لماذا أحب أميركا.. ولا أحب الأميركيين؟

«خوان» المهاجر المكسيكي غير الشرعي في بلاد العم سام يروي لـ : الشرق الاوسط

TT

قال «خوان» «أحب أميركا، لكني لا أحب الأميركيين. أحب أميركا لأنها بلاد واسعة، وفيها فرص عمل كثيرة، والحياة فيها سهلة، وكل الناس يحبونها، ويأتون اليها. ولا أحب الأميركيين لأنهم استعلائيون، ولا يريدونني في بلدهم، رغم أني أعمل وأتعب وأعرق». «خوان» هو اسمه الاول، لكنه رفض ان يقول اسمه بالكامل خوفا من أن تعرف الشرطة الأميركية انه يعيش في أميركا بطريقة غير قانونية، وتعيده الى المكسيك. ورفض ان تتابعه «الشرق الأوسط» خلال اليوم لتعرف كيف يعيش، لكنه وافق على أن يحكي كيف يعيش. ورفض، في البداية، ان يثق بالمترجمة الاميركية التي تتكلم قليلا من اللغة الاسبانية، وقال انها ربما تعمل سرا مع الشرطة الأميركية.

كان «خوان» يرتدي قميصا وبنطلونا غير نظيفين صباح ذلك اليوم، لأنه جاء يبحث عن عمل امام مطعم «بيرغركنغ» في ضاحية سبرنغفيلد في ولاية فرجينيا، على مسافة خمسة عشر كيلومترا من واشنطن العاصمة. تعود عمال اجانب، خاصة من المكسيك ودول أخرى في أميركا الوسطى، على التجمع امام المطعم صباح كل يوم، وخاصة صباح يوم السبت (عطلة نهاية الاسبوع)، وانتظار شخص يحتاج الى عمال ليذهبوا معه.

ظهرت أمام المطعم، فجأة، سيارة شرطة، وهرب في الحال نصف العشرين عاملا تقريبا الذين كانوا ينتظرون، واختفوا وسط اشجار ومبان قريبة، وبقي النصف الثاني. وكان ذلك دليلا على أن الذين هربوا يعيشون في أميركا بطريقة غير قانونية. خرج من سيارة الشرطة رجلان صامتان، وكأنهما لا يهتمان بما حدث امامهم قبل ثوان قليلة، ودخلا المطعم، واشترى كل واحد كوب قهوة، وعادا الى سيارتهما صامتين، وغادرت السيارة المكان. وكان واضحا انهما تعمدا ما فعلا لتخويف الأجانب غير القانونيين، لأن القانون لا يسمح للشرطي العادي (فقط شرطي الهجرة والجوازات) باعتقال أجنبي غير قانوني.

وعاد الأجانب الذين هربوا (غير القانونيين)، وجلسوا امام المطعم ينتظرون شخصا يستأجرهم خلال اليوم. وكان واحدا منهم هو «خوان». تردد في البداية، في الحديث. وعندما تحدث لـ«الشرق الأوسط» فى البداية حول قصة حياته، كان مقتطبا، ولم يرفض كوب قهوة في الصباح.

قال «خوان» انه دخل اميركا قبل خمس سنوات بطريقة غير قانونية. كان معه عشرون آخرون، واستعملوا نفقا تحت الارض ينقل القاذورات وماء الامطار بين مدينة نوغاليز في الجانب المكسيكي ومدينة نوغاليز في الجانب الأميركي (ولاية اريزونا) وجدوا النفق، لحسن حظهم جافا، لأنه احيانا يتملئ بالقاذورات. وتذكروا أن مكسكيين غيرهم غرقوا، قبل شهور، في القاذورات عندما فاضت فجأة.

