لهذا.. غيرت رأيي في الحرب

جنود أميركيون فروا من العراق يروون لـ الشرق الاوسط لماذا يترك 1000 جندي الجيش كل يوم؟

TT

يرقد، منذ أول يوم في الشهر الحالي، على مسافة قريبة من مبنى الكونغرس في واشنطن، كفن جندي أميركي قتل في العراق. وسيبقى الكفن حتى نهاية الشهر. الكفن مغطى بعلم اميركي، وتحيط به أعلام أميركية صغيرة وصلبان وأحذية عسكرية، ولافتات تنتقد الرئيس جورج بوش، وتترحم على الجنود الأميركيين الذين قتلوا في العراق، وتطالب بعودة كل الجنود الاميركيين من العراق.

وضع الكفن الرمزي تحالف «معسكر الديمقراطية» الذي يعسكر الآن امام الكونغرس، ويضم منظمات مثل: «جنود حاربوا في العراق ضد الحرب»، و«جنود قدامي ضد الحرب»، و«عائلات جنود في العراق ضد الحرب»، و«اللجنة المضادة للحرب»، و«منظمة الحقيقة الظاهرة». وقال جفري ميلارد، وهو جندي اميركي حارب في العراق لـ«الشرق الأوسط، وخلفه الكونغرس وامامه النصب التذكاري لجورج واشنطن: «نعم، نريد الحرية للعراق، لكن العراقيين اولى بتحقيق الحرية لأنفسهم. لم يطلب منا العراقيون ان نغزوهم لنشر الحرية في بلدهم». تحدث ميلارد وهو يلبس نفس اللباس العسكري الذي لبسه في العراق، وعليه اسمه، ورقم فرقته. لكنه وضع كوفية عربية فوقه، ولبس تحته قميصا أسود، عليه باللغتين العربية والانجليزية عبارة: «لن نصمت».

قال: «عملت في العراق سنة كاملة، وتعلمت بعض الكلمات والعبارات العربية. لكني وجدت ان عبارة «لن نصمت» هي احسن ما تعلمت. ما كان العراقيون سيقاسون من حكم صدام حسين الدكتاتوري لو لم يصمتوا. وما كان بوش سيغزو العراق لو لم يصمت الشعب الاميركي».

قال انه تعمد لبس قميص الاحتجاج الاسود، وتعلم من عراقيين ان اللون الأسود هو لون الاحتجاج، وقال انه، قانونيا، ممنوع من ارتداء اللبس العسكري، بعد ان ترك القوات المسلحة، ناهيك من ان يلبس تحته قميص احتجاج، وناهيك من ان يضع فوقه كوفية عربية. واضاف: «انا متمرد، والمتمرد يفعل ما يريد».

لم يشاهد ميلارد، ولم يشترك، في عمليات عسكرية في العراق، لأنه كان يعمل مساعدا لقائد فرقته، الفرقة رقم 42 التابعة لفرقة المشاة (أرسلت الى العراق من قاعدة الحرس الوطني في ولاية نيويورك)، والتي كانت تحرس تكريت لسنة كاملة. لكنه وجد ان كثيرا من عمليات القتل على ايدي الجنود الاميركيين، كانت بسبب الخوف من المدنيين العراقيين. وكانت كثيرا من هذه عند نقاط التفتيش. اطلقوا عليهم النار عندما لم يقفوا، وعندما اسرعوا بسيارتهم نحوهم، وعندما رفضوا الخروج من سياراتهم، وعندما اخرجوا من جيوبهم ما ظن الأميركيون انها مسدسات، وعندما شتموا الجنود الاميركيين او صفعوهم او بصقوا على وجوههم. لكن، لم يغير ميلارد رأيه عندما شاهد مثل هذه الحوادث او سمع عنها، ولا عندما ارسل الى العراق. غير رأيه قبل ان يرسل، وقال: «عارضت غزو العراق، لأنه كان غير قانوني. كان ضد القانون الاميركي، لأن الكونغرس لم يعلن الحرب، وكان ضد القانون الدولي، لأن مجلس الامن لم يوافق عليها». لكن ميلارد قال انه ليس ضد الحرب، وليس «مسالما»، ولا «معارض ضمير»، ولا «معارض عقيدة دينية» (يسمح القانون الاميركي بالنظر في آراء الذين يعترضون على التجنيد العسكرى اعتمادا على هذه الاسباب). وأضاف: «انا أؤمن بالحرب العادلة، لكن حرب العراق ليست عادلة».

