التجارة العالمية.. في مأزق

انهيار «جولة الدوحة» .. هل هو لصالح فقراء العالم؟

TT

عاد التشاؤم ليعم الأوساط الاقتصادية العالمية، بعد فشل جولة الدوحة التي عقدت الأسبوع الماضي بجنيف، في التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الستة الرئيسية المشاركة في المفاوضات لتحرير التجارة، وهو ما دعا الرئيس الأميركي جورج بوش للتدخل والتأكيد أنه سيحاول المضي قدما في المحاولات الرامية للتوصل إلى اتفاق تجاري عالمي رغم انهيار محادثات الدوحة.

ولم يفاجئ الفشل المراقبين، فمفاوضات منظمة التجارة العالمية كتب عليها ألا تنتهي إلا بولادة متعسرة، كما هي جولة الدوحة، التي وصلت إلى نهاية غير سعيدة وتم تعليقها إلى أجل غير مسمى، بحسب باسكال لامي مدير عام المنظمة الدولية، وهو الخيار الذي لم يجد أعضاء المنظمة بدا من قبوله، في حين لم يتردد ممثلو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا والبرازيل والهند، من الإعلان أن جهودهم في إنقاذ جولة الدوحة فشلت أخيرا، بعد محادثات شاقة استمرت يوما واحدا.

ومنذ انطلاقها قبل خمس سنوات في 2001، ظلت مسيرة جولة التجارة غير معروفة الاتجاه، ففي حين تشترط الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي تخفيض الرسوم الجمركية للمنتجات الزراعية، ظل الاتحاد الأوروبي يحث الولايات المتحدة على تقديم تنازلات أكبر في تقليل الدعم الزراعي، ولم يقتصر هذا التباين في المفاوضات بين القطبين الأوروبي والأميركي، بل انهما أيضا (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) استمرا، معا، في فرض ضغوط على الدول النامية لإجبارها على تقديم تنازلات أكبر في فتح أسواق المنتجات غير الزراعية، ولكن الدول النامية ظلت متمسكة بأن يعيد القطبان الرئيسيان مراجعة سياستهما في هذا الجانب وتقديم التنازلات أولا، إذن كانت هناك مواجه ثلاثية، هي من تسبب في وصول جولة الدوحة إلى حالة الفشل هذه. ويعيد الدكتور جاسم حسين الخبير الاقتصادي ورئيس وحدة البحوث الاقتصادية بجامعة البحرين، سبب عدم نجاح مفاوضات جولة الدوحة حتى الآن، إلى الخلاف حول السياسة الزراعية «فهناك تباين في المواقف بخصوص الدعم المقدم للمزارعين، فضلا عن الضرائب المفروضة على الواردات من المحاصيل الزراعية، فمن جهة ترى غالبية الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، بأن المطلوب من الولايات المتحدة، الحد من الدعم المقدم للقطاع الزراعي، نظرا لتأثير ذلك على قانون العرض والطلب». ويشير الدكتور جاسم حسين إلى أن الحكومة الأميركية قدمت دعما قدره 20 مليار دولار للمزارعين في عام 2005 «الأمر الذي ساهم في زيادة إنتاج بعض المحاصيل، وبالتالي الضغط على الأسعار للأسفل في الأسواق العالمية، وفي المحصلة أدت هذه السياسة إلى بيع العديد من المنتجات الزراعية بأسعار زهيدة نسبيا في الأسواق العالمية، الأمر الذي أضر بإيرادات الدول النامية على وجه التحديد، كما يقدم بنك التصدير والاستيراد تسهيلات للدول الراغبة في شراء السلع الزراعية من الولايات المتحدة». ويلفت الدكتور حسين إلى أن القطاع الزراعي في الولايات المتحدة يشتهر بتنظيم صفوفه عبر منظمات المجتمع المدني، التي بدورها تضغط على أعضاء الكونغرس بالوقوف إلى جانب المزارعين، «ولا يوجد سياسي في أميركا يرغب في خسارة أصوات الناخبين من المزارعين، والذين يتميزون عن غيرهم بالذهاب إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم». ويعتبر أن إصرار بعض الدول الصناعية، وفي مقدمتها أمريكا، وكذلك بعض الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا في دعم القطاع الزراعي، أمر غير مقبول، «وهو من المفروض أن يكون من اختصاص الدول النامية، فاقتصاديات الدول الصناعية تتمتع بالقدرة التنافسية في مجالات أخرى مثل صناعة السيارات والأجهزة، ومن الصواب ترك القطاع الزراعي للدول النامية التي بحاجة إلى توفير فرص العمل لمواطنيها».

