اتركوني أغادر السلطة

ولد محمد فال الحاكم العسكري الموريتاني.. ترك أغراضه في منزله القديم ليغادر سريعا القصر الرئاسي

TT

قبل فترة سأل صحافيون فرنسيون العقيد اعلي ولد محمد فال الحاكم العسكري لموريتانيا ما إذا كان سيترشح للرئاسة بعد انتهاء المدة القانونية للحظر المفروض على ترشح أعضاء المجلس العسكري الحاكم، فأجاب قائلا «اتركوني أولا أغادر السلطة». ومنذ وصل ولد محمد فال للسلطة اثر انقلاب عسكري ضد نظام الرئيس معاوية ولد الطايع، وسكن في القصر الرئاسي لم ينتقل الى القصر كليا، فالكتب التي يقرأها يرسلها من القصر الرئاسي الى منزله القديم في حي «الوسي»، كما ان الكثير من اغراض اسرته ما زلت في منزله القديم الذي يحرص على ان يتم تنظيفه كل يوم كأنه سيعود اليه غدا. فاجأ ولد محمد فال الموريتانيين بزهده في السلطة وحتى «خجله» من الانقلاب العسكري الذي قام به ضد ولد الطايع، فهو لا يحب الانقلابات العسكرية، غير ان الانقلاب كان محتما في ظل الظروف. كما فاجأ ولد محمد فال الموريتانيين بالدستور الجديد الذي تم التصويت عليه هذا الاسبوع، والذي يحدد مدة الرئاسة في ولايتين فقط، ويحدد سلطات الرئيس، ويعزز من دور باقي المؤسسات. وحتى يوم الثالث من أغسطس (آب) 2005 لم يكن الموريتانيون يعرفون الكثير عن العقيد اعلي ولد محمد فال العسكري «الكتوم» و«المتمرس» الذي قاد الانقلاب الأبيض الناجح الذي أنهى أكثر من عشرين عاما من حكم معاوية ولد الطايع. وبالرغم من أن ولد محمد فال قضى جل عمره حتى الان في الجيش، الا ان تربيته مدنية، وافكاره معتدلة ديمقراطية، وهو من القلائل الذين لم يتورطوا في انتهاكات ضد حقوق الانسان خلال سنوات عمله الطويلة. هذا الرجل طويل القامة الذي ينحني لكبار السن عندما يصافحهم ويستمع اكثر مما يتكلم ولا يحب الظهور في وسائل الاعلام، ونادرا ما يظهر في الاماكن العامة، هو واحد من بين قادة قلائل في أفريقيا والعالم العربي يدعون إلى التناوب على السلطة ويظهرون غير مكترثين بالبقاء في الحكم، فبعد وصوله إلى السلطة بأسابيع سن قانونا يمنع عليه وعلى أعضاء المجلس العسكري الحاكم وأعضاء الحكومة الانتقالية التقدم إلى انتخابات الرئاسة المقررة في مارس (آذار) من العام المقبل، إضافة إلى الترشح للانتخابات البلدية والتشريعية التي ستجري نوفمبر (تشرين الاول) المقبل.

راى أعلي ولد محمد فال، رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية الحاكم في موريتانيا، النور في صحارى تقع بين منطقتي «اينشيري» و«الترارزة» غرب موريتانيا في آخر يوم من أيام عام 1953 وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة ابتدائية أقامها المستعمر الفرنسي في مدينة «روصو» الواقعة على الضفة اليمنى لنهر السنغال قبل أن يلتحق بمدرسة أطفال الجيوش، حيث تلقى تعليمه الاعدادي والثانوي. التحق ولد محمد فال في سن مبكرة بالجيش الموريتاني وعاش لسنوات طويلة طالبا في مدارس عسكرية فرنسية وتشبّع بالثقافة الفرنسية بدون أن ينسى أن القبيلة العربية القوية التي ينتمي إليها «أولاد بالسبع» التي تعود جذورها القديمة إلى مدينة مراكش جنوب المغرب، ساهمت بفعالية في آخر معركة هزم فيها الفرنسيون قبل الاستقلال بمعركة «أم التونسي» الشهيرة شمال العاصمة نواكشوط.

التحق ولد محمد فال بعد تعليمه في فرنسا بأكاديمية «مكناس» العسكرية وبقي سنوات في المغرب، وبعد عودته التحق بأحد ألوية الجيش وشارك بشجاعة وإقدام ـ بحسب محاربين قدامى ـ في حرب الصحراء التي نشبت بين موريتانيا وجبهة البوليساريو خلال الفترة ما بين 1975 و 1978 للسيادة على المستعمرة الإسبانية السابقة.