وقالت جريدة «واشنطن بوست» إن اربعة آلاف شخص تقريبا غرقوا، خلال العشر سنوات الماضية، في انفاق وانهار، أو ماتوا عطشا في الصحراء على حدود المكسيك. ونقلت على لسان مسؤولين في وزارة أمن الوطن (التي تتبع لها الحدود الاميركية) أن الاجراءات المتشددة التي فرضت بعد هجوم 11 سبتمبر (ايلول) زادت عدد الضحايا، لأن الأجانب بدأوا يسلكون طرقا اكثر خطورة. وتوقع المسؤولون زيادة اخرى في العدد بعد بناء حائط على الحدود (حسب قانون اصدره الكونغرس مؤخرا) خلال الثلاث سنوات القادمة، لأن الحائط سيكون في المناطق الاكثر عبورا، لا في المناطق الصحراوية القاحلة، التي يتوقع ان يلجأ اليها الأجانب. قال «خوان» انه، بعد ان عبر الحدود، ذهب الى ولاية نورث كارولينا لمقابلة مكسيكيين غيره من قريته، وساعدوه في البحث عن عمل، وقضى هناك سنة ونصف السنة. وجد عملا في مزرعة دواجن (تفقيس بيضها، وتربيتها، والقبض عليها، وذبحها، وتنظيفها، ووضعها في شاحنات مبردة). لكنه قال: «أساء لنا سكان نورث كارولينا كثيرا. لم أر في حياتي عنصريين مثلهم. شتمونا في الشوارع، وصرخوا في وجوهنا أن نعود الى بلادنا». وأصدرت ولاية نورث كارولينا في الاسبوع الماضي، قانونا فيه البنود الآتية: أولا: ممنوع اصدار رخصة قيادة سيارة الى اي شخص لا يحمل بطاقة ضمان اجتماعي (لا تمنح هذه إلا إلى الأجنبي الذي دخل اميركا بطريقة قانونية). ثانيا: ممنوع توظيف اي شخص في حكومة الولاية، اذا لم تكن لديه جنسية أميركية أو بطاقة اقامة دائمة (غرين كارد). ثالثا: تستطيع شرطة الولاية اعتقال الاجانب الذين يعيشون في اميركا بطريقة غير قانونية (لا يوجد هذا القانون في ولاية فرجينيا، أو لا يوجد حتى الآن).

قال «خوان» انه جاء من نورث كارولينا الى ولاية فرجينيا (ضواحي واشنطن العاصمة)، ووجد فرص عمل اكثر، لكنه وجد تكاليف المعيشة أغلى. لم يقدر على استئجار غرفة منفردة، واضطر لأن يشارك أربعة آخرين في غرفة واحدة. التفرقة العنصرية؟ «الحمد لله، لم يشتمني أحد هنا. لكن نظراتهم (الأميركيين) غير ودية، خاصة عندما نجلس هنا ننتظر عملا، ويمرون علينا بسياراتهم، وينظرون الينا نظرات احتقار. لكنهم، لحسن الحظ، لا يشتموننا علنا».

وأضاف مازحا: «غرنغو (الرجل الابيض) هنا أحسن من غرنغو هناك». يقدر «خوان»، اذا ازعجته النظرات غير الودية وهو ينتظر امام المطعم، أن يذهب الى مركز «هيرندون» الاجتماعي للاجانب (شرعيين وغير شرعيين) على مسافة عشرين كيلومترا. يدل المركز، الذي أسس في السنة الماضية، على ان ولاية فرجينيا اكثر انفتاحا من ولاية نورث كارولينا في معاملة الاجانب، قانونيين او غير قانونين. قال الذين اسسوا المركز (ديمقراطيون)، ان الهدف هو توفير مكان «آمن» للأجانب. وقال الذين عارضوا تأسيسه (جمهوريون) إن الأجانب الشرعيين لا يحتاجون لمكان آمن، وان الأجانب غير الشرعيين يجب ان يبعدوا الى بلادهم.

وقال «خوان» انه يحب ولاية فرجينيا لسبب آخر، وهو كثرة امثاله من المكسيكيين (شرعيين وغير شرعيين) في ضواحي واشنطن العاصمة. ولأن السفارة المكسيكية في واشنطن، وقال انه سيذهب، في الاسبوع القادم، الى هناك لتجديد جواز سفره. وأضاف: «لن يفيدني الجواز في الاقامة في اميركا، لكنه يفيدني في اثبات انني من المكسيك. انا لست من غواتيمالا، ولا من بيرو، ولا من بوليفيا. انا من المكسيك العظيم». يصور هذا الاحساس الوطني المتمرد ان «خوان» وامثاله يعانون من مشكلتين، على الاقل، في هويتهم: الاولى، انهم يعيشون وسط الاميركيين بصورة غير شرعية. الثانية، ان الاميركيين يخلطون بين اجناسهم، ولا يقدرون على ان يفرقوا (او ليسوا حريصين على ان يفرقوا) بين المكسيكي والبوليفي وغيره. «كلكم تشبهون بعضكم البعض (اي كلكم اجانب)»، كما تقول عبارة استخفاف أميركية.

