لا ليل في بغداد

حفلات أعراس وعروض ثقافية وأفلام وغاليريهات.. في وقت الظهيرة

TT

كان الليل في بغداد ليلا طويلا.. ليل تؤثثه الانوار والناس والسهرات العائلية والموسيقى والاغاني ونيران شواء السمك المصطاد توا من نهر دجلة في جلسات شارع ابو نواس وعلى الطريقة البغدادية او بما يعرف بالمسكوف. كان الليل ببغداد ليل الاغاني في (خان مرجان) حيث ينطلق المقام العراقي من الحناجر الطروبة، ومن صالات فندق شيراتون وميريديان والرشيد والمنصور وبغداد، وكان الناس يتجمعون في قوارب تتهادى في مياه دجلة الخير وهم يغنون «على شواطئ دجله.. يا منيتي وقت الفجر» لانهم يسهرون مع الغناء ودجلة حتى الفجر، وكانوا يطربون على اغنية «الليلة حلوة.. حلوة وجميلة». لكن العمليات المسلحة والخوف والرعب والارهاب والقتل المجاني اختطف ليل بغداد، ضمن ما اختطف. قبل ثلاثة اعوام عندما زرت بغداد كان هناك ما يزال وجود حيوي وقوي لليل. كان الناس يسهرون الى ما بعد منتصف الليل في المقاهي والمطاعم. وحتى عندما أُقرت اجراءات منع التجول حتى منتصف الليل كان البغداديون يتحايلون على الوقت ويمددون بقاءهم خارج منازلهم حتى بعد منتصف الليل. الليل البغدادي اغتيل نهائيا ومعه اغتيلت عادات وتقاليد ليلية اصيلة وتاريخية. البغداديون اليوم يودعون شوارع مدينتهم مع بداية غروب الشمس، بعد الساعة السادسة مساء تصبح بغداد خالية الا من نقاط التفتيش ومفارز الميلشيات المسلحة واصوات الانفجارات وصافرات الانذار التي تطلقها سيارات الشرطة او الاسعاف. المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي تودع زبائنها مع الوقت المبكر لاول ظلام او قبل ذلك بساعة على الاقل. ذلك ان اجراءات الخطة الامنية الجديدة تمنع التجول بعد الثامنة والنصف ليلا، الحياة تتوقف قبل هذا الوقت في العاصمة. ايضا العادات والتقاليد الليلة تغيرت في بغداد تماما فصارت نهارية، لكنها تبدو غريبة حتى على جسد النهار ذاته. العراقي علاء التميمي دعاني خلال وجودي في بغداد لحفلة عرس شقيقه همام، قال ان الحفل سيبدأ في منزلهم بحي المنصور الراقي ما بين الثانية وحتى الرابعة بعد الظهر، استغربت ان يكون حفل عرس في ذلك الوقت، وبدلا من ان يتم تقديم طعام العشاء صار يقدم طعام الغداء، قال التميمي «ساعتان تكفي لإقامة حفل العرس ومن ثم نودع العروسين الى دارهما حيث سيكون الوقت الساعة الخامسة بعدها يرحل المدعوون كل الى بيته اذ لا يستطيعون البقاء في الشوارع الى ما بعد السادسة مساء».

حفلات الزواج كلها اليوم تقام في بغداد وقت الظهيرة او بعد الظهر، سيارت زف الاعراس تمر مبكرة في شوارع بغداد بموسيقاها واغاني المحتفلين، مثل هذه الاجواء لم تتعودها بغداد في السابق. كانت تقاليد الاحتفال بالاعراس تتم في بغداد بان يقام الحفل باحد الفنادق الكبرى او ان يزف العروسان الى احد هذه الفنادق بعد نهاية الحفل في وقت متأخر من الليل، لكن فنادق بغداد الكبرى خالية تقريبا او انها تضم نزلاء من العسكريين الاجانب او الصحافيين ومراسلي وكالات الانباء العالمية.

سألت موظف الاستعلامات في فندق شيراتون فيما اذا كان هناك بعض العرسان يقضون ليلة او ليلتين من شهر العسل في الفندق فقال «الفندق جاهز لاستقبال اي ضيوف لكن ضيوفنا او نزلاءنا اليوم هم من العسكريين والصحافيين واعضاء الوفود الاجنبية، والعرسان يخافون على حياتهم كون هذه الفنادق قد تعرضت لعمليات مسلحة عديدة وهي هدف لتلك العمليات، حسب توقع العرسان، لهذا مثل هذه الظاهرة اختفت ونتمنى عودتها كون فندقنا مثلا وبقية الفنادق الكبرى محمية بصورة جيدة».