ومع الإطاحة بنظام الرئيس الراحل المختار ولد داداه مؤسس الدولة الموريتانية الحديثة في 10 يوليو (تموز) 1978 انتهت الحرب لتنتهي معها أيضا فترة من الاستقرار السياسي دامت ثمانية عشر عاما تحت حكم الحزب الواحد، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ البلاد شهدت اضطرابات وانقلابات كثيرة.

وخلال 6 سنوات شهت موريتانيا ثلاثة انقلابات ناجحة وانقلابا آخر فاشلا، فبعد أن أطاح المصطفى ولد محمد السالك الضابط ذو الميول القومية بنظام حزب الشعب اجبر أعضاء اللجنة العسكرية متزعم أول محاولة انقلابية في تاريخ البلاد على التنحي. استقال ولد السالك قبل أن يكمل سنة في القصر الرئاسي ليخلفه محمد محمود ولد لولي، الذي اضطر بدوره في انقلاب على انقلاب إلى ترك منصبه لرئيس الوزراء وعضو اللجنة العسكرية محمد خونا ولد هيدالة، بعد أن اغتصب جميع صلاحياته وقلَّم أظافره. جاء ولد هيدالة، وهو مقدم في الجيش ينحدر من الشمال الموريتاني إلى القصر ومعه عائلته. وحافظ على نمط حياته البدوي، فقد جلب معه أيضا قطعان الإبل والغنم التي يملكها، وأصبح حوض السباحة الذي أقامته ماري داداه الفرنسية التي تزوجها المختار ولد داداه عندما كان يدرس الحقوق في فرنسا، في فناء حديقة القصر الرئاسي مجرد وعاء كبير لعلف الحيوان. حكم ولد هيدالة موريتانيا بيد من حديد خلال ثلاث سنوات، حاول خلالها ضباط يساندهم المغرب الإطاحة به، وفشلت المحاولة وأحيل الانقلابيون إلى محكمة عسكرية قضت عليهم بالإعدام ونفذ الحكم بسرعة لدرء الانقلابات، بيد أن ذلك لم يمنع قائد الجيش الضابط الخجول معاوية ولد الطايع من الإطاحة به في انقلاب ابيض تم حين كان الرئيس يمثل بلاده في قمة لمنظمة الوحدة الأفريقية في بوجوبورا عاصمة جمهورية بوروندي الواقعة في غرب افريقيا. ما بين الإطاحة بنظام المختار ولد داداه في العشر من يوليو (تموز) 1978 وحتى صعود ولد الطايع إلى السلطة لم يكن أعلي ولد محمد فال ضمن «الترويكا» العسكرية التي ظلت تتصارع على السلطة، كان ضابطا جمهوريا ملتزما ليس له اتجاه سياسي رغم قراءاته الكثيرة وإعجابه بالزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، ورغم انتشار الآيديولوجيات في صفوف ضباط الجيش ظل بعيدا عن السياسة، كان مثقفا شابا ومنفتحا في مؤسسة مغلقة يشق طريقه بهدوء نحو القمة، ومفتاح الصعود كان دورا أساسيا في انقلاب 12 ديسمبر 1984 الذي جاء بالرئيس المخلوع معاوية ولد سيدي احمد الطايع إلى السلطة فقد كان قائدا للمنطقة العسكرية السادسة التي توجد ضمنها العاصمة نواكشوط.

عين ولد الطايع بعد أشهر من وصوله إلى الحكم النقيب الشاب ولد محمد فال وهو دون الخامسة والثلاثين مديرا عاما للأمن الوطني المنصب الذي بقي فيه طيلة عشرين عاما تقريبا بدون أن يتورط في ملفات انتهاكات حقوق الإنسان، فقد غاب اسمه عن اللوائح السوداء التي أعدتها جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان والمعارضة في الخارج. فقد ظل ما يقارب عشرين عاما مديرا عاما للأمن في نظام قمعي بوليسي ومع ذلك نادرا ما كانت قوى المعارضة وحتى أكثرها راديكالية توجه له الاتهامات. كانت تنتقد أداء بعض الأجهزة التابعة له بشدة بدون أن تطاله الانتقادات، فقد كان يعطي الانطباع انه غير معني بالصراع بين أحزاب المعارضة والحزب الجمهوري الحاكم، وساعد إشراف مدير امن الدولة المباشر وابن عم الرئيس المخلوع المفوض داداهي ولد عبد الله على حملات الاعتقالات والقمع التي استهدفت خصوم النظام السياسيين في خلق انطباع لدى الكثير من السياسيين مفاده بأن اعلي ولد محمد فال يمسك امن موريتانيا كبلد فقط.

