من يجرؤ على القطف؟

الألغام الأرضية والقنابل العنقودية حولت مزارع اللبنانيين وأرضهم إلى مصدر للموت

TT

«لا استطيع الدخول الى كرمي، لقد فسد موسم التبغ وسيتبعه موسم الزيتون، وضعنا صعب، وأنا ارملة كيف سأعيل اولادي وليس لي مدخول شهري ثابت؟ وضعنا صعب وما بيدنا حيلة. افكر ماليا قبل شراء ربطة خبز فلا املك اكثر من 10 آلاف ليرة (نحو 6 دولارات). وحين حاولت الدخول الى البستان لقطف بعض الثمار وجدت قنبلة فهربت. أناشد الدولة وكل من يستطيع مد يد العون مساعدتنا وتنظيف حقولنا.. حين عدت الى منزلي بعد الحرب كانت القنابل منتشرة في كل مكان وأمام المنزل. لقد عوّضوا علي بـ600 دولار ولكن خزانات المياه تحطمت وهي باهظة». شكوى هذه السيدة اللبنانية تشبه شكاوى اخرى كثيرة بدأت تتوالى من لبنانيين يعانون من مشاكل وأزمات ما بعد الحرب، فإلى جانب المنازل المهدمة والمصانع المتوقفة عن العمل والطرقات الخربة، تضاف الالغام والقنابل العنقودية والقذائف غير المنفجرة الى التركة التي ورثها أهل الجنوب اللبناني من القوات الاسرائيلية. فصحيح ان الحرب الاخيرة توقفت وانصرف اللبنانيون الى عمليات إعادة الاعمار، لكن مشاكل الناس لم تنته، ذلك أن معاناتهم اليومية متواصلة الفصول ومتشعبة الامتدادات من انقطاع المياه والكهرباء، الى مزروعاتهم الملغومة التي تشكل المصدر شبه الوحيد لتوفير لقمة عيشهم المتواضعة.

فالقوات الإسرائيلية التي علّقت «نشاطاتها» فوق الأراضي اللبنانية وان بشكل ظاهري، ذلك أن الخروق متواصلة من الناحيتين البرية والجوية، حرصت على إمطار أكثر من 137 كيلومترا مربعا من الأراضي الزراعية تقع فيها 306 مناطق وقرى، بوابل من القنابل العنقودية والقذائف غير المنفجرة «محظورة دوليا». فخلال ثلاثة أسابيع أي منذ 14 أغسطس (آب)، تجاوز عدد الضحايا من انفجارات القنابل العنقودية اولا والالغام ثانيا السبعين منهم 13 قتيلا مدنيا، بالإضافة الى 5 قتلى من الجيش اللبناني وأربعة جرحى بفعل قذائف يقدّر ثمن الواحدة منها بثلاثة دولارات. أما عمليات تنظيف الاراضي من الاجسام المشبوهة فباهظة وتفتقر الى التمويل وتتطلب الكثير من الوقت والجهد. وقد زادتها تعقيدا القنابل العنقودية لأنها بعكس الالغام تنثر بشكل عشوائي وتصبح عمليات رصدها وازالتها اشبه بالبحث عن ابرة في كومة من القش. جولة في عدد من قرى الجنوب اللبناني كافية لتلمّس البؤس الذي يعيشه سكانها. المساحات الخضراء أضحت «جحيما مفتوحا» يترصد زائرا لاصطياده. والساحات التي اعتادوا التجمّع فيها، أفردت اليوم لفرق من الجيش اللبناني وبعض الفرق الأجنبية لتعمل على نزع القنابل ومعالجتها. تستقبل قرية يحمر الجنوبية زوارها بمنازلها المدمرة والصامدة وابتسامة أهلها. الجميع يبيتون في منازلهم أو ما تبقى منها. نساء ورجال أضحوا عاطلين عن العمل، يجتمعون أحيانا ليتشاطروا همومهم. احاديثهم واحدة: القنابل العنقودية والمزروعات وآخر الضحايا، اما الاطفال فمحاصرون بارشادات ذويهم، عليهم التخلي عن اساليب اللعب القديمة، فالشجرة والصخرة والبستان لم تعد اماكن صالحة للعب «الغميضة». ففي التراب وبين الأغصان تختبئ انواع عديدة من «الاجسام المشبوهة» واشكال متعددة من القذائف العنقودية. انها المزروعات الاسرائيلية في التربة اللبنانية لكن المفارقة تكمن في ان حصاد الارواح يومي. «من يضمن تنظيف الارض بشكل مؤكد؟ فقبل ايام وبعدما اكدت جمعية «الماغ» البريطانية تنظيف احد البساتين نزل صاحبه حسين علي احمد ليحرثه فانفجرت به قذيفة عنقودية. وها هو اليوم يرقد في غرفة للعناية المركزة بعدما اصيب في رأسه وصدره»، يقول خضر اسماعيل لـ«الشرق الأوسط» خلال زيارة لقرية يحمر، ويضيف: «ما يزيد عمليات التنقيب والتنظيف صعوبة هو انطمار «القنابل» العنقودية بالتربة والردم لان اسرائيل رمت المناطق بآلاف القذائف ثم اعادت قصف المنازل والاحياء. أصبح من شبه المستحيل التأكد من عمليات التنظيف. فقد وجدتُ قنبلة في احد البساتين بعدما انهت الفرق المختصة مسحه وتنظيفه». الحاجة ندى علّيق تقف على عتبة منزلها حائرة، فما من شيء تستطيع القيام به. تفضل الحاجة الرد بابتسامة مقتنعة بأن أحدا لا يهمّه مصير بستانها: «انتظر مزروعاتي كل سنة وعندما حان الوقت لقطف موسم التبغ ودّعناه. فقد اتلف. من سيعطينا بدلا منه؟ اما الزيتون فاهتممنا به وانتظرنا موسم القطاف سنتين وسيحين الموعد بعد شهر وينتهي في ديسمبر (كانون الاول) ولكن لن نستطيع الاقتراب من اشجارنا لان القنابل العنقودية منتشرة في كل مكان، كيف سنعيش؟ ماذا نعمل؟ من سيعوّض علينا؟ لقد دفعوا لي بعض المال لاصلاح منزلي ولكن من سيوفّر لي لقمة العيش؟».

