أزمة .. كراسي الـ «سي آي إيه»

واشنطن: محمد علي صالح

TT

هل تمر وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه) بأزمة؟ يبدو ان هذا هو الحال منذ هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، فمنذ ذلك الحين لم تتعاف الوكالة، وتوالى على رئاستها 3 اشخاص في غضون 5 سنوات، كما استقال العديد من المسؤولين، بينهم مدير «قسم العمليات» (التجسس) ونائباه، واكثر من عشرة من رؤساء مكاتب فرعية، منهم مسؤولون عن مكاتب تجسس في الخارج، كل هذه علامات ازمة حقيقية. وقد وافق الكونغرس الثلاثاء الماضي على تعيين الجنرال مايكل هايدن مديرا لـ «سي آي إيه»، بعد نقاشات واعتراضات ساخنة بسبب خلفيته العسكرية، وتندر البعض انه سيكون «المدير السابق» قريبا. كان هايدن مديرا لوكالة الامن الوطني «إن إس ايه» ثم عمل، منذ السنة الماضية، نائبا لمدير ادارة الاستخبارات الوطنية «إن دي آي»، وهي ادارة جديدة عليا جمعت «سي اي إيه» و «إن إس إيه» و «دي آي إيه» او الاستخبارات العسكرية. وبينما تتخصص «سي آي إيه» في التجسس البشري والتقاط الصور، تتخصص «إن إس ايه» في التجسس على الاتصالات البريدية والتلفزيونية والالكترونية، وتتخصص «دي آي إيه» في الاستخبارات العسكرية. لكن هجوم 11 سبتمبر (ايلول) وحروب الارهاب وافغانستان والعراق تسببت في تحديات لاجهزة الاستخبارات الاميركية, ولهذا قرر الكونغرس، بعد الهجوم مباشرة، توحيد الاجهزة الامنية في وزارة امن الدولة (اقترح بعض اعضاء الكونغرس ضم شرطة «اف بي آي»، لكن وزارة العدل اصرت على الاحتفاط بها). ثم قرر الكونغرس، في السنة الماضية، توحيد وكالات التجسس تحت ادارة الاستخبارات الوطنية (إن دي آي)، واختار الرئيس بوش جون نغروبونتي، الذي كان سفيرا في العراق، مديرا لها.

لكن هذه التغييرات لم تحل كل المشاكل، بل زادت بعضها، وذلك من ناحيتين: اولا، بالنسبة للأمن الوطني، هز اعصار «كاترينا» في السنة الماضية وزارة الامن، وخاصة وكالة ادارة الطوارئ الفدرالية (فيما) التي كان الكونغرس قد ضمها الى الوزارة. واتهم مايكل براون، مدير «فيما»، مايكل شيرتوف، وزير امن الدولة، بأنه مسؤول عن الفشل في مواجهة «كاترينا». واتهم الوزير المدير، وضغط على المدير حتى استقال. ولهذا اقترح بعض اعضاء الكونغرس فصل «فيما» عن الوزارة لتكون كما كانت.

ثانيا، بالنسبة لوكالات الاستخبارات، احتج دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع، وقال ان وضع الاستخبارات العسكرية تحت ادارة نغروبونتي، مدير الاستخبارات الوطنية، سيؤخر وصول معلومات مهمة جمعتها الاستخبارات العسكرية (وهي في البنتاغون). وذلك لأنها سترسل المعلومات الى نغروبونتي (في جنوب شرقي واشنطن) ليطلع عليها، ثم يعيدها الى البنتاغون، ثم ترسل الى القيادات العسكرية في مختلف انحاء العالم.

لكن السبب الحقيقي لمعارضة رامسفيلد هو منافسات شخصية. ظل رامسفيلد قريبا من الرئيس جورج بوش منذ ان اصبح وزيرا للدفاع قبل ست سنوات. ورامسفيلد ثالث تحالف ثلاثي (مع نائب الرئيس تشيني، وكوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية، وكانت مستشارة الرئيس بوش للأمن الوطني) كسب ثقة الرئيس بوش. ولهذا فان تعيين نغروبونتي مديرا لادارة الاستخبارات الوطنية قربه كثيرا من بوش. هذا بالاضافة الى ان نغروبونتي اشتهر بعدم الارتياح للعسكريين، ولهذا فإن نقل الاشراف على الاستخبارات العسكرية من البنتاغون الى نغروبونتي يعتبر خسارتين للعسكريين: نقلوها منهم، وسلموها لـ«عدوهم» باول والأنبوبة: وزادت المنافسة على قيادة وكالات الاستخبارات لأن ميزانياتها سرية، لكن يعتقد انها اكثر من اربعين مليار دولار في السنة. ولا تنشر هذه الميزانيات، ولا يعلم تفاصيلها حتى بعض اعضاء الكونغرس.