ولعل السبب الرئيسي لأزمة جولة الدوحة، هو أن الدول المتقدمة ليس لها رغبة سياسية في تقليل الدعم الزراعي وتخفيض الرسوم الجمركية، فالولايات المتحدة لم تنجح حتى الآن في تعديل هياكل التشغيل مما جعل كثيرا من المواطنين الأميركيين غير قادرين على مواجهة الصدمات الناجمة عن التجارة الحرة، بالإضافة إلى ذلك، ستجري الانتخابات النصفية الأميركية عام 2007، والولايات المتحدة لا تريد تقديم تنازلات جوهرية في الوقت الحالي، أما الاتحاد الأوروبي، فإنه يواجه أيضا ضغوطا كبيرة في تقديم تنازلات أكبر بشأن القضية الزراعية.

من جهته، يعتقد الخبير الاقتصادي عبد العزيز العويشق أن مجموعات الضغط في الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، تمكنت من الاستمرار في الضغط على حكوماتها لعدم التجاوب مع متطلبات المنظمة الدولية في رفع أو تقليل الدعم على المنتجات الزراعية، مشيرا إلى أن هذا الدعم يصل أحيانا إلى 20% «وهي بلا شك نسبة عالية، ستضر بالمنتجين من الدول النامية». ووفقا للخبير السعودي فإن اللوم يجب أن يقع على الجانبين، اللذين رفضا النظر للمصلحة العامة لدول العالم، كما تتطلبه قواعد المنظمة، ولفت العويشق إلى أن هذا الفشل، ربما يذهب إلى اتجاه الدول الكبرى إلى اتفاقيات جانبية مع الدول الفقيرة «وبالتالي ستكون نتيجة هذه المفاوضات محسومة سلفا لصالح الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة». وقال إن دول الخليج لن تمس بهذا الفشل في جولة الدوحة، باعتبار انها ليست دولا زراعية وليس لهذه الاتفاقيات أي تأثير سلبي عليها. وبعيدا عن التشاؤم الذي يغمر الخبراء، فإن الدكتور أحمد البنا الخبير الاقتصادي الاماراتي، يرى أن ما يحدث من تأجيل مستمر للمفاوضات «لا يعني أنها فشلت»، مذكرا بجولات المنظمة نفسها قبل تأسيسها (القات)، «فمثلا جولات مراكش استمرت من عام 1996 إلى عام 2004 أي ما يقارب الثماني سنوات، وكذلك جولة طوكيو التي أخذت وقتا طويلا، قبل أن تنتهي نهاية إيجابية تحقق الأهداف المرجوة منها»، ويعتقد الدكتور البنا أن وصول المفاوضات لمرحلة من التعقيد، هو أمر طبيعي قبل أن يصل الأعضاء إلى توافق جماعي، ويدلل الدكتور البنا إلى القضايا التي كانت عالقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، مثل قضايا اللحوم والدواجن «والتي قيل حينها أن المفاوضات فشلت، لكنهما في النهاية توصلا إلى اتفاق مشترك»، ويعيد الخبير الاقتصادي الاماراتي تعقد عملية التفاوض ووصولها إلى باب مسدود إلى رغبة الأطراف إلى تحقيق مكاسب أكبر «أستطيع أن أصف ما يحدث بأنه تكتيك تفاوضي تستخدمه الأطراف لزعزعة الأطراف الأخرى، للوصول إلى تحقيق أكبر كم من المكاسب يرى المفاوضون أنهم لن يصلوا إليه إلا عبر هذا التكتيك». ويلفت الدكتور البنا إلى أن هناك تناقضا في الشعارات المرفوعة من قبل الدول الكبرى الأعضاء بمنظمة التجارة العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي «نسمع عن دعم الدول النامية وتقليل درجات الفقر في العالم، ولكننا في الوقت نفسه نرى هذه الدول الكبرى تفرض بعض السياسات التي تؤثر سلبا على اقتصاديات الدول النامية، فمثلا دول الاتحاد الاوروبي في مفاوضاتها الجماعية مع دول مجلس التعاون الخليجي، أصرت على فرض ضريبة عالية على منتجات الدول الخليجية من الألومنيوم، وهذا الأمر لا شك أنه يتعارض مع دعم اقتصاديات الدول النامية».

ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد رأى بعض الخبراء أن ما حدث من تأجيل للمفاوضات لأجل غير مسمى، ربما يكون من صالح الدول الفقيرة، فهذا تحالف جنوب شرق آسيا للأسماك«See fish» يرحب بـ«انهيار المفاوضات»، معتبرا أن هذا الفشل يأتي في صالح الدول النامية، وقال التحالف، الذي يضم أربع عشرة مؤسسة آسيوية كبيرة لصيد الأسماك في 5 بلدان بالمنطقة، في مذكرة لمنظمة التجارة العالمية «إن الوصول إلى اتفاق في هذه المرحلة كان سيمثل خسارة فادحة للبلدان النامية، مبررا ذلك بتركيز المفاوضات على خفض التعريفات الجمركية للدول النامية بنسب غير متوازنة مع خفض المعونات الحكومية في الدول المتقدمة، في حين قالت منظمة أصدقاء الأرض الدولية في بيان لها «إن هذه أخبار سارة لملايين الأشخاص حول العالم الذين تخوفوا من أن اتفاقية منظمة التجارة العالمية، يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الفقر لمن هم أكثر فقرا في العالم، كما يمكن أن تؤدي إلى ضرر يتعذر إصلاحه للبيئة».

وفي الجانب الآخر، نجد هناك من يحذر من فشل تحرير التجارة العالمية، ويعتبره أنه سيلحق أضرارا بالجميع وبكل بلد على حدة تفوق بكثير التكاليف التي تنطوي عليها المساومة وتقديم التنازلات، وقالت «نشرة أخبار الساعة» الصادرة عن مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، القريب من الحكومة الإماراتية، «ما كادت تنفض المحادثات التي عقدها المفاوضون التجاريون في الاسبوع الماضي لإحياء جولة الدوحة، وما آلت إليه من الفشل والى التعليق لأجل غير مسمى، حتى ظهرت بوادر توحي بأن الاتجاه نحو التكتلات التجارية والاتفاقيات الثنائية سيصبح هو المهيمن، طالما عجز المجتمع التجاري الدولي عن التوصل الى اتفاق عالمي»، وأشارت في هذا الصدد الى ما أكد عليه المفوض التجاري الأوروبي بيتر ماندلسون بعد يوم واحد فقط من فشل المحادثات، بأن أوروبا لا يمكنها الامتناع الآن عن التوجه الى معالجة الأولويات الثنائية والاقليمية، الى جانب ما كشف عنه وزير التجارة الهندي كمال ناث، بأن بلاده الآن بصدد التوقيع على اتفاقية تجارية مع اليابان وتجري محادثات مع الاتحاد الأوروبي في الشأن نفسه نائية مع دول وتكتلات تجارية أخرى. وأوضحت أن تلك الاتفاقيات، وبدلا من ازالة المعوقات التجارية عبر حدود 149 دولة عضوا في منظمة التجارة العالمية تشكل الغالبية الساحقة من دول العام، سيعني ذلك توجه السياسات التجارية للدول الى التركيز على اتفاقيات وتكتلات محدودة تقف في مواجهة بعضها الآخر، وتزيد من تعقيد وتشابك القوانين والقواعد التجارية المعمول بها وتعزز من احتمالات الحروب التجارية بين الدول والتكتلات، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف الى عرقلة تحرير التجارة العالمية، بدلا من تسهيله فيما ستجد العديد من الدول، وبالأخص الفقيرة نفسها خارج اللعبة التجارية العالمية، نتيجة لأن الاتفاقيات الثنائية والتكتلات التجارية غالبا ما تتم بين الأطراف الأقوى.