ويروي الدكتور السيد ولد أباه، المفكر والكاتب الموريتاني، كيف التقى ولد محمد فال أول مرة «كان ذلك بعد وصوله إلى السلطة بأسابيع قليلة، لقد وجدت انه اقرب إلى نائب برلماني في بلد ديمقراطي من كونه مدير امن سابقا باعتبار ثقافته السياسية القوية وميوله الليبرالية الواضحة». ويقول احد زعماء المعارضة السابقة انه استدعاه يوما وذكر له تقارير أمنية تدينه وقال له «اني حريص على أن لا يظلم احد في هذا البلد حتى ولو كانت الأجهزة تحاول أن تضللني» حسب تعبيره.

ويفسر احمد ولد حمزة، وهو رجل أعمال وصديق قديم لرجل موريتانيا القوي الجديد العقيد اعلي ولد محمد فال، الشخصية التي يغلفها التسامح بقوله «رجل بسيط ومتواضع يبغض الظلم ولا يبحث عن المشاكل للناس». وخلال عشرين سنة أمضاها إلى جانب ولد الطايع كمدير عام للأمن، لعب ولد محمد فال ادوارا سياسية مهمة بالإضافة إلى مهامه الأمنية، فقد ساهم في حلحلة بعض الأزمات السياسية التي كادت أن تعصف بالبلاد، الأحداث العرقية والنزاع مع السنغال المجاورة 1989 والأزمة السياسية التي أعقبت إعلان ميلاد الجبهة الموحدة للتغيير وسبقت إعلان التعددية 1991، والغليان السياسي الذي حدث بعد انتخابات الرئاسة الأولى 1992، وخروج أنصار المعارضة إلى الشارع احتجاجا على تزوير النتائج لصالح مرشح السلطة، إضافة إلى أزمات أخرى أخطرها تمرد لواء المدرعات وتحرك ضباط معارضين أبرزهم الرائد صالح ولد حننا للاستيلاء على السلطة في الثامن والتاسع من يونيو (حزيران) 2003 حيث تولى تنسيق عمليات الجيش النظامي في مواجهة تمرد لواء المدرعات بعد مقتل قائد أركان الجيش العقيد محمد الأمين ولد أنجيان. وقبل وصوله إلى السلطة كان كل ما يعرفه الموريتانيون عن اعلي ولد محمد فال انه احد المقربين من الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع ومن بين شخصيات قليلة جدا ضمن الدائرة الضيقة كان الرئيس السابق يعول عليها لضمان بقائه في السلطة، ونادرا ما يظهر في وسائل الإعلام وفي الأماكن العامة وانه رجل هادئ ووقور وطويل القامة ينحني لمصافحة كبار السن ويستمع إلى الناس أكثر مما يتحدث اليهم.

ويقول مقربون منه انه غير مهتم بالحكم وانه تحرك فقط إلى القصر الرمادي الذي بناه الصينيون للرئيس ولد الطايع إلى جوار المقر الرئاسي القديم وسط العاصمة ليس للإقامة فيه حتى الموت أو حتى يحدث انقلاب آخر في بلد اشتهر بكثرة الانقلابات، وإنما لإنقاذ موريتانيا التي كانت تنحدر باستمرار نحو مصير مجهول بسبب سياسات الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع.

ويقول شرطي يعمل منذ سنوات طويلة مع ولد محمد فال، وانتقل معه إلى القصر بعد وصوله إلى السلطة قبل احد عشر شهرا تقريبا، «عكس ما يتصور الناس هو اكبر زاهد في السلطة.. عندما ينتهي من قراءة كتاب يطلب منا وضعه في رفوف المكتبة الموجودة في منزله بحي الوسي. أشياء كثيرة توحي لي فضلا عن تصريحاته بأنه لا يريد البقاء في هذا القصر، فالبيت ينظف يوميا كما لو أننا سنعود إليه غدا، ومعظم اغراض العائلة بقيت هناك والكتب التي يتلقاها كهدايا يتم وضعها في مكتبته هناك.. أنت تشعر وكأن اعلي عابر سبيل أو ضيف في هذا القصر الفخم.. لا يمكن أن يعيش سيدي طويلا في مكان لا توجد فيه كتبه.. هوايته المفضلة هي قراءة الكتب». ومن الواضح أن الاحتقان السياسي السائد في موريتانيا منذ انتخابات الرئاسة الأخيرة التي جرت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 والتجاذب الحاد بين المعارضة والحزب الجمهوري الحاكم، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، من بين العوامل الرئيسية التي ساهمت في صعود العقيد اعلي ولد محمد فال إلى الحكم عبر انقلاب عسكري ناجح دبر أثناء وجود ولد الطايع في السعودية للمشاركة في تشييع جثمان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبد العزيز.

