بعد تجربة قاسية في النوم داخل أكشاك القات فإنه بتعرفه على المليشيات القبلية سمح له بالنوم في زاوية من بهو المبنى الخاص بثكنة الميلشيات وأعطي بعض الثياب المهلهلة التي استغنى عنها أحد المسلحين، وأصبح ينعم بغذاء كاف مع المسلحين ويركب سياراتهم أحيانا.

ويحكي حسن عن هذه اللعبة المفضلة عنده وهي ركوب السيارات بقوله «كنت أتمنى أن يأتي علي يوم أركب فيه سيارة دون أن يطردني أحد أو يهددني سائق فقد تعودت أن اعمل (الليغ)، أي التعلق بمؤخرة السيارات خلسة دون أن يراني السائق حتى أصل الى المنطقة التي أريدها، وأتعرض للضرب من السواق وأهرب، لكنني الآن أركب أي سيارة تابعة لهذه المليشيات وأجلس الى جنب المسلحين بنشوة غامرة كوني أركب سيارة دون أن يتعرض لي أحد».

تدرج حسن في الاقتراب من المليشيات المسلحة، فبعد أن كان يقتصر تعاونه معها على شراء السجائر والحاجيات الصغيرة مثل الشامبو وغسيل الثياب وكذلك مناداة «ست الشاي»، أصبح ينظف سيارات المليشيات ويغسلها الى أن أصبح الطفل المؤتمن الوحيد في الثكنة وأعطي له اسم حسن بيكلو او «الصغير».

ويحكي حسن كيف أحس بأنه فقد أصدقاءه الجدد يوما بعد يوم «لأنهم كانوا يذهبون الي الحرب أو يشتبكون مع مليشيات من القبائل الأخرى في الطريق فيقتل عدد منهم». وقد أحس بالحزن لفراقهم، كما أحس بالبغض الشديد تجاه مليشيات بعض القبائل لأنهم قتلوا فلان وفلان الذين كانوا يشملونه برعايتهم ومداعباتهم وأصبح ينتمي اليهم وكأنه جزء منهم: «كنت أتمني أن أحمل البندقية يوما وأقتل منهم عددا لأنتقم لمقتل أصدقائي».

وبمرور السنوات كبر حسن قليلا وأصبح موضع ثقة لدى مليشيات الثكنة الذين كانوا أيضا يسيطرون على حاجز عسكري مُقام على الشارع وفي هذا الحاجز يتم جمع الـ «ليجو» (الإتاوة) من الحافلات والشاحنات مقابل عبور الشارع، والحاجز عبارة عن أحجار وعمود حديدي يوضع أفقيا على الشارع لمنع السيارات من العبور وتراقبه مجموعة من المليشيات يطلقون النار على كل سيارة تحاول تجاوز الحادث دون توقف.

من هنا اصبحت مهمة حسن الصغير الـ «بِر قَاد» (رفع العمود الحديدي عند دفع الإتاوة إيذانا بالسماح بالعبور) وإضافة الى الإتاوة المقررة، فإن حسن له أجرة محددة يدفعها صاحب السيارة له وهي 1000 شلن، (الدولار 14000 شلن) وهذا المبلغ مخصص لصبي الميلشيات مهما بلغ عدد السيارات، حيث أن السيارات العابرة تكون بالعشرات عادة، أما المليشيات فتقتسم المبلغ الذي حصلت عليه من الإتاوة.

