صورة عائلة عراقية «سعيدة»

القلق على الأبناء وانقطاع الكهرباء وشح الماء وارتفاع الأسعار وضعف العلاقات الاجتماعية أسباب المعاناة

TT

وراء صورة العائلة العراقية السعيدة هذه تختبئ حكايات من المعاناة اليومية التي تكفي لان يخفي اي شخص آخر ابتسامته مرغما لا مخيرا. في داخل كل واحد من افراد هذه العائلة حكايات وطموحات ومعارك يومية تبدأ بخروجهم الى اعمالهم او دراستهم وتنتهي بكلمة «الحمد لله على سلامتك» عندما يعودون الى البيت سالمين.

العائلة حسب موقعهم في الصورة: الاولى على اليمين من الخط الاول من الصورة هي كريمة حسين أحمد (الام) وهى طالبة دكتوراه في فن النحت في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ومديرة معهد الفنون الجميلة للبنات في بغداد.

غير الدراسة وهموم البيت، تشرف كريمة وتدير جمعية خيرية تهتم بالفنانين التشكيليين وتقيم لهم المعارض بالرغم من انها تعاني من متاعب في القلب وكان قد اجري لقلبها عملية جراحية معقدة.

ثم لين، آخر العنقود، طالبة في الصف الثالث الابتدائي، ذكية ومبادرة وتلهو على ألعاب الكومبيوتر. والأول على يسار الصورة في الصف الاول رب العائلة (الاب) صفاء يدري محمد البياتي يعمل مدرس مساعد في كلية العلوم للبنات بجامعة بغداد، وهو حاصل على ماجستير تصوير سينمائي من اكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ومصور في مختبر للتصوير المجهري لطلبة الدراسات العليا قسم علوم الحياة.

اما الاول من الصف الثاني وفي يمين الصورة فهو محمد، الاصغر بين الولدين، ويأتي تسلسله رابعا بين الابناء، وهو طالب في الصف الثالث المتوسط ويُحضر لامتحان البكالوريا وهو يعاني كغيره من العراقيين من انقطاع التيار الكهربائي مما أثر كثيرا على تحضيره للامتحان، فعندما يكون بدون كهرباء فهذا يعني انه بدون ضوء وتبريد لان الجو حار، حار جدا. وابرز اهتمامات (حمودي) كما يطلق عليه في البيت، هي الإنترنت. تقف الى جانب محمد شقيقته الكبرى رامية (البنت الكبرى)، وهي حاصلة على شهادة بكالوريوس رسم وكانت تعمل مدرسة سابقة بمعهد الفنون الجميلة، وتعمل الآن في شركة مقاولات وتتهيأ للسفر الى الولايات المتحدة بعد ان حصلت على زمالة دراسية.

ثم البنت الثانية في تسلسل الأبناء، زينة، وهي خريجة ترجمة في اللغة الانجليزية من الجامعة المستنصريه وتعمل مكتبية في شركة مؤقتا، مقبلة على الزواج وكالعادة الزوج يبحث عن عمل خارج الوظيفة. ثم يأتي علي، تسلسله الثالث بين الابناء والاول بين الاولاد، (علاوي) كما يلقب في البيت، وهو طالب سنة تأهيلية قسم علوم الحاسبات بكلية المأمون الجامعية الخاصة ذات المتطلبات الخيالية. هذه العائلة بالرغم من حالها الاقتصادي والاجتماعي الجيد جدا، الا انها تعاني. فاذا كان من نافلة القول الكلام عن متاعب فقراء العراق، فالكلام عن معاناة المرتاحين اقتصاديا واجتماعيا ليس من نافلة القول. الأب صفاء وهو نجل لمحام معروف توفي قبل سنوات قليلة، التقى كريمة عندما كانا يدرسان في اكاديمية الفنون الجميلة، هي درست الفن التشكيلي وهو درس التصوير السينمائي، وتكلل هذا التعارف بالزواج. ولأن صفاء كان وحيدا لوالديه قرر مع زوجته انجاب عدد كبير من الابناء ليعوض حياته التي عاشها بلا اخوة.

يقول صفاء البياتي «معاناتنا بدأت مع الحروب التي اشعلها النظام السابق، في الحرب العراقية الايرانية سقت للجيش كجندي مكلف احتياط، وكان ذلك ضاغطا على حياتنا الاجتماعية والاقتصادية حتى انني افتتحت مشاريع خاصة تتعلق بعملي الفني وأنشأت استوديو تصوير واشتريت اجهزة اضاءة تلفزيونية وسينمائية»، يضيف البياتي «وبالفعل كنت اصمم واخرج وأنفذ اضاءة غالبية الاعمال التلفزيونية ولم اكن بحاجة الى الوظيفة التي بلغ راتبها الشهري في النظام السابق بضعة دولارات».