وكان بورتر غوس، عضو الكونغرس الجمهوري ورئيس لجنة الاستخبارات، واحدا من عدد قليل من الذين يعرفون تفاصيل عالم الاستخبارات، سواء الميزانيات او المنافسات الداخلية. واشتكى غوس من عدم حماس الاستخبارات المركزية لحرب العراق، وقال انها لم تجمع ادلة كافية لاثبات حصول العراق على اسلحة دمار شاملة. واتهم جورج تينيت، مدير الاستخبارات المركزية، عندما استجوبه في جلسات سرية، بالوقوع تحت سيطرة «الجواسيس البيروقراطيين».

وكانت الحقيقة هي ان الاستخبارات المركزية فشلت في العثور على ادلة عن اسلحة العراق. لكن نائب الرئيس تشيني، وبقية قادة غزو العراق، ضغطوا على الوكالة لتقدم ادلة تبرر الغزو. وظهر كولن باول، وزير الخارجية في ذلك الوقت، في اجتماع في مجلس الامن (وجلس تينيت على مقعد وراءه)، ورفع انبوبة زجاجية فيها سائل غريب، وقال انه مثال لاسلحة الدمار، وان نفس الحجم من سائل كيماوي يقدر على قتل كل سكان مدينة نيويورك.

لكن باول تنصل من المسؤولية، قبل سنتين، بعد ان ترك وزارة الخارجية. وقال ان تينيت، مدير الاستخبارات المركزية، هو الذي قدم له الانبوبة (هو الذي احضرها الى اجتماع مجلس الامن).

وهكذا انتقلت الكرة الاستخباراتية من تشيني ورامسفيلد الى باول، ومن باول الى تينيت. لكن تينيت، منذ البداية، لعب دورا غامضا. لم يعثر على اسلحة دمار، ولم يملك الشجاعة ليقول ذلك لرؤسائه، ولم يرفض عندما ضغطوا عليه ليقدم ادلة غير مؤكدة، ولم يقدم استقالته. بالعكس، حاول ان يحقق مكاسب شخصية من وراء معلومات خرافية:

اولا، ظهر في كل تلفزيونات العالم في اجتماع مجلس الامن.

ثانيا، قال للرئيس بوش: «سلم دنك»، واصبحت هذه مثلا (مثل لاعب كرة السلة الذي يقفز قفزة عالية، ويدخل الكرة بيده في السلة). اي انه متأكد جدا بأن العراق عنده اسلحة دمار. لكن تأكد ان ذلك لم يكن صحيحا، وتنصل الآخرون من المسؤولية، ووجد تينيت انه اصبح كبش الفداء، واستقال (لكنه قال انه استقال لاسباب عائلية. قال انه يريد ان يكون قريبا من زوجته واولادهما).

ولأن غوس، رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس، لم يكن يحب تينيت (كذب او لم يكذب)، استغل استقالته، واقنع الرئيس بوش ليختاره في مكانه. وانتقل غوس من مبنى الكونغرس، مع مساعديه ومستشاريه وسكرتيراته، الى رئاسة الاستخبارات المركزية.

وكتب سدني بلومنتال، مساعد سابق للرئيس بيل كلينتون، أن «بوش وغوس تآمرا لقتل وكالة الاستخبارات المركزية» وأضاف «غضبا عليها لأنها لم تقدم لهما معلومات كان يريدانها لتبرير غزو العراق. والآن جاء وقت الانتقام الرهيب. اعطى بوش فأسا عملاقة الى غوس، وأرسله الى لانغلي (حيث رئاسة الوكالة) ليدمر المبنى كله، المبنى البغيض بالنسبة لهما».

بدأت مشاكل غوس في اول يوم له في المبنى الجديد، واستغرب «الجواسيس المحترفون» من «جيش السياسيين» الذي غزا المبنى. لكن غوس لم يهتم لاستغرابهم، وبادر ووزع مذكرة داخلية تطلب من كل واحد «تأييد سياسات الادارة». وبدأت سلسلة الاستقالات. استقال، خلال شهور قليلة، مدير «قسم العمليات» (التجسس) ونائباه، واكثر من عشرة من رؤساء مكاتب فرعية، منهم مسؤولون عن مكاتب تجسس في الخارج.

وشهد الشهر الماضي احداثا لا تقدر اي وكالة استخبارات على ترتيبها، ناهيك من التنبؤ بها: استقال غوس فجأة. واستقال فجأة ايضا، بعد ثلاثة ايام، كايل فوغو، نائب غوس والمسؤول عن عقود الوكالة.

