فرنسا تتفوق على الولايات المتحدة كأكبر مستثمر في الخارج

TT

أحدث آخر تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذي كشف ان فرنسا حلت محل الولايات المتحدة كأكبر مستثمر في الخارج في عام 2005، مفاجأة للمتابعين وشرع باب الاسئلة ـ نصف المفتوح أصلا ـ على مصراعيه حول التسابق على النفوذ العالمي وحرب التموقعات الجيواستراتيجية، المعلنة أحيانا والخفية في أحيان كثيرة، بين «الديك الفرنسي» الممتلئ افتخارا باستقلاليته من جهة، والذي عاد «صياحه» العالي خاصة مع الرئيس شارل ديغول في نهاية خمسينات القرن الماضي، وبين «العم سام» من جهة أخرى. فما هي دلالات هذا التقدم «اللافت» الذي حققته فرنسا على حساب الولايات المتحدة في مجال الاستثمار الخارجي؟ هل هو «انتصار» حقيقي لفرنسا، ام مجرد تسجيل هدف وحيد في «مباراة» تنافسية طويلة النفس ـ أميركا متقدمة فيها أصلا؟

وقالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومقرها باريس في تقرير صدر لها اول من امس، ان فرنسا حلت في المركز الاول بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كأكبر مستثمر في الخارج بعد صعود غذته أربع عمليات استحواذ كبيرة، في حين فقدت الولايات المتحدة الصدارة فيما يرجع الى حد كبير الى الاثار المحاسبية الكبيرة لتعديلات في قانون الضرائب. وبلغ اجمالي الاستثمارات الفرنسية المباشرة في دول أخرى 116 مليار دولار منها 48 مليار دولار أنفقت على أربع عمليات استحواذ مثل شراء بيرنو ريكار الفرنسية لشركة الايد دوميك البريطانية للتقطير مقابل 17.8 مليار دولار.

وفسر هانس كريستيانسن كبير المحللين الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» فقدان الولايات المتحدة مركزها الاول كأكبر مستمثر في الخارج الى اقدام الشركات الأميركية العام الماضي 2005 على سحب استثمارات ضخمة من عملياتها في الخارج بسبب التغييرات في قوانين الضرائب الأميركية و«اغرءات» قانون التوظيف الأميركي الذي يشجع الشركات الأميركية على الاستثمار داخل الولايات المتحدة».

وبحسب تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فقد تراجعت الاستثمارات الاميركية في الخارج من أكثر من 244 مليار دولار عام 2004 الى 9 مليارات دولار العام الماضي عام 2005، بينما ارتفعت استثمارات فرنسا من 57 مليار دولار الى 116 مليار دولار. وبرغم هذا فان كريستيانسن اعتبر التقدم الفرنسي الكبير «مؤقتا» فقط، وتوقع أن «تستعيد الولايات المتحدة مكانتها». وذكر كبير المحللين الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ان «استثمارات فرنسا تركزت خاصة في أوروبا الغربية». وحاول كريستيانسن في حديثه مع «الشرق الأوسط» تحاشي التطرق الى الأبعاد السياسية لهذا «التموقع» المتميز لـ«الديك الفرنسي» الذي خطف الأنظار في هذه المناسبة أكثر من «قبعة العم سام» المسيطرة على المشهد عادة، غير انه لمح الى ان ترتيب البلدين للعام الماضي في مجال الاستثمارات يبقى عنصرا مهما لا يجب اغفاله في مجال التسابق أو ربما حتى التزاحم الجيوسياسي بين القوتين الاقتصاديتين العالميتين. وفي هذا السياق ليس هناك ربما «تصادم» غير معلن بين باريس وواشنطن مثلما هو الشأن بالنسبة للمستعمرات الفرنسية أو ما تعتبره باريس «حديقتها الجيواستراتيجية الخلفية» خاصة في القارة الافريقية وفي المغرب العربي بشكل أخص، حيث سال وسيسيل حتما حبر حول موضوع «التزاحم» بين الامبراطورية السابقة في القارة العجوز وبين الامبراطورية الافتراضية الجديدة الزاحفة من القارة الجديدة. حول هذا الموضوع وفيما «يفضح» حديث «الشعور الباطني» للمتابع، صرح هيرمان كوهين نائب وزير الخارجية الأميركي السابق للشؤون الافريقية، على هامش ملتقى نظمته وزارة الخارجية الأميركية في شهر مايو (ايار) الماضي عن «فرنسا في افريقيا» أنه حتى وان ظلت فرنسا «لاعبا اقتصاديا مهما ومنافسا» للولايات المتحدة في افريقيا فان العلاقات بين البلدين حول افريقيا لم تكن في أحسن حال.

وأضاف كوهين، الذي كان سفير واشنطن السابق بالسنيغال، في تصريح نشر على موقع خدمة اللغة الفرنسية لمكتب برنامج الاعلام الخارجي التابع لوزارة الخارجية الأميركية، انه بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية «فإن المصالح الاقتصادية الفرنسية في افريقيا لا تمثل أي تهديد في الوقت الحالي». وبلغة الأرقام ذكر كوهين ان الاحصائيات تشير الى وجود 650 شركة فرنسية في افريقيا، مشيرا «ان القارة لا تلعب إلا دورا هامشيا في الحركية الاقتصادية العالمية بالنسبة لباريس»، فصادرات فرنسا الى افريقيا بلغت عام 2005 نحو 22.2 مليار يورو، وهو ما يعادل 5.6% فقط من مجموع الصادرات الفرنسية.

وأشار كوهين الى ان «نصف النشاط الفرنسي في القارة يتركز في شمال افريقيا»، حيث لا يركز الأميركيون الا على الاستثمار في قطاع الطاقة، خاصة في الجزائر، التي يسيل فيها بين الحين والآخر حبر كبير عن التنافس على النفوذ الجيواستراتيجي عامة وعلى «الكعكة الاقتصادية» خاصة فيها، بين المستعمر القديم واميركا. غير انه وفي زحمة هذا التنافس الفرنسي الأميركي في افريقيا فقد اشار المسؤول الأميركي السابق الى نقطة مهمة ألا وهي الزحف الصيني الذي لا ينحصر في القارة الافريقية فقط، حيث ذكرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقريرها، انه في السنوات القليلة الماضية تدفقت الكثير من الاستثمارات أيضا على دول مثل الصين والهند والبرازيل وهي ليست اعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وأضافت أن الاموال الاجنبية الذاهبة الى الصين يتم توجيهها عادة صوب الاستثمار الصناعي لكنها الان بدأت في«الميل باتجاه قطاع الخدمات». ومضت المنظمة قائلة إن «الاستثمارات الخارجية وسعت فيما يبدو نطاق اهتماماتها من استهداف قطاعات الموارد والمواد الخام في السابق ليشمل أيضا الاستثمار في مجموعة متنوعة من الانشطة ذات التقنيات المتقدمة». وأشار التقرير كذلك الى ان الاستثمار الاجنبي المباشر صعد في الدول الثلاثين الاعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وأغلبها دول صناعية متقدمة بنسبة 27 في المائة الى 622 مليون دولار في 2005. وكانت بريطانيا التي ينظر اليها على نطاق واسع كمكان لشراء الشركات بدون مواجهة اعتراضات حكومية كانت البلد الذي اجتذب أكبر قدر من الاستثمار الاجنبي المباشر، مع زيادة قيمة التدفقات ثلاث مرات عن مستويات 2004 الى مستوى قياسي بلغ 165 مليار دولار.