وقال شارلي اندرسون، وهو جندي آخر اشترك في غزو العراق لـ«الشرق الأوسط»، انه، مثل مليلارد، فخور بالعمل العسكري وبالاشتراك في حرب عادلة، وانه انضم الى القوات المسلحة لسببين: اولا، «انا وطني من الدرجة الاولى. انا فخور بأميركا حتى يخيل أنني أكاد أطير. انا اؤمن ايمانا قاطعا بأن اميركا هي احسن دولة في تاريخ العالم». ثانيا، «تربيت في عائلة فقيرة لا تقدر على دفع مصاريف دراستي الجامعية، لكن القوات المسلحة تدفعها لكل من يتجند فيها». كان اندرسون، مثل ميلارد، يرتدي ملابس عسكرية بطريقة غير منتظمة، ووضع على رأسه علما اميركيا صغيرا، يخفق كلما حرك رأسه وهو يتحدث. قال انه دخل مع القوات الاميركية، يوم بداية الغزو، بالقرب من البصرة، وكان في فرقة الاسعاف العسكري التابعة لفصيلة الهجوم رقم 5 التابعة لفرقة المارينز الثانية. شاهد «قتل آلاف وآلاف من العراقيين»، خلال شهور الغزو وبسط السيطرة الاميركية على العراق. لكنه لم يشترك في القتل لأنه، كما قال: «كنت مساعدا طبيا، وكان اسعافنا الطبي يسير وراء الدبابات والمصفحات. ويعالج الجرحي ويجمع الجثث بعد نهاية القتال. لم اكن اقدر على ان افعل اي شيء. لكن، غيرت رأيي في الحرب لمجرد مشاهدة الجرحى والقتلى، والدماء والتشوهات».

كان الجندي كاميليو مييا يلبس ملابس عادية، ربما لأنه أخذ نصيبه من التمرد على القوات الاميركية، ومن السجن بسبب ذلك. كان مييا اول جندي اميركي يتمرد في العراق. قال لـ«الشرق الأوسط»، انه عمل في معسكر لاستجواب أسرى الحرب العراقيين، وشاهدهم «حفاة، وعلى رؤوسهم اكياس، ومقيدون باسلاك، وتركناهم بدون نوم يومين او ثلاثة ايام، وهددناهم بأننا سوف نقتلهم، ووضعنا مسدسات على جباههم، وفجرنا قنابل وهمية بالقرب منهم، لنرى ردود فعلهم».

لماذا لم تتمرد وترفض ان تفعل هذا؟ قال: «كنت خائفا، وكان غيري يشترك معي. ربما كانوا كلهم مثلي، لكني لم اعرف ذلك في ذلك الوقت». وقال انه، في وقت لاحق، تأكد بأن «معسكر استجواب أسرى الحرب كان، في الحقيقة، معسكر تعذيب اسرى الحرب». بعد مرور سنة على غزو العراق عاد مييا إلى أميركا، ورفض الرجوع الى العراق، وأعلن تمرده، واختفى لشهور، ثم قدم نفسه الى قاعدته العسكرية، حيث حوكم بالسجن سنة، وخرج من السجن في السنة الماضية. وقال: «سماني بعض الناس «خائنا»، وسماني آخرون «بطلا». اعتقد بأنني بين الاثنين. لست خائنا، لكني لست بطلا، لأني لا اؤمن بوجود ابطال».

ليس سهلا الحديث مع ريكي كلاوسنغ، صديق وزميل مييا. فهو مثله تمرد على العمل العسكري، واختفى مثله. ثم، مثله، قدم نفسه الى قاعدته العسكرية (فورت براغ، ولاية نورث كارولينا). وهو ينتظر الآن المحاكمة، وأرسلت له «الشرق الاوسط» اسئلة عن طريق محاميته لوريل البينا، ومحاميه لاري هايلدز، لكن الاثنين قالا ان قاعدة «فورت براغ» رفضت السماح له بالاجابة عن الاسئلة.

