رجل في عين العاصفة

رئيس الوزراء الصومالي جيدي.. قليل الكلام ولا تظهر عليه الانفعالات.. والبعض ينتقد تسرعه وعدم حزمه

TT

لم يثُر الجدل حول شخصية سياسية صومالية مثلما ثار حول رئيس الوزراء الصومالي الحالي علي محمد جيدي، الذي ظهر اسمه فجأة عندما عينه الرئيس الصومالي في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2004 لمنصب رئيس الوزراء. وحتى مجيئه لهذا المنصب لم يكن اسم جيدي متوقعا إلا في الساعات القليلة التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية التي شكلها هو بنفسه، فلم يكن جيدي عضوا في البرلمان لينضم الى قائمة المرشحين (ينص الدستور الصومالي الحالي على أن يأتي أعضاء الحكومة من داخل البرلمان فقط)، فتنازل له أحد امراء الحرب من قبيلته وهو محمد عمر حبيب (حاكم منطقة جوهر السابق) عن مقعده في البرلمان، وبعدها عينه الرئيس الصومالي عبد الله يوسف أحمد رئيسا للوزراء. ولم يحتفل رئيس الوزراء الصومالي باعتلائه أعلى منصب في الحكومة، اذ انه بعد أقل من أسبوع من إعلانه عن تشكيل أعضاء حكومته ليصادق عليها البرلمان، حدث ما لم يكن متوقعا، وهو تصويت البرلمان على سحب الثقة عن الحكومة وعدم موافقته عليها بدعوى أنها أخلت بالتوازنات القائمة على المحاصصة القبلية في توزيع المناصب الحكومية، مما اضطر الرجل الى إعادة تشكيل الحكومة مرة أخرى وحصلت على ثقة البرلمان في يناير (كانون الثاني) عام 2005. ولكن بعد 18 شهرا من ذلك التاريخ تصبح حكومة جيدي مرة أخرى وسط العواصف السياسية والقبلية التي تعتمل في الصومال منذ عقود.

وغير صعوده المفاجئ عشية تعيينه لمنصب رئيس الوزراء، لا يعرف عن رئيس الوزراء الصومال نشاط سياسي ظاهر. فبعد تخرجه من كلية الطب البيطري في الجامعة الوطنية الصومالية سافر الى روما لمتابعة دراسته العليا ثم عاد الى العاصمة مقديشو ليعمل أستاذا في الكلية التي تخرج منها وموظفا في وزارة الثروة الحيوانية. واستمر فى عمله الى أن تمت الإطاحة بالحكومة المركزية عام 1991. وبعد الحرب عمل مستشارا لعدد من المنظمات الإقليمية التي تعنى بالثروة الحيوانية.

ولد علي محمد جيدي عام 1950 في مقديشو لعائلة متوسطة الحال، وكان والده ضابطا في الشرطة الصومالية ثم تحول الى سلك الاستخبارات. ورقي الى رتبة عقيد، وأثناء النزاع بين الصومال واثيوبيا في منتصف السبعينات ونهاية الثمانينات كان والد رئيس الوزراء «محمد جيدي باشال» مسؤولا عن ملف اللاجئين السياسيين الاثيوبيين ويشرف على تحركاتهم، وكان من بين الذين كانوا تحت إشرافه رئيس الوزراء الاثيوبي الحالي ميليس زيناوي الذي هرب من اثيوبيا ولجأ الى الصومال، حيث قدمت له حكومة الجنرال محمد سياد بري الرئيس الصومالي الأسبق كل التسهيلات للإطاحة بنظام منغيستو هايلي مريام في أديس أبابا.