وما ان انتهت الحرب العراقية الايرانية 1988 حتى استبشر البياتي مثل غيره من العراقيين بحياة جديدة ومشاريع كبيرة دفعته لان يوسع من شراء الاجهزة الفنية، معتقدا ان الاعمال الفنية ستزداد وسيزداد الطلب على هذه الاجهزة. ولكن الرياح جرت بعكس ما يشتهي العراقيون حيث غزت القوات العراقية الكويت وتعرض العراقيون لابشع حصار اقتصادي وحياتي وثقافي، مما ادى الى توقف عجلة الانتاج الفني كما توقفت عجلات الصناعات العراقية والنتاجات الفنية، وبدأ كل شيء يتقهقر الى الوراء، لكن البياتي كان صامدا مع عائلته يعمل ليلا ونهارا كما زوجته كريمة من اجل تربية الابناء على أحسن ما يكون. تعينت كريمة في معهد الفنون الجميلة ونالت شهادة الماجستير في آن واحد، وصفى البياتي مشاريعه بخسارة كبيرة ليعمل مدرسا في الجامعة. يضيف البياتي «بعد ان رحل النظام عملت مع قنوات فضائية عربية وشعرت بالتعب في حين ان الراتب تحسن كمدرس في الجامعة لهذا عدت الى عملي في جامعة بغداد».

في كل هذه المسيرة كانت كريمة وما زالت الى جانب زوجها وفي قلب عائلتها، تقول «لقد مرت علينا أيام صعبة وكنا نقول الحمد لله نحن افضل من غيرنا ذلك لان البيت ملكنا حيث ورثه صفاء عن والده وأضفنا له بعض الغرف للاولاد والبنات وعملنا كان يوفر لنا حياة اعتيادية، وكنا نقول كان الله بعون العوائل الفقيرة والمحتاجة».

وبالنسبة للبياتي «تبدأ رحلة المعانات اليوميه بالذهاب الى الدوام الصباحي عند الساعة 8,45 صباحا لايصال الاولاد الى مدارسهم وأعمالهم، اذ لا بد من التأكد من وصولهم سالمين. كما تتوجه كريمة الى عملها، ثم التوجه الى الكلية حيث الدوام يبدأ الساعة الثامنة والنصف صباحا، مشيرا الى اهمية «الخروج مبكرا الى العمل لاسباب اهمها أمنية كي نفلت من السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، وتفادي الاختناقات المروريه بسبب التوابيت الكونكريتية التي تغلف بغداد والتي وضعت لحماية المحتل والحكومة، فهذه الاختناقات جاءت بسبب غلق اكثر من ستين بالمائة من شوارع بغداد وترك الباب مفتوحا لكل من هب ودب في غلق اي شارع بأعذار شتى». ويتحدث البياتي عن موضوع الرواتب قائلا «أما الرواتب التي قاموا برفعها ونفذوا المثل القائل (انطيك باليمنة واخذه باليسرة). نعم زادت الرواتب واستبشرنا خيرا ولكن لم تستمر الفرحه فارتفعت اسعار كل شىء بدءا من نقص الوقود وانقطاع الكهرباء فزاد الطين عشر بلات وليس واحده فترتب على ذالك شراء مولدة للطاقة الكهربائية مما جعلنا نحتار بكيفية الحصول على البنزين لتشغيل المولدة وكان علينا ان نشتري الطاقة الكهربائية بعشرة الاف دينار للامبير الواحد من اصحاب المولدات الكبيرة التي تم نصبها وسط الاحياء السكنية فاذا اشتريت مثلا عشرة امبيرات شهريا فعلي ان ادفع مائة الف دينار شهريا مقابل الحصول على الطاقة الكهربائية لثمان ساعات يوميا وسعر الامبير سيزداد مع ارتفاع حرارة الصيف الى ما يقارب الضعف».