ومع كل هذا التشاؤم من «وفاة» محتملة لجولة الدوحة، فلا يزال هناك أمل في أن تعود المفاوضات إلى سابق عهدها، على الرغم من التباين الكبير في الخلافات بين الدول الأعضاء بالمنظمة بشأن التجارة الزراعية، فوصول الدول إلى اتفاق دولي سيعود بفوائد جمة على الاقتصاد الدولي، بدوله الفقيرة كما هي الغنية، عندما يتم التوصل لاتفاق بإلغاء جميع الرسوم الجمركية والإعانات، فحسب تقديرات البنك الدولي، فإن توقيع مثل هذا الاتفاق سيعزز ثروة العالم بنحو 300 مليار دولار سنويا حتى عام 2015، ويقدر البنك أن ثلثي هذه الثروة الإضافية سينبعان من تحرير التجارة الزراعية العالمية.

ولعل ما يقلق الدول النامية، وعلى رأسها الدول الخليجية، هو أن انهيار مفاوضات جولة الدوحة، سوف يعزز لجوء الدول إلى إبرام اتفاقيات ثنائية وليست جماعية، الأمر الذي يراه الدكتور جاسم حسين يخدم مصالح الاقتصاديات الكبيرة «حيث بمقدورها فرض شروطها على الاقتصاديات الصغيرة نسبيا»، ويلاحظ الدكتور حسين أن الاقتصاديات العملاقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن منظومة الاتحاد الأوروبي ترغب أكثر من أي وقت مضى في الوصول إلى اتفاقيات ثنائي، «على سبيل المثال وليس الحصر، دخلت اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والبحرين حيز التنفيذ بتاريخ الأول من أغسطس (آب)، بل أن التطبيق جاء بعد أن وافقت البحرين على الشروط الأميركية على ثمانية قوانين، تتعلق بالحفاظ على الملكية الفكرية، أيضا صادق الكونغرس الأميركي في شهر يوليو (تموز) الماضي، على اتفاقية للتجارة الحرة مع سلطنة عمان، كذلك يعمل الاتحاد الأوروبي بجد لتوقيع اتفاقية للتجارة مع مجلس التعاون الخليجي، قبل نهاية العام الحالي، وحتى الماضي القريب كان الاتحاد الأوروبي يتفنن في وضع مختلف العراقيل في طريق الوصول إلى اتفاقية للتجارة الحرة بحجج واهية، منها ضرورة الحفاظ على البيئة». ويخشى الاقتصادي البحريني من أن يتسبب انهيار المفاوضات، إلى لجوء بعض الدول لوسائل القضاء ضمن منظمة التجارة العالمية لحل الخلافات التجارية، مبينا أن البرازيل قد هددت في نهاية الشهر الماضي باللجوء إلى القضاء، فيما يخص مسألة تقديم الولايات المتحدة الدعم لمزارعي القطن، والذي يتناقض مع قوانين منظمة التجارة، «بيد أن البرازيل تحاشت في الماضي، اللجوء للقضاء خوفا من اتهامها بالتسبب في انهيار المفاوضات، لكن هناك تفهما عالميا متزايدا من أن الأمور سوف تتغير مع انهيار مفاوضات الدوحة، ولوحظ أن الممثلة التجارية الأمريكية سوزان شواب، سافرت مؤخرا إلى مدينة ريو دي جنيورو البرازيلية، لإجراء أحاديث مباشرة مع المسؤولين البرازيليين، حول كيفية حل معضلة القطاع الزراعي ضمن مفاوضات الدوحة». ومع كل هذا التشاؤم الذي يلف أوساط الاقتصاديين بالعالم أجمع، إلا أن هناك بارقة أمل من إعادة المفاوضات على جادة الصواب على خلفية بعض التطورات والتصريحات الأخيرة، فقد صدرت تصريحات ايجابية من زعيم منظمة التجارة العالمية باسكال لامي، مفادها بأنه سوف يبذل جهودا شخصية في سبيل إعادة الروح للمحادثات الجماعية، أيضا كان لافتا تأكيد كل من الرئيس الأميركي جورج بوش وضيفه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في اللقاء الذي جمع بينهما في البيت الأبيض أخيرا، على بذل المزيد من الجهود من أجل إعادة المفاوضات إلى مسارها الصحيح (كان الغرض الرئيسي من اللقاء هو موضوع لبنان). من جهة أخرى، دعا وزير التجارة الأسترالي مارك فيلي نظراءه من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى اجتماعات في شهر سبتمبر (ايلول) في بلاده، لغرض بعث الحياة من جديد في مفاوضات الدوحة.