ويقال إن العلاقة الوطيدة بين جيدي والقيادات الاثيوبية الحالية بدأت في ذلك الوقت الذي كانت فيه مقديشو ملاذا للمتمردين الاثيوبيين والارتيريين على السواء. ويقال أيضا إن ميليس زيناوي هو الذي ضغط على «محمد عمر حبيب» (أمير حرب صومالي متحالف مع اثيوبيا) ليتنازل عن مقعده في البرلمان لصالح جيدي ليعينه الرئيس الصومالي الحالي عبد الله يوسف أحمد (المدعوم من اثيوبيا أيضا) في منصب رئيس الوزراء. وفي الفترة ما بين 1991 و 2004 كان جيدي يعمل في الطب البيطري لدى عدد من المنظمات غير الحكومية، وكان مسؤولا عن ملف الوضع الصحي للمواشي الصومالية الى جانب عمله في منظمة محلية غير حكومية تعنى بالثروة الحيوانية. وفي منتصف التسعينيات عمل مع زملاء له في تنظيم المنظمات غير الحكومية المحلية والتنسيق فيما بينها، وأصبح رئيسا لرابطة المنظمات غير الحكومية في ذلك الوقت الذي لم تكن في الصومال حكومة مركزية، وكانت البلاد تحت التدخل الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.

ولم يمارس جيدي في تلك الفترة نشاطا سياسيا يذكر غير مرة واحدة عندما اختلف مع الرئيس الصومالي السابق علي مهدي وانضم الى صفوف منافسه الجنرال محمد فارح عيديد، الذي عينه وزيرا للثروة الحيوانية في الحكومة التي أعلنها عيديد من جانب واحد عام 1995 والتي لم تعمر طويلا. ثم انتقل رئيس الوزراء الصومالي الى أديس أبابا ليعمل في الاتحاد الافريقي لسنوات كانت أيضا كافية لتعزيز علاقته مع القيادات الاثيوبية الحالية الذين كان قد تعرف عليهم ايام كانوا لاجئين سياسيين في الصومال في الثمانينيات وظل يعمل في مقر الاتحاد الافريقي بأديس أبابا حتى قبل أشهر قليلة من تعيينه لمنصب رئيس الوزراء. وقد صاحبت العواصف السياسية والأمنية حكومة جيدي، حيث لم يتمكن الرجل من نقل حكومته (التي شكلت في المنفى في كينيا) الى العاصمة مقديشو التي تشكل قبيلته الـ هويا – فرع أبجال ـ أغلبية سكانها بسبب نشوب الخلاف بينه وبين عدد من أمراء الحرب الذين ضمهم هو الى حكومته لكسب تأييدهم، لأنهم كانوا يسيطرون على العاصمة الرسمية للبلاد مقديشو، ولذلك اتخذ في مدينة جوهر (90 كلم الى الشمال من العاصمة) مقرا له، فيما انقسم وزراء حكومته بين من ذهب للإقامة معه في جوهر ومن عاد الى مقديشو ومن بقي في نيروبي التي شكلت فيها الحكومة ليراقب الوضع عن بعد.

وقد انعكس هذا التباعد السياسي والمكاني بين أعضاء حكومة جيدي على أداء الحكومة الانتقالية، فلم تمارس نشاطا يذكر لفترة عام كامل، مما أدى الى الانتقادات الموجهة لهذه الحكومة ولرئيس الوزراء نفسه، بأنها عجزت عن تحقيق المصالحة وإعادة الأمن والاستقرار الى الصومال الذي لم يشهد حكومة مركزية فعالة منذ عقد ونصف العقد. وقد حاول جيدي امتصاص هذا الغضب داخل أعضاء الحكومة والبرلمان وكذلك الشارع السياسي الصومالي، فقام بزيارتين فقط الى العاصمة مقديشو لإعطاء الزخم لحكومته، لكن محاولتين لاغتياله وقعتا خلال الزيارتين. وكانت الزيارة الأولي في 3 من مايو (أيار) عام 2005 أي بعد خمسة أشهر فقط من تشكيل حكومته في المنفى في نيروبي، عندما قاد جيدي مجموعة كبيرة من الوزراء والنواب لزيارة العاصمة، ولدى إلقائه خطابا جماهيريا في الاستاد الرياضي الرئيسي في مقديشو، انفجرت قنبلة على بعد أمتار قليلة منه، مما أدى الى سقوط العشرات قتلى وجرحى ونجا هو من الحادث بأعجوبة ثم عاد الى نيروبي في اليوم التالي.