لم يكن انقلاب العقيد فال الحركة الانقلابية الوحيدة التي واجهها الرئيس المخلوع، ومع أن فترة حكم الرئيس ولد الطايع امتدت طيلة 21 عاما، إلا أن ذلك لا يعني انه لم تكن هناك انقلابات. فقد استمر العسكر كلاعب رئيسي في الحياة السياسية الموريتانية وشهدت البلاد موجة جديدة من الانقلابات الفاشلة، بالرغم من أن ولد الطايع حاول تقليص نفوذ الجيش في الحياة العامة بعد إقرار التعددية السياسية في البلاد. في يوليو (تموز) 1991 حيث تشكلت أحزاب ونقابات وصحف حرة، ومع أن هذه الأحزاب والهيئات كان لها حضور كبير في الشارع الموريتاني، إلا أن تأثيرها ظل محدودا وكانت دائما تخسر الانتخابات وبقي دورها منحصرا في الصياح والتحشيد الشعبي، فالتزوير المتكرر لنتائج الانتخابات جعل فرص التداول السلمي على السلطة منعدمة، ولعل ذلك ما يفسر استمرار الانقلابات وترحيب أحزاب المعارضة والقوى التقدمية والليبرالية في موريتانيا بالتغيير الذي حدث بالقوة يوم الثالث من أغسطس (آب) الماضي.وبالرغم من أن نظام ولد الطايع أظهر خلال السنوات الأخيرة قدرته على احتواء المحاولات الانقلابية حين تقع، وفي استباق وقوع بعضها الآخر ووأده في المهد، إلا أن حكمه انتهى كما كان يتوقع الجميع بنفس الطريقة التي أنهى هو بها حكم سلفه، وأسباب الانقلاب الذي أطاح به هي نفسها أسباب الانقلاب الذي جاء به إلى السلطة، الاحتقان السياسي واكتظاظ السجون بالمعتقلين والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة. وبالنسبة للعقيد اعلي ولد محمد فال لم تكن هناك طريقة ممكنة لإحداث التغيير غير الانقلاب بيد أن ولد محمد فال العقيد المثقف والإصلاحي المستنير الذي تكن له مختلف ألوية الجيش الاحترام يريد ورفاقه في المجلس العسكري أن يكون انقلاب الثالث من أغسطس هو آخر الانقلابات في موريتانيا وذلك عبر إدخال جملة من الإصلاحات لبناء ديمقراطية حقيقية تؤسس لحياة سياسية متطورة في موريتانيا.

وعندما تذكر الرئيس المخلوع في أول تصريح له بعد الإطاحة به بثته إذاعة فرنسا الدولية المثل الفرنسي الشهير «اللهم احفظني من أصدقائي أما أعدائي فانا كفيل بهم»، رد اعلي ولد محمد فال بشكل غير مباشر وبأدب ودون ان يوجه كلامه لأحد في مقابلة مع أسبوعية «جون أفريك» «أنا لم أكن اخدم شخصا أو نظاما معينا لقد كنت اخدم امة». وفيما ظل ولد الطايع لسنوات طويلة يفتخر بحركته الانقلابية قال ولد محمد فال لصحيفة «لوموند» الفرنسية بعد أسابيع من إزاحته ولد الطايع بالقوة انه «خجول» لكونه قد اضطر للقيام بانقلاب. وخلال أول جولة له داخل البلاد هاجم الرئيس الموريتاني الجديد الانقلابات وقال انه يريد لموريتانيا القطيعة معها إلى الأبد، وأكد انه مصمم على إقامة نظام ديمقراطي مدني حديث وعلى إشاعة الحريات وثقافة التسامح والانفتاح وعلى فتج المجال أمام الشعب لكي يحكم نفسه بنفسه من اجل درء خطر الانقلابات.

وبالرغم من اقل من سنة مضى الآن فقط على وجود هذا العسكري «الإصلاحي» في السلطة فان خطوات مهمة قد تحققت على طريق إرساء الديمقراطية، أهم هذه الخطوات نجاح الاستفتاء الدستوري فالدستور الجديد المعدل، الذي وافق عليه الموريتانيون بأغلبية ساحقة، يقلص ولاية الرئيس من سبع سنوات إلى خمس سنوات فقط ويمنع إعادة الترشح أكثر من مرة واحدة.

