وجها لوجه .. ضد الفساد

اختلاسات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تعادل 14 ضعف احتياطي المغرب من العملة الصعبة لعام 2001

TT

الفساد في المغرب يتم التعبير عنه بالنكتة التالية: زار مسؤول مغربي فرنسا والتقى بمسؤول فرنسي. استدعى هذا الأخير نظيره المغربي إلى فيلا فارهة في ضواحي العاصمة باريس. اندهش المسؤول المغربي لما رآه، وسأل صديقه من أين جاء بالمال مع أن راتبه ليس كبيرا. أمسك الفرنسي بيد المغربي وقاده نحو النافذة وأشار الى مستشفى كبير وأنيق وقال له: أرأيت ذلك المستشفى الجميل، لقد حصل بعد الانتهاء من بنائه وفر كبير في مواد البناء والتجهيزات فبنيت بها هذه الفيلا. مرت بضع سنوات وجاء المسؤول الفرنسي لزيارة صديقه المغربي. قاده هذا الأخير إلى قصر فخم في ضواحي العاصمة الرباط، فاستغرب المسؤول الفرنسي وسأله من أين جاء بالمال لبناء قصره الفاره هذا. أمسك المغربي صديقه الفرنسي من يده وقاده نحو النافذة وأشار الى موقع قائلا له: هل رأيت ذلك المستشفى الجميل والأنيق؟ نظر المسؤول الفرنسي طويلا ثم أجاب: لا.. إني لا أرى شيئا. فأجابه المسؤول المغربي: هناك كان سيبنى مستشفى. النكتة ليست في حاجة إلى توضيح أكثر، وربما هي ليست نكتة مغربية فقط، بل نكتة عربية، أو من العالم الثالث كله، وكل شعب يصر على أنها أفضل ما يمكن أن يعكس حالة الفساد في بلاده، وأن المسؤولين لا ينهبون ما يبقى من ميزانيات المشاريع، بل ينهبون المشاريع نفسها. في ما مضى كان موضوع الرشوة في المغرب من المحرمات، وكان الحديث عنها في التجمعات العامة أو الخاصة، يشبه مغامرة غير محسوبة العواقب، وعندما كانت فرقة «ناس الغيوان» ذات الشعبية الجارفة تغني عن الرشوة، كانت الجماهير تهتز في هستيريا نادرة وكأنها ربحت معركة مصيرية.

الأرقام التي أصدرتها جمعيات مدنية في المغرب تقول إن الأموال المنهوبة في المغرب تقدر بملايين الدولارات، وعدد المؤسسات الخاصة والعامة التي تعرضت للنهب والاختلاس من طرف مسؤولين مباشرين وغير مباشرين أكثر من أن تعد، والمبالغ التي نهبت من صندوق الضمان الاجتماعي وحده كانت تكفي لانشاء أزيد من 22 ألف مدرسة نموذجية، في بلد يعاني نصف سكانه الأمية، و25 ألف مستشفى في بلد يعتبر قطاع الصحة فيه كابوسا للفقراء وذوي الدخل المحدود، وتوفير 4 ملايين منصب شغل في بلد ترتفع فيه نسبة البطالة بشكل كبير، ويوجد أزيد من 30 في المائة من خريجيه الجامعيين في عطالة، وكذلك بناء مليون و67 ألف وحدة سكنية، وهو ما كان من الممكن أن يقضي على مدن القصدير في هوامش المدن المغربية الكبرى، والتي تعتبر نقاط عار في جبين البلد. غير أن مسؤولين مغاربة يقولون إن الفساد في المغرب يوجد على مستوى أدنى مما يتم الترويج له، وأن القوانين الجديدة التي تهدف إلى محاربة الرشوة عملت على القضاء عليها بشكل كبير. ويقول محمد بوسعيد، وزير تحديث القطاعات العامة في المغرب ان الصفقات العمومية تخضع لنظام شفاف، وانه بإمكان الجميع أن يشارك في عملية فتح الأظرف التي يتم على إثرها اختيار الطرف الذي ترسو عليه الصفقة. ويضيف بوسعيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الضمانات متوفرة بخصوص شفافية الصفقات العمومية، مشيرا الى ان «كل الصفقات العمومية الكبرى وكل الصفقات المتعلقة بعمليات التخصيص، كانت خاضعة لإعلان طلب عروض دولي، وكلها كانت متابعة من طرف مؤسسة الشفافية الدولية «ترانسبارانسي انترناشونال» والممولين من البنك الدولي وغيرهم»، كما أن هناك متابعة في البرلمان، وهناك فحوصات يمكن أن تقوم به في أي وقت هذه الأطراف السالفة الذكر»، بحسب ما يقول الوزير بوسعيد. ويتحدث الوزير المغربي عن الرشوة الصغيرة كونها «ظاهرة اجتماعية، وهي ناتجة بالأساس عن تدني مستوى التسيير بالمؤسسات العمومية»، مشيرا إلى أن هناك اليوم تدبيرا محكما لهذه المؤسسات وأنها تتمتع بصحة جيدة».

غير أن التفاؤل الرسمي يصطدم في الواقع بأمثلة تصيب المغاربة بالصدمة، فالرشوة في البلاد تبتدئ من الشارع حينما يضطر السائقون المخالفون الى ارشاء شرطة المرور، ويضطر الراغبون في وثائق إدارية الى تقديم رشوة للموظفين، ويضطر المرضى الى ارشاء الأطباء لتقريب مواعيد العمليات الجراحية أو الحصول على سرير في المستشفى.