ولم تتوقف العواصف الأمنية التي كانت تستهدف رئيس الوزراء الصومالي عند هذا الحادث، ففي السادس من نوفمبر (تشرين الاول) عام 2005، عاد جيدي مرة اخرى الى العاصمة مقديشو قادما من معقله في جوهر ليترأس اجتماعه الأول لحكومته الذي كان من المقرر أن يعقد في مقديشو. كانت حادثة اغتيال اخرى تنتظره قبل الوصول الى الفندق الذي كان من المقرر أن ينزل فيه، فقد انفجر لغم أرضي على موكبه عندما كان في طريقه من المطار الى فندق رمضان الذي كان من المقرر أن يقيم فيه، وأسفرت الحادثة عن سقوط عدد من القتلى والجرحى من بينهم عدد من الحراس الشخصيين له. وأمضى جيدي ليلته في منزل أحد أقربائه تحت حراسة أمنية مشددة ليغادر في اليوم التالي الى معقله في جوهر، وبعدها لم يُقدم الرجل على زيارة العاصمة التي بدأ واضحا أن هناك من يستهدفه شخصيا فيها. وبعد عام من إقامته في جوهر، حيث كان مكتبه يعمل بطاقم محدود من الوزراء المقربين منه، اختلفت الحكومة مع حاكم المنطقة محمد عمر حبيب لتبدأ الحكومة مرة اخرى رحلة للبحث عن مكان تعمل فيه، ووقع اختيارها على مدينة بيداوة (250 كلم الى الغرب من العاصمة) ولأول مرة التأم شمل الحكومة والبرلمان في 26 من فبراير (شباط) الماضي، ولم تجد الحكومة والبرلمان مقرا تعمل منه فلجأت الى ترميم مستودع للأغذية تابع لوزارة الزراعة سابقا لتحوله الى قاعة للاجتماعات يتناوب عليها الحكومة والبرلمان، وجُهّز المكان بتمويل من برنامج الأمم المتحدة للتنمية. لكن هذا المكان سيكون أيضا المكان الذي تهب منه العواصف السياسية على الحكومة الانتقالية برئاسة جيدي، فبعد أقل من 4 أشهر طرحت كتلة من النواب في البرلمان الصومالي مشروعا لسحب الثقة عن الحكومة احتجاجا على ما وصفوه باحتكار جيدي للسلطة وانفراده باتخاذ القرارات دون الرجوع الى الحكومة والبرلمان. وقبل يوم واحد فقط من طرح التصويت على الحكومة قدم 19 وزيرا ونائب وزير ووزير دولة استقالاتهم من مناصبهم بشكل جماعي، تلتها استقالات اخرى وصلت حتى الآن الى 40 استقالة (نحو نصف مجلس الوزراء)، وقد نجا جيدي من المحاولة التي هدفت الى إسقاطه برلمانيا بعدد قليل من الأصوات (13 صوتا)، لكن هذه المحاولة من الوزراء والنواب الغاضبين استمرت خارج أروقة البرلمان من خلال هذه الاستقالات الجماعية. ويقول منتقدو رئيس الوزراء الصومالي إن سياسة جيدي اتسمت بالتسرع وعدم التحلي بالحزم عندما تكاد الأمور تخرج عن السيطرة، ويصفونه بأنه تجاوز مسائل كانت تعتبر في الماضي وحتى الآن من المحرمات السياسية في الصومال ومن بين هذه المسائل: المرونة التي أبداها حيال انفصال المناطق الشمالية عن البلاد (أرض الصومال)، وتصريحه أنه لا يمانع في الاعتراف بها كدولة مستقلة اذا اعترف بها العالم، والأمر الثاني هو وصفه منطقة أوجادين بأنها أراض اثيوبية (منطقة أوجادين ظلت موضع نزاع بين الصومال واثيوبيا منذ أيام الاستعمار) وثالثا دعوته الى الاستعانة بالقوات الاثيوبية، وهو في منصب رئيس الوزراء؛ وهي أمور ثلاثة لم يحدث لمسؤول في هذا المنصب ان اقترب منها، فضلا عن ان يتخذ موقفا سياسيا منها.