ويتساءل قائلا «اليس العراق بلدا نفطيا وان احتياطه كبير جدا فلماذا لا نحصل على الوقود والكهرباء؟. وأليس سعر برميل النفط اليوم هو سبعين دولارا اي اربعة اضعاف سعره في زمن صدام فأين يذهب فارق الاسعار؟ ولماذا لا نصلح بهذا الفائض المادي محطات الكهرباء او نشتري غيرها؟». تضيف الزوجة كريمة «الكارثة انه عندما ينقطع التيار الكهربائي لاكثر من 23 ساعة يوميا ينقطع معه الماء وتصور الحياة في حر العراق بلا ماء ولا كهرباء ثم تأتي مشكلة المجاري (انابيب المياه الثقيلة) فهي مغلقة دائما».

ومما يزيد صعوبة الحياة انه بسبب الاوضاع الأمنية لا زيارات اجتماعيه ولا اصدقاء. وتوضح صفاء «حتى الأهل صارت مسألة تبادل الزيارات معهم مشكلة بسبب الاوضاع الأمنية السيئة التي جعلت شوارع بغداد تخلو مع اول غياب للشمس وبعدها يصبح كل شيء خطرا والخروج الى الشارع يعد مغامرة خطيرة للغاية بالاضافه الى وجود ما يسمى ببعض المناطق الساخنة التي لا يمكن الوصول لها وهي كثيرة، فاذا كان بيت قريبة لي في العامرية او الدورة او السيدية فمن المستحيل زيارتها كما ان التجول بالسيارة يشكل خطورة على من بها ولا يمكننا الذهاب الى اي مكان ترفيهي اذ لا توجد مسارح او دور سينما».

تضيف كريمة قائلة «الرعب اليومي هو في رحلة الابناء الى دراستهم او اماكن عملهم، فانا ابقى افكر بهم وماذا سيجري لهم، لهذا اشترينا لكل واحد جهاز موبايل وتكاليف الاتصالات هنا غالية لكننا يجب ان نتصل بهم بين الوقت والاخر ونستفسر عن اوضاعهم حتى يعود آخر شخص الى البيت فتهدأ مخاوفي واقول الحمد لله».

يعاود البياتي حديثه «حتى في داخل المناطق السكنية يعاني الاولاد من مشكلة تواجد الشرطة او الحرس الوطني لانهم مستهدفون، فيترك الاهالي والاولاد القهوة او المطعم الذي يجلسون فيه فيما اذا دخل اليه شرطي او عناصر من الحرس الوطني لان المكان سيكون مستهدفا، قد يفجر او يرمى بالرصاص، ويضطر اي شخص كان في المقهى او في الشارع او في المطعم الى العوده للبيت الذي اصبح اشبه بالسجن هل رأيت في حياتك ان بيت الانسان يصبح سجنه؟!». ويضيف البياتي «فكرنا انا وزوجتي بترك العراق ولكن بحسبة صغيرة اتضح انه من غير الممكن تنفيذ ذلك لان الحياة في الخارج تتطلب الكثير من الاموال فلا يستطيع عليها الا الاغنياء واغلبهم الان في أميركا او لندن او عمان وغيرها ولا يبقى امام المواطن العراقي الا القبول بما هو عليه».

ولكن وسط كل هذه المتاعب هناك هوامش تؤثث لسعادة هذه العائلة مثل الاحتفالات باعياد ميلاد الابناء والام والاب، زيارات للجيران، الجلوس امام الكومبيوتر. تقول كريمة «بالنسبة لي انا ادير منظمة مجتمع مدني لدعم الفنانين واقامة المعارض التشكيلية لهم والاحتفال بافتتاح هذه المعارض يتم ظهرا في العادة او اقامة ورشات عمل فنية، او اتجه الى الرسم ان صادف وحصلت على وقت فراغ». أما صفاء فيقول «سعادتي مع عائلتي، احيانا اجد متنفسا من الوقت لممارسة رياضة السباحة وهي هوايتي المفضلة مع بعض الاصدقاء القدماء، او استقبال صديق مع زوجته عصرا او العمل مع الابناء لحل بعض مشاكلهم الحياتية». البنت الكبرى رامية تتهيأ للسفر الى الولايات المتحدة لانهاء دراستها العليا في مجال الفن التشكيلي، وهي سعيدة بهذه الزمالة، اما البنت الوسطى زينة فهي منشغلة مع خطيبها لتأثيث بيت المستقبل، وعلاوي ينشغل بالكومبيوتر وتبادل البرامج والافلام مع اصدقائه. وحمودي يحتفظ ببعض العاب الكومبيوتر، وتنشغل لين برسم بعض اللوحات متاثرة بوالدتها.