تقول رندة محمد سعيد،27 عاما، موظفة في احد المصارف ببغداد «لقد حرمنا من النزهات الليلية العائلية التي كانت متنفس لنا، غداد تبدو مدينة اشباح مع بداية غروب الشمس، والسيارات تمضي مسرعة حيث يعود الناس مبكرين الى بيوتهم خشية انفجار او تسليب او اختطاف، انا مثلا اعود مباشرة الى البيت مع زميلاتي الموظفات بسيارة استاجرناها تقوم بايصالنا من البيت الى العمل وبالعكس، أنا ادفع ما يقرب من نصف راتبي كاجرة شهرية للسيارة (150 دولارا اميركيا)، اصل الى البيت ولا اخرج حتى صباح اليوم التالي».

وعن تقاليد حفلات الاعراس التي صارت تتم وقت الظهيرة، قالت رندة «لقد حضرت بعض هذه الحفلات لقريبات لي، الحفلات عادة تتم ايام الاثنين او الخميس او الجمعة، وتقتصر على تقديم طعام الغداء وسماع بعض الموسيقى ومن ثم العودة المبكرة الى البيت خشية حدوث اي مكروه لا سمح الله». تضيف قائلة «لا استطيع ان اتخيل ان حفل عرسي سيتم وقت الظهيرة لهذا انا اجلت مشروع الزواج حتى تستقر الامور الامنية واجري حفل عرس طبيعي، وربما لن اتزوج وسأدخل مجاميع العوانس قبل ان تستقر الاوضاع الامنية في بغداد».

وتنتشر في بغداد مجموعة من مدن ألعاب الاطفال او تلك المخصصة للعوائل، لكن غالبية هذه المدن اغلقت ابوابها كونها تعمل ليلا. لكن مدينة العاب متنزه الزوراء الذي كان واحدا من اجمل متنزهات بغداد تحاول ان تثبت وجودها. هذه المدينة تعمل خلال النهار، منذ التاسعة صباحا وحتى الساعة الرابعة مساء، لكن هذه المدينة خالية على الدوام وقد استغربت ان يدور دولاب الهواء او بقية الألعاب وهي خالية. يقول ثامر الجنابي، موظف في مدينة العاب الزوراء «نحن نعرف ان العوائل لا تغامر بالخروج مساء، خاصة ان اجراءات منع التجول تبدأ عند الثامنة والنصف مساء، لهذا قررنا ان نعمل صباحا لاستقبال الرحلات المدرسية او العوائل التي تريد ان ترفه عن اطفالها».

يضيف الجنابي متسائلا «ولكن من يغامر اليوم بالذهاب الى مدينة الالعاب ودرجة الحرارة تقترب من الخمسين في الظل؟ من المؤكد ان من يخرج مع اطفاله وقت الظهيرة وفي مثل هذه الاجواء الساخنة سوف يصاب بضربة شمس او بمرض آخر لهذا لا ترى أي شخص في مدينة الالعاب سوى بعض العاملين فيها».

زبائن المقاهي هم ايضا غيروا تقاليدهم تبعا للاوضاع الامنية السيئة في بغداد فصاروا يذهبون الى مقاهيهم ويلتقون اصدقاءهم خلال النهار والمقاهي التي تملك مولدات للطاقة الكهربائية هي الرابحة والا من يتحمل الجلوس في مقهى وسط حرارة الصيف البغدادي.

وعلى العموم فان المقاهي التي كانت ناشطة في عملها هي مقاهي الانترنيت والتي غالبية زبائنها من الشباب، وهذه هي الاخرى تعرضت لعدة نكسات.

يقول هاني جورج مدير مقهى انترنيت دبي في شارع 14 رمضان بحي المنصور في جانب الكرخ من بغداد ان «عدد الزبائن انحدر مع تطبيق الخطة الامنية الاخيرة الى اسوأ معدلاته فالزبائن كانوا يبقون الى ساعة متأخرة من الليل، اما الان فانا اغلق المقهى الساعة 7 مساء اي قبل تطبيق اجراءات منع التجول بساعة ونصف، لكن الزبائن يغادرون مع الساعة الخامسة مساء، كما ان لا احد يأتي طوال فترتي الصباح والظهيرة، واذا تم اغلاق الطريق لاسباب امنية فاني اغلق المقهى لاجد طريقا للعودة الى بيتي».

يضيف جورج قائلا «هناك ايضا المشكلة المزمنة وهي انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة وهذا يعني ان علينا تشغيل المولد الكهربائي وهناك شحة شديدة في الوقود وارتفاع اسعاره في السوق السوداء».

كان ثمة مقهى ومطعم عائلي كبير في بداية شارع الكندي بحي الحارثية يستقبل حتى ساعات متاخرة من الليل مجاميع من العوائل لقضاء فترتي المساء والليل به بينما الاطفال يلهون ببعض الالعاب، لكن هذا المقهى اغلق ابوابه مع الغاء فترة الليل في قاموس التوقيت البغدادي.