وقال هايلدز: «أتوقع ان يحاكم كلاوسنغ بالسجن لسنة مثل صديقه مييا». وقف كلاوسنغ عند مدخل قاعدة «فورت براغ»، قبل ان يسلم نفسه. وقال للصحافيين: «اصبت بخيبة امل في حرب العراق عندما تأكد لي انها حرب ضد العراقيين. عرضناهم، صباحا ومساء، للاعتقالات والاساءات والاحراجات ولم نعاملهم كبشر مثلنا. ولا اريد حتى ان اتحدث عن قتلهم».

وقرأ كلاوسنغ عبارة قالها مارتن لوثر كينغ، القس الأميركي الاسود، الذي قاد حركة الحقوق المدنية قبل اربعين سنة: «يسأل الجبناء: هل هذا رأي يحميني؟ ويسال الانتهازيون: هل هذا رأي مقبول سياسيا؟ ويسأل اصحاب الضمائر: هل هذا رأي صائب؟» ويعلن البنتاغون، من وقت لآخر، اسماء الجنود الذين تركوا الخدمة العسكرية، لكنه لا يوضح اذا تركوها بسبب نهاية فترة عملهم، أو احتجاجا بطريقة رسمية، او هروبا. وقال جاك فيغر مدير مركز «كويكرهاوس» بالقرب من قاعدة «فورت براغ»، وهو مركز يمثل الجنود المعارضين والهاربيين، لـ«الشرق الاوسط»: «يترك الف جندي اميركي العمل العسكري كل يوم، لكننا لا نعرف نسبة الذين يتركونه احتجاجا او يهربون». هرب الجندي جوشوا كاستيل، وقال ان نقطة التحول كانت «يوم حققت في سجن ابو غريب مع سعودي. قلت له: الا يمنعك دينك من ان تقتل؟ سألني، في جرأة: ألا يمنعك المسيح من أن تقتل؟ فكرت في كلامه كثيرا، لأني كاثوليكي متدين جدا».

وتمرد اهرين وتادا (اول ضابط تمرد، وسلم نفسه، وينتظر محاكمته عسكريا)، بعد ان اقتنع بأن «هذه الحرب ليست فقط خطأ اخلاقيا، ولكن، ايضا، لأنها ضد القانون الأميركي وضد القانون الدولي». وتمردت سوزان سويفت لأن الجنود الاميركيين اغتصبوها، عندما كانت معهم في العراق. جاءت الى اميركا في اجازة، ورفضت العودة لأن رؤساءها رفضوا التحقيق مع الذين اغتصبوها. (يتوقع ان تقدم الى المحاكمة بتهمة التمرد، وتنتظر الآن مصيرها في سجن في قاعدة فورت لويس في ولاية واشنطن).

هل هناك شبه بين الهاربين من حرب العراق، والهاربين من حرب فيتنام (قبل ثلاثين سنة)؟ قال جاك فيغر لـ«الشرق الأوسط»: «لا ونعم. لا، لأن جنودنا الذين حاربوا في فيتنام جندوا اجباريا، بينما الذين يحاربون في العراق متطوعون. ونعم، لأننا بدأنا نشاهد المتطوعين يهربون من حرب العراق، فما بالك اذا كانوا جندوا تجنيدا اجباريا». وأوضح استفتاء للرأي اجرى مؤخرا وسط الجنود الاميركيين أن 70 في المائة، يريدون انسحاب القوات الاميركية من العراق خلال سنة، وان 30 في المائة يريدون الانسحاب في الحال. اجرى الاستفتاء قبل خطاب الرئيس جورج بوش، يوم الاثنين، في الذكرى الخامسة لهجوم 11 سبتمبر، والذي اعلن فيه، في وضوح، ان حرب العراق جزء من حرب الارهاب. قال بوش: «رغم الاخطاء التي ارتكبت في العراق (لم يقل من ارتكبها)، سيكون اكبر خطأ نرتكبه هو ان ننسحب من العراق». وأضاف: «أمن اميركا يعتمد على القتال الذي يدور في شوارع العراق». لكن، في صباح نفس يوم خطاب بوش، تظاهر جنود حاربوا في العراق امام مبنى البنتاغون، ووزعوا منشورات ضد الحرب، وأحاطت بهم الشرطة العسكرية واعتقلت بعضهم، منهم جفري ميلارد الذي قال لـ«الشرق الاوسط»، بعد اطلاق سراحه: «اي حرب هذه التي يعتقل بسببها جنود اميركيون جنودا أميركيين؟».