وكان ولد محمد فال قد أطلق فور وصوله للحكم ثلاث ورشات إصلاحية كبرى هي ورشة الإصلاح السياسي، وورشة الحكم الرشيد، إضافة إلى ورشة ثالثة لإصلاح العدالة أوكلت مهمة الإشراف عليها إلى وزير العدل الذي لم يكن سوى نقيب المحامين السابق والمناضل الحقوقي الذي اضطهد خلال العهد السابق بسبب تمسكه باستقلالية هيئة المحامين ودفاعه عن معتقلي الرأي، الاستاذ محفوظ ولد بتاح.

وفي إطار هذه الورش الإصلاحية أنشئت لجنة مستقلة للانتخابات بعد استشارات واسعة مع الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني، كما أجري إحصاء إداري ذو طابع انتخابي. إضافة إلى ذلك صادقت الحكومة على مشروع قانون جديد للقضاء كما اتخذت إجراءات صارمة بهدف شفافية تسيير المال العام وترشيد الإنفاق وتقريب الإدارة من المواطنين وتحسين أدائها، كما تم إنشاء مفتشية عامة للدولة لتعزيز الرقابة على المال العام.

وكان ولد محمد فال قد أعلن بعد شهر من وصوله إلى السلطة عن عفو عام خرج بموجبه عشرات المعتقلين السياسيين من السجون، كما سمح لعشرات المعارضين في الخارج بالعودة إلى وطنهم، وطلب منهم المساهمة في إنجاح المرحلة الانتقالية، كما قام بأكبر زيادة للأجور في تاريخ البلاد بلغت نسبة 50 في المائة ودخلت حكومته في مفاوضات شاقة مع مؤسسات التمويل الدولية مكنت في النهاية من إلغاء ديون في حدود مليار دولار كانت تثقل كاهل الاقتصاد الموريتاني، وإصر على مراجعة اتفاقيات تقسيم الإنتاج النفطي مع كبرى المجموعات النفطية العاملة في البلاد وكان له ذلك.

ويجري ولد محمد فال مشاورات باستمرار مع أهم الفاعلين السياسيين في البلاد، وقد التقى العقيد، الذي يتمتع ـ كما يقول الصحافي الموريتاني عبد الله ولد محمدي ـ بقدرة هائلة على الاستماع ولا يتحدث إلا إذا كان يريد التعبير عن فكرة واضحة معظم الوجوه السياسية والنقابية والفكرية والثقافية المعروفة في موريتانيا واستمع إليهم أكثر مما استمعوا إليه.

وعندما سألت العقيد اعلي ولد محمد فال في مكتبه اخيرا عما إذا كان يفكر، بعد تصويت الموريتانيين بأغلبية ساحقة لمشروعه الإصلاحي، في إعادة النظر في قرار سابق وهو عدم الترشح لانتخابات الرئاسة رد بسرعة «متى تنتهون من هذه المسألة؟ الشعب يؤيد الانتقال إلى الديمقراطية فقط». قلت للرئيس لكن بعض المراقبين رأى في التصويت المكثف بنعم وفي نسبة المشاركة الكبيرة دعما لكم وللمجلس العسكري الحاكم. كنت أريد الخروج من مكتبه بخبر هائل وهو أن يقول مثلا انه يفكر بسبب رغبة الشعب في الترشح، بمعنى انه سيتراجع عن التعهدات التي قطعها على نفسه بعد وصوله إلى السلطة، بيد أن العقيد فال رد بصوته الهادئ وبدون أن يغير جلسته وهو يحرك يده اليمنى «نجاح الاستفتاء الدستوري سيدفعني فقط إلى الالتزام أكثر بالتعهدات التي قطعتها على نفسي». يريد ولد محمد فال تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية حرة وشفافة وتسليم السلطة لحكومة منتخبة ليعود إلى بوادي «انيشري». فهذا العسكري المتمدن عندما تنظر الى نمط حياته العصري والذي عاش لفترة طويلة في فرنسا والمغرب، ويملك فيلا تصميمها المعماري حديث وراق للغاية، يرى أجمل لحظات حياته في البادية بين قطعان الإبل أو في واحات النخيل جنوب «ادرار». وعندما يحزم ولد محمد فال حقائبه ويعود مع أطفاله الثمانية وزوجته إلى مرابع الطفولة ستكون نبوءة المفكر الموريتاني الراحل جمال ولد الحسن قد تحققت «طال الزمان أو قصر أعلي سيصبح يوما ما رئيسا لموريتانيا».