اما مطاعم ومقاهي الكرادة التي كانت تسهر مع البغداديين وتستقبل العوائل حتى الساعة الحادية عشرة ليلا فقد اغلقت هي الاخرى ابوابها، فمطعم الفنجان الذي كان يلتقي فيه نخبة من الفنانين والمثقفين والمعماريين اغلق ابوابه ورحل صاحبه الى عمان ليفتتح هناك مطعم آخر بذات المواصفات لكن بزبائن آخرين، اما مطعم ظلال في زيونة والذي هيأ له صاحبه المهندس عدنان اسود مواصفات راقية لاستقبال العوائل والنخب البغدادية فقد أغلق هو الآخر في انتظار ان تتحسن الاوضاع الامنية.

حتى النوادي الاجتماعية والثقافية المشهورة ببغداد بتقاليدها وسهراتها، مثل نوادي: العلوية والصيد والمنصور (تحول الى مقر لحزب شيعي سياسي)، وجمعية الفنانين التشكيليين ونادي الادباء وجمعية المصورين وجمعية الموسيقيين، غيرت تقاليدها العريقة وروضتها للظروف الراهنة وصارت تغلق ابوابها قبل الثامنة مساء.

الامسيات الثقافية التي كان يحييها اتحاد الادباء كل امسية اربعاء اسبوعيا تحولت الى نشاطات صباحية او خلال فترة ما بعد الظهر، وليس هناك من اديب عراقي يتحمل مزاجه سماع الشعر او محاضرة نقدية وقت الظهيرة الساخنة. معارض الفنانين التشكيليين هي الاخرى تفتتح خلال النهار.

يقول الشاعر رعد عبد الكريم كنا في السابق نحضر الاماسي الشعرية او افتتاح المعارض التشكيلية مساء، هذه تقاليد اجتماعية اضافة الى كونها ثقافية، لكننا اليوم نحيي (ظهيرات) شعرية، ونحضر افتتاح معارض او عروضا مسرحية وموسيقية وقت الظهيرة، وسط انحسار واضح للجمهور بسبب سوء الاوضاع الامنية من جهة ولحالة من اليأس دبت في نفوس الجمهور، هذه النشاطات صارت تقام اليوم في مبنى وزارة الثقافة البعيدة عن مركز بغداد او في مقر اتحاد الادباء».

يضيف عبد الكريم قائلا «نحن شعب تقاليده الاجتماعية والثقافية ليلية، النهار للعمل الرسمي فقط، لكن الليل انتهى من قاموسنا ولا خيار لنا سوى الظهيرة». الفنانة المسرحية آزدوهي صموئيل لا تمانع في ان تكون العروض المسرحية، سواء كانت وقت الظهيرة او صباحا، تقول «المهم ان تستمر ظاهرة العروض المسرحية كتقليد حضاري، انا احضر هذه العروض في أي وقت كانت وهناك جمهور لا بأس به ما يزال يتابع هذه العروض في أي وقت كان ولكل مرحلة ظروفها الخاصة. المهم ان تستمر عجلة العمل الابداعي وليس المهم الوقت».

في غاليري حوار في منطقة الوزيرية قرب اكاديمية الفنون الجميلة الذي يديره الفنان التشكيلي قاسم سبتي خصص ركن ليكون مقهى وملتقى للمثقفين العراقيين وكذلك للصحافيين الغربيين الذين يزورون العراق، هناك لاحظنا خلال زيارتنا للغاليري للقاء الاديب الدكتور مالك المطلبي والرسام علي المندلاوي ان المكان يزدحم خلال الظهيرة، يقول المطلبي «هذا المكان محل لقائنا اليومي تقريبا وهو قريب من مكان عمل غالبية المثقفين العراقيين، فقد حرمنا من ليالي ابو نواس حيث كنا نلتقي في مقاهي ذلك الشارع العتيد، كما ان شارع الرشيد لم يعد آمنا ولو اننا نلتقي في مقهى الشاهبندر في شارع المتنبي كل جمعة».

يضيف المطلبي قائلا «على العموم فان السهرات الليلية خارج البيت صارت محرمة علينا بسبب الاوضاع التي يعيشها البلد».

في منطقة الكرادة داخل حيث يزدحم الناس للتسوق هناك التقينا مع خضير كاظم صاحب محل بيع اسماك، كان السمك ما يزال حيا في احواضه، ولك ان تختار السمكة التي تناسبك ليقوم احد العمال بشيها على الطريقة البغدادية (المسكوف) ولكن بأسلوب غير الذي عرفه ابو نواس حيث تم تصنيع طبق معدني كبير محاط بشباك حديدي تعلق عليه السمكات بينما يشتعل الحطب وسط الصحن المعدني الدائري. يقول كاظم «السمك المسكوف طبق بغدادي تاريخي ومعروف والناس لا تستغني عنه، واذا صار ممنوعا علينا العمل في شارع ابو نواس فقد وجدنا البديل هنا واعداد السمك وبيعه مشويا وحسب طلب الزبائن الذين ياخذون السمك المشوي معهم الى بيوتهم بدلا من تناوله في المطاعم»، مشيرا الى ان وقت الذروة في طلب السمك المشوي من قبل الزبائن هي ما بعد الظهر».