وحسب منظمة ترانسبارانسي، فإن المغرب يصنف في المرتبة 78 من بين 133 دولة في مجال الرشوة، والمرتبة 124 ضمن لائحة 173 دولة، حسب تقرير الأمم المتحدة للتنمية، وهو بذلك يوجد في الثلث الأخير الذي يضم الدول الأكثر فقرا في العالم، وأن أكثر من ربع المغاربة يعيشون تحت عتبة الفقر المدقع، وينفقون اقل من دولار واحد في اليوم، بينما تصل أجور بعض رؤساء المؤسسات العمومية إلى 800 مرة ضعف موظف بسيط. ويقول تقرير للهيئة الوطنية لحماية المال العام في المغرب، إن المؤسسة العمومية تعرضت طوال السنوات التي تلت الاستقلال لكل أشكال الاختلالات المالية والإدارية، مما أدى إلى إفلاس بعضها وعجز الأخرى عن الأدوار التي أسست من أجلها.

وتعترف الدولة بوجود نهب في عدد من المؤسسات، من بينها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بـ115 مليار درهم (الدولار يساوي 8.50 دراهم)، وبنك القرض العقاري والسياحي بـ8 مليار درهم، والقرض الفلاحي بـ846 مليون درهم، والبنك الشعبي بـ30 مليون درهم، والمكتب الشريف للفوسفات بـ10 مليارات درهم، وشركة كوماناف للنقل البحري بـ400 مليون درهم، والمكتب الوطني للنقل بـ20 مليون درهم، وشركة الخطوط الجوية الملكية التي اتهم مدير سابق لها باختلاس مليار سنتيم، إضافة الى تبذير مبالغ مالية مهمة على صيانة الطائرات في الخارج، والمكتب الوطني للصيد البحري حيث أعلن وزير سابق للقطاع أن أزيد من 70 في المائة من الإنتاج المغربي للثروة السمكية يباع بطرق غير قانونية، ومكتب التكوين المهني الذي اختلست منه 7 مليارات سنتيم في إطار برنامج العقود الخاصة للتكوين، والقناة التلفزيونية المغربية الثانية «دوزيم» التي كانت على شفا الإفلاس، وتم ضخ أموال ضخمة من المال العام في ميزانيتها لإنقاذها، واختلست مبالغ ضخمة من البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، إضافة إلى النهب وسوء التسيير الذي عرفته مؤسسات عمومية وشبه عمومية أخرى. لكن الرشوة في المغرب أصل له جذور. ويقول المؤرخون ان المناصب السياسية أو الإدارية في البلاد كانت توهب من قبل للراغبين فيها مقابل مبالغ مالية معينة، وأن الذي يؤدي مبلغا من المال مقابل حصوله على وظيفة يعمل كل ما في وسعه لكي يسترجع أمواله المدفوعة في أقرب وقت، فتكون الرشوة اليومية هي أسهل الطرق نحو ذلك، وكلما أسرع صاحب المنصب في استرجاعه أمواله عبر «الرشوة المكثفة» إلا ويكون ذلك أكثر نجاعة قبل أن يظهر منافس له يأخذ منه منصبه مقابل قدر أعلى من المال.

ويصنف المغرب حاليا في المرتبة 132 من حيث الدخل الوطني الخام، من مجموع 208 دول مصنفة في المراتب الدنيا على مستوى الدخل في العالم. ويقول تقرير المنتدى الاقتصادي، الذي يهتم بمستوى التقدم أو التراجع في مستوى القدرة التنافسية، عن المغرب يحتل الصف 61 ضمن لائحة 102 دولة. وتمثل الاختلاسات التي طاولت الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي 14 مرة، الاحتياطي المغربي من العملة الصعبة لسنة 2001، و34 في المائة من الناتج الداخلي الخام لسنة 2001. وفي مارس (آذار) الماضي، عقدت الهيئة الوطنية لحماية المال العام، محاكمة رمزية في العاصمة الرباط لمحاكمة مختلسي المال العام. واعتبرت تلك المحاكمة التي حضرتها شخصيات مستقلة وسياسية وحزبية، أن «المغرب عانى منذ 50 سنة بعد الاستقلال من نهب منتظم للثروات الوطنية، واقتراف جرائم اقتصادية أدت إلى استنزاف المال العام لصالح أقليات من الأفراد والجماعات، التي تعتمد على استغلال النفوذ والمحسوبية والرشوة»، وان هذه «الأقلية المتحكمة في صنع القرار نسجت شبكة قوية تهدف إلى وضع أكبر عدد ممكن من العراقيل، في وجه السير العادي للعدالة وأجهزة الرقابة، الشيء الذي أدى إلى الإفلات من العقاب وتشجيع المختلسين والراشين والمرتشين على المضي قدما في نهب المال العام وتبذيره، من دون أن يقدموا أي حساب ولم ولن تتم محاسبتهم عند نهاية مهامهم». وأصدرت هيئة «المحكمة الرمزية»، بيانا اعتبرت فيه أن نهب المال العام، يعتبر ضربا للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية المنصوص عليها في المواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

وعلى الرغم من أنه تم الكشف عن كثير من ملفات الفساد في المغرب في السنوات الأخيرة، إلا أنه لم يتم إصدار عقوبات في حق المتورطين، وأصبحت كل فضيحة تغطي على الفضيحة التي تتلوها، حتى أصبح الكشف عن العديد من الفضائح المالية والسياسية يثير الشبهات، وبدا الوضع يشبه حالة إغراق للسوق بالبضائع الفضائحية، حتى يتم تمييعها ويعود المتورطون إلى جنة الاختلاسات والنهب.