لكن «عبد الله أحمد قودي» مدير مكتب رئيس الوزراء الصومالي، قال ان الرجل ضحية لمؤامرات كثيرة لم تعطه فرصة كافية لأن يفعل ما يؤمن به أو يحقق ذلك من خلال خبرته الإدارية الواسعة. وأضاف «ان كثيرا من منتقدي جيدي يتغاضون عن أن الرجل جاء في مرحلة حساسة من التاريخ الصومالي مليئة بالمطبات السياسية». ومع أن جيدي متحدث لبق عندما يتحدث مع وسائل الإعلام، إلا أنه ليس خطيبا مفوها عندما يتحدث مع الجماهير او في الخطابات العامة ويدلي بتصريحات مقتضبة وغامضة في أحيان كثيرة تتسبب في إثارة الجدل حولها. ويقول مدير مكتبه، إن وقت جيدي مزدحم جدا وخاصة في الأسابيع الأخيرة التي تعرضت فيها حكومته لهزات سياسية وأمنية (اغتيل أحد الوزراء في بيداوة يوم الجمعة الماضي). ويتابع «إلا أن الرجل متماسك جدا ولا تظهر عليه آثار الانفعال ويواصل عمله في مكتبه حتى في وقت متأخر من الليل، ويسهر فيما يذهب مساعدوه الى النوم». ولا يستعين جيدي بالمنبهات، فالرجل لا يدخن ولا «يخزن» القات ولا يتناول المشروبات الكحولية، متزوج وله ولدان وبنتان. وتقيم أسرته في نيروبي خلال السنوات الأخيرة، ويصطحب زوجته في سفرياته على عكس معظم المسؤولين الصوماليين، ويتحدث الإنجليزية والعربية والصومالية المحلية. عندما تقابله يبدو لك بأنه أصغر من سنه الحقيقي، ويحرص على التزام البساطة في المظهر مع أن أصدقاءه يقولون انه رجل يحب «الشياكة».

لكن الرجل الذى لا يزال وسط العاصفة، يحاول التخفيف من آثارها، ويقول ان الاستقالات التي حدثت هي شأن ديمقراطي وليست مشكلة ان يستقيل وزير أو أكثر عندما يرغب في ذلك وسيتم ملء الفراغات التي نتجت عن ذلك. لكن عاصفة أخرى هبت في وجه الرجل عندما أعلن عن تأجيل المفاوضات مع المحاكم الإسلامية التي كان من المقرر أن تعقد في الخرطوم الأربعاء الماضي برعاية الجامعة العربية حتى الخامس عشر من الشهر الجاري، لكن رئيس البرلمان قال إنه سيقود بنفسه وفدا يمثل الحكومة الى الخرطوم لمواصلة المفاوضات مع المحاكم الإسلامية. ويشاع في بيداوة أن هناك خلافا غير معلن بين جيدي و الرئيس الصومالي عبد الله يوسف أحمد ورئيس البرلمان الشريف حسن شيخ آدم. وأتهم أحد نواب الوزراء المقربين من جيدي الرئيس ورئيس البرلمان بأنهما يتآمران على جيدي لإجباره على الاستقالة من منصبه، لكن يبدو أن الرجل يرفض الاستسلام أمام العواصف السياسية التي تهب في وجهه من هنا وهناك.