أوضحت ارقام مكتب الاحصاء الوطني ان هناك 100 الف مكسيكي يعيشون في منطقة واشنطن العاصمة. لكن سفارة المكسيك قالت ان العدد اكثر من ضعف ذلك، ويبلغ نحو250 الف مكسيكيا. ويوضح هذا الاختلاف في الارقام شيئين: الاول، صعوبة التفرقة بين الشرعيين وغير الشرعيين، لأن السفارة قالت انها لا تسأل المكسيكييين عن ذلك (ولا تهتم. ولماذا تهتم، وهي تشجع زيادة عدد المكسيكيين في اميركا بأي طريقة؟). الثاني، عدم التأكد من ارقام الحكومة الاميركية. وخلال النقاش الحالي في اميركا عن الاجانب غير القانونيين، قالت مصادر ان عددهم سبعة ملايين، وقالت مصادر اخرى ان عددهم ضعف ذلك. وقال «خوان» انه، اذا لم يجد عملا خلال ذلك اليوم، سيذهب الى منزل واحد من زملائه المكسيكيين لمشاهدة مسلسلات تلفزيونية في قناة محلية باللغة الاسبانية. قال ان اسم المسلسل هو «تلينوفيلا»، او ربما هذا هو اسم قصة الحب العاصف في المسلسل، اي ان المسلسل مليء بالآهات، والتنهدات، واغاني الولع.

هذا شيء ملاحظ في المسلسلات التلفزيونية القادمة من المكسيك وبقية دول اميركا الجنوبية، تختلف هذه عن المسلسلات الاميركية التي تميل نحو «الحب العقلاني». لكن «خوان» لا يعرف اي شيء عن هذا، لأنه لا يتكلم اللغة الانجليزية. انه يعيش في مجتمع مكسيكي منغلق في ضواحي واشنطن العاصمة، وكأنه لا يعيش في اميركا ابدا. لكنه، على الاقل، يعرف الحب (قال ان يشتاق الى زوجته وطفليهما في المكسيك، لأنه لم يرهم منذ خمس سنوات). قال انه، ليكون قريبا من وطنه وعائلته، يشاهد تلفزيونا باللغة الاسبانية، ويستمع الى اذاعة باللغة الاسبانية. ربما قصد اذاعة «دبليو.ايه.سى.ايه» المحلية التي تقدم اغاني وأخبار وحلقات نقاش. ويسيطر على النقاش هذه الايام موضوع مشروع قانون يناقشه الكونغرس لمعالجة مشكلة الاجانب، الذين يعيشون في اميركا بطريقة غير قانونية: في جانب، يريد الرئيس الأميركي جورج بوش وجمهوريون وديمقراطيون العفو عن الذين عاشوا في اميركا لخمس سنوات أو أكثر (سيكون «خوان» محظوظا). لكن هناك متطرفين في الحزب الجمهوري يريدون القبض على كل واحد، وإعادته الى وطنه (رغم أن هذا مستحيل). وقال «خوان» إن مباريات كأس العالم في الشهر الماضي قربته من وطنه ورفهت عنه. هل شجع فريق المكسيك أو الفريق الاميركي؟ رفع يده الى أعلى وقال «فيفا مكسيكو» (تعيش المكسيك). قال انه وزملاءه كانوا يحتفلون كل ليلة برفع الاعلام المكسيكية وطبخ اكلات مكسيكية (مثل «تاكو» و«انشلادا» و«بريتو»). يسمي خبراء واخصائيون هذا «تناقض هويات». ولاحظ هؤلاء، خلال منافسات كأس العالم، ان كثيرا من الذين يعيشون في اميركا (وحصلت نسبة كبيرة منهم على الجنسية الاميركية) لم يشجعوا فريق كرة القدم الاميركي. قال «خوان» انه شجع فريق المكسيك عندما فاز على فريق ايران (3/1)، وكان سيشجع فريق المكسيك اذا لعب ضد الفريق الاميركي (لم يحدث هذا). لماذا؟ اجاب: «أنا مكسيكي وسأظل مكسيكيا. اميركا مكان عملي، واذا ساعدتني على احضار عائلتي، ستكون حبي الثاني. لكن المكسيك سيظل حبى الأول والأخير». وجاءت سيارة تحمل ادوات بناء، ويبحث صاحبها عن عمال يساعدونه على اجراء اصلاحات في منزل، وهرع «خوان» نحوه. اختاره الرجل مع اثنين من زملائه، وكان واضحا من حديثهم باللغة الاسبانية انهم سعداء لثلاث أسباب على الأقل: الأول، ضمنوا عملا اليوم، على الأقل. الثاني، لم يسألهم الرجل عن بطاقة اقامة اميركية. الثالث، لم تعد سيارة الشرطة لتضايقهم مرة أخرى.