وقد أصبح لـ «حسن الصغير» الآن دخل يومي يقل ويرتفع حسب السيارات المارة. يصحو حسن مع الفجر مع المليشيات ويذهب الى الحاجز ينتظر السيارات الى أن يحل المساء فيسرع الى كوخ والدته ويسلم لها جزءا من الفلوس التي كسبها طوال اليوم. يقول حسن «كنت أعرف أن إخوتي الثلاثة جائعون ولذلك كنت أساعد أمي لتجد لهم طعاما إضافة الى القليل الذي تحصل عليه من بيع الفول السوداني الذي تعده في الكوخ وكذلك من أجرة الغسيل للعائلات في المدينة». ويتابع «كانت والدتي تسألني من أين أجد كل هذه الفلوس فأخفي عنها الحقيقة وأقول لها إنني تسولتها من السوق فتدعو لهؤلاء الخيرين الذين ساعدوني وساعدوها، وكنت أخاف من أنه اذا كشفت لها الحقيقة بأنني أعمل مع المليشيات في الحاجز أن تلومني على ذلك لأنها تخاف أن تقتلني المليشيات».

يتذكر حسن انه شارك مرة واحدة في قتال مع مليشيات أخرى ولم يكن ذلك مخططا له، فقد ترك الثكنة مع مجموعة من المليشيات وفجأة ظهرت في نصف الطريق مليشيات معادية من قبائل أخرى فاضطرت مليشيات حسن الصغير الى إطلاق النار، وبعد اشتباكات دامية، يقول حسن أنه وجد نفسه وقد رمى إليه أحد اصدقائه في المليشيات بندقية لقي صاحبها مصرعه بسبب طلقات أصابته «فتسلمت البندقية وقاتلت في ذلك اليوم نحو 3 ساعات ثم عدنا الى الثكنة وقد فقدنا ثلاثة من الزملاء الذين كنت أشعر باطمئنان نحوهم وكانت خسارة كبيرة بالنسبة لي وتمنيت منذ مقتلهم أن أشترك في حرب أخرى مع تلك المليشيات لأنتقم لأصحابي».

سألت حسن، ما إذا كان قد قتل أحدا خلال وجوده مع المليشيات فأجاب بالنفي، لكنه قال إنه لن يتردد في الانتقام من المليشيات التي قتلت والده وكذلك زملاء كثيرين له، اذا ما تسلم يوما سلاحا.

والدة حسن الصغير عرفت حقيقة ان ابنها يعمل مع المليشيات مؤخرا، لكنها اضطرت لقبول الأمر الواقع وليس لها خيار آخر الآن طالما أن حسن يصرف على الأسرة من المال الذي يحصل عليه مقابل رفع الحاجز عن السيارات، لكنها قلقة عليه طول الوقت.

وتقول أم حسن التي توجهت «الشرق الاوسط» الى منزلها الكائن في مخيم مزدحم بوسط العاصمة مقديشو وهي «تفنجل» حبات الفول السوداني المقلي على الرمل لوضعه في أكياس بلاستيكية صغيرة لبيعه في السوق، انها تشعر بالمرارة لوجود ابنها مع مليشيات القبيلة في الثكنة: «أخاف أن يتعلم القتل أو يرسلوه الى حرب أخرى فيقتل أو يُقتل، وأنا لا أريد أن أكون أما لقاتل».