ظهر غوس، بدون اعلان مسبق، الى جانب الرئيس بوش في البيت الابيض، واعلن بوش (ولم يعلن هو) الاستقالة. وصفق «الجواسيس المحترفون» في مكاتبهم في الوكالة. واستغرب الصحافيون والمراقبون، وبحث كل واحد منهم عن سبب، ولم يعرف اي واحد سببا مؤكدا.

لكن، بعد ايام قليلة، دق رجال الشرطة على منزل كايل فوغو، نائب غوس والمسؤول عن عقودات وكالة الاستخبارات المركزية، ودخلوا المنزل وخرجوا يحملون صناديق من الوثائق (ونقل التلفزيون المنظر). وأصبح واضحا ان فوغو له صلة بالتحقيقات التي استمرت لأكثر من سنة عن رشاوى قدمتها شركة اسلحة لاعضاء الكونغرس ولمسؤولين كبار في الادارة. وأصبح واضحا سبب استقالته، وسبب استقالة رئيسه غوس.

وجاء الآن دور الجنرال هايدن بعد ان حل محل غوس. لكن مشكلة هايدن الكبرى ليست ارضاء «الجواسيس المحترفين»، او اعادة تنظيم الوكالة، بقدر ما هي المحافظة على ميزان القوة في واشنطن. في جانب، هناك «الحلفاء»، ومنهم نغروبونتي، مدير الاستخبارات الوطنية (المدير الاعلى). ويقال انه هو الذي كشف مشاكل غوس في الاستخبارات المركزية، وكان «يتجسس» عليه. وان هايدن نفسه، نائب نغروبونتي، اشترك «في التجسس». ويتمتع هايدن ونغروبونتي بتأييد الرئيس بوش، الذي يبدو انه اقتنع بخطأ خطة الانتقام من الاستخبارات المركزية.

وفي الجانب الآخر، هناك «الاعداء»، ومنهم رامسفيلد، وزير الدفاع، الذي لا يزال حزينا على اشراف نغروبونتي على الاستخبارات العسكرية. ورغم ان هايدن جنرال وله صلة قوية بجنرالات البنتاغون، لكنه ليس من «جنرالات النيوكون» (الذين تحالفوا مع المحافظين الجدد، لغزو العراق، او، على الاقل، اطاعوا اوامرهم، ولم يعترضوا على الغزو). وبعد ان يستقر الوضع داخل الاستخبارات المركزية، وبعد ان يستقر ميزان القوى داخل واشنطن بين الاجهزة الاستخباراتية، سيعود الجواسيس الى عملهم.

* كيف نشأ الأخطبوط؟ ـ لاحظ الرئيس فرانكلين روزفلت، خلال الحرب العالمية الثانية، عدم توفر معلومات كافية عند المسؤولين الاميركيين عن سياسات الدول الاخرى، وخاصة استراتيجياتها السرية. وطلب من وليام دونوفان، محام في نيويورك كان يعرفه، وضع خطة لتأسيس وكالة تفعل ذلك.

ـ اسس دونوفان، سنة 1942، «مكتب الخدمات الاستراتيحية» (او اس اس)، واوضح ثلاثة اهداف له: تقديم معلومات سرية الى الرئيس روزفلت، وتحويل معلومات سرية ذات طابع عسكري الى وزارة الدفاع، والقيام بعمليات سرية في الخارج.

ـ لم تتحمس وزارة الدفاع للمكتب الجديد، وقالت ان العسكريين اقدر على جمع المعلومات التي سيستخدمونها. ـ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ووفاة روزفلت، ألغى الرئيس هاري ترومان مكتب «او اس اس»، وألحقه بوزارة الدفاع لأرضاء العسكريين.

ـ لكن دونوفان استطاع اقناع ترومان بأهمية وجود مكتب للتجسس وجمع المعلومات عن الدول الاجنبية، وانه يجب ان يكون منفصلا عن وزارتي الخارجية والدفاع، ومكتب التحقيق الفدرالي.

ـ اعلن ترومان، سنة 1947، تأسيس «مجموعة الاستخبارات المركزية» للتنسيق بين استخبارات الدفاع والخارجية ومكتب التحقيق. وصدر قانون «ادارة الاستخبارات الوطنية» لهذا الغرض. لكن «المجموعة» كانت للتنسيق فقط، وليس لجمع المعلومات.

ـ 1948، وفي بداية الحرب الباردة، ألغى ترومان «المجموعة»، واسس «الوكالة»، وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه)، للتخصص في جمع المعلومات والتجسس في الدول الاجنبية.

ـ اصدر الكونغرس، سنة 1949، «قانون وكالة الاستخبارات المركزية» الذي منع الوكالة من التجسس داخل اميركا، وعلى المواطنين الاميركيين ووضع لها ميزانية سرية، واعفاها من التقيد بالقوانين البيروقراطية.