كانت أم حسن تتمنى بدلا من ذلك، كما قالت لنا، أن يذهب ابنها البكر الى المدرسة أو الى أعمامه في الريف ليكبر هناك ثم تراه وقد أصبح رجلا يعيل إخوته الصغار مثل أبيه. وأجهشت بالبكاء عندما تذكرت زوجها ومقتله وأفلتت حبات الفول من أصابعها ثم رجتنا أن نتركها وشأنها. الحواجز العسكرية التي أقامتها المليشيات القبلية على الطرق الرئيسية أو الشوارع داخل المدن الرئيسة أصبحت الآن مصدر دخل هام للمليشيات وقادتها، إضافة الى كونها قوة جاهزة تستدعى للقتال عندما تتعرض مصالح القبيلة للخطر، وأكثر من ذلك بعضها يمثل ورقة سياسية يسعي قادتها الى الحصول على مناصب وزارية أو عضوية البرلمان أو مناصب عليا في الدولة وقد حدث كل ذلك بالفعل خلال تشكيل الحكومة الحالية. عندما سألنا حسن الصغير عن هذه الأشياء قال انه لا يريد واحدة منها لكن الحاجز العسكري والثكنة لمليشيات قبيلته تمثلان له ضرورة حياة، فهو ألفها منذ الصغر ولا يفكر في مغادرتها يوما. وسألناه عن المدرسة وفيما اذا كان يقدر على الكتابة والقراءة، فقال «أخي الأصغر يذهب الى المدرسة لكنني لا أعرف أي شيء يدرسه. فقط أمي قالت لي ان المدرسة تريد منها فلوسا مقابل دراسة أخي الأصغر فيها». حسن ليس له طموحات ولا يريد أن يبني لنفسه آمالا طفولية، فقد حرمه عمله كصبي مليشيات كل براءة الطفولة وأحلامها وتمنياتها وألعابها ومرحها، فقد كبر قبل أن يكبر فعلا، وكل ما يعرفه من الدنيا هو وسط المليشيات المسلحة الذين يمتهنون السطو والنهب والقتال والمجبولين على توفير الحماية لقبيلتهم عند الحاجة اليها، وبما أن القبائل لا تدفع لهم مقابل ذلك فإنهم سيطروا على طريق عام وأقاموا فيها حاجزا عسكريا لجمع الإتاوات من السيارات ومن الأشخاص عند الضرورة.

لا يوجد وقت كثير يقضيه حسن الصغير في اللعب، فنهاره ينتهي وهو يرفع وينزل العامود الحديدي، أما المساء فيقضيه في تخزين أوراق القات، ويستمر في ذلك الى نصف الليل تقريبا ثم يخلد الى النوم في زاوية من ثكنة المليشيات أو تحت عربة قتال معطلة.

استغرب حسن عندما سألته عن فراشه وأشار بيده الى حصير الـ «فالكو» (يصنع محليا من ألياف نباتات صحراوية) وقال «ها هو فلدينا مجموعة منها، كل واحدة تتسع لاثنين أو ثلاثة أحيانا، ينشرها من سبق الى النوم وتطوى بالنهار وتوضع في الزاوية». وفي إحدى الحصر كانت هناك أوراق الكوتشينة أو الـ «تروب» كما تعرف محليا مبعثرة فوقها، وقال حسن إنه يلعبها أحيانا مع زملائه ويعرف بعض ألعابها مثل الـ«شانوس» و الـ «دباكيري» وكذلك الـ «إسكالو» وكلها تلعب بالكوتشينة مع اختلاف كميتها وكذلك عدد لاعبيها. ومن الألعاب الأخرى التي يمارسها حسن الصغير والمليشيات القبلية في الثكنة الـ«دمينو» وهي أكثر شيوعا من الكوتشينة بين أوساط المليشيات ويفضلها حسن الصغير أيضا عليها. أصاب حسن بعض الارتباك عندما سألته عن أمنياته وأحلامه وماذا يحب أن يصبح عندما يكبر، علت وجهه ابتسامة نصفية وقال بصوت خفيض «أحب أن أكون قائدا للمليشيات ثم قائدا كبيرا لمليشيات القبيلة».

الدفاع عن القبيلة يحظى باهتمام كبير لأنها هي كيانه الذي حماه وهو صغير، لكن قلب حسن الصغير على والدته ويتمنى أن يأتي يوم يتمكن فيه من نقل الأسرة الصغيرة من الكوخ الى بيت يضمهم جميعا. وعن رأيه عن الوضع في الصومال، يقول حسن الصغير إنه يسمع في الإذاعة أن حكومة شكلت وإن برلمانا أنشئ، لكنه لا يعرف ماهية هذه الأشياء ولا ماذا تعني الحكومة أو البرلمان، وقد عرف قبل أشهر بأن أحد أبناء القبيلة، وهو زعيمهم السابق أصبح وزيرا في الحكومة، لكنه يسأل ما هو الوزير وما هو عمله، فالمناصب التي عرفها منحصرة في: زعيم القبيلة، وتاجر القبيلة، وشاعر القبيلة، ومحارب القبلية وحاميها.