سليمة نمر حمود «61 سنة» عادت الى منزلها بعد وقف اطلاق النار وحين كانت تكنس درجاته من الردم اصيبت بانفجار قنبلة عنقودية، «شعرت بدوار واعتقدت انني اهوي ولكن في الحقيقة كنت قد سقطت ارضا وانزف. لقد دخلت الشظايا بطني وصدري ورأسي بالاضافة الى قدمي ويدي اليمنى. وقال لي الطبيب انه يتوجب علي الخضوع لجراحة لانتزاع 4 شظايا من رأسي. والاصعب من تحمّل الآلام، الذهاب الى المستشفى لتغيير الضمادات فوسائل النقل صعبة للغاية». وتحاول سليمة جاهدة عدم ذرف الدموع: «لقد زرعت حقل التبع مرتين، في المرة الاولى جرفه سيل الامطار وفي المرة الثانية أمطرته اسرائيل بقنابلها. كيف سأوفر لقمة العيش لي ولاولادي ولي ابنة ضريرة».

قصة سليمة تتكرر كل يوم تقريبا فعلي خليل في قرية زوطر الغربية قتل على الفور حين انفجرت به قنبلة عندما كان يقطف الكرمة. وسيدة أخرى تضررت عندما كانت تقطف ورق التبغ، والطفل علي محمد جمعة «12 سنة» بترت أصابع يده اليمنى، والصياد محمد جفال يرقد في المستشفى بعدما علقت في شباكه قنبلة عنقودية.

مشكلة القنابل العنقودية ليست الا فصلا جديدا من مخلفات الجيش الاسرائيلي الذي ترك بعد انسحابه من الاراضي اللبنانية عام 2000، آلاف الحقول المزروعة بالالغام. ولكن الخطر يتضاعف الآن ذلك ان القنابل العنقودية والقذائف غير المنفجرة مرمية بشكل عشوائي وبأعداد هائلة ولا خرائط تظهر أماكن وجودها حتى تأتي عمليات التنظيف بالنتائج المرجوة خلال فترات محددة. وقال مصدر مسؤول في المكتب الوطني لنزع الالغام في الجيش اللبناني لـ«الشرق الأوسط» ان الاولوية الآن لنزع القنابل العنقودية لا الالغام، لأن خطرها يطاول حياة آلاف المدنيين الذين «عمدت اسرائيل الى استهدافهم عبر تركيز رمي القنابل العنقودية خلال آخر 72 ساعة من الحرب الاخيرة التي شنتها على لبنان». وقال ان «فرق الجيش المتخصصة نزعت 150 الف قذيفة طيران و350 الف قذيفة غير منفجرة و18 الف قنبلة عنقودية من 15 أغسطس (آب) 2006 حتى 9 سبتمبر (أيلول) وتقدر الكمية المتبقية من القنابل العنقودية بـ430 ألفاً»، لافتا الى ان «اللغم يكلّف الدولة المصنِّعة بين 3 دولارات و5 دولارات أما كلفة ازالته فتصل الى ألف دولار لأن التنظيف يشمل كل المساحة الملوّثة بالاجسام المشبوهة بسبب عدم تزويد اسرائيل الحكومة بالخرائط، فكيف ستتم عمليات التنظيف اذا كان السلاح المستعمل محظرا دوليا لتعذر رصده بسبب رميه عشوائيا؟». وقال ان جهود المكتب تنصب على توفير التمويل اللازم لتنظيف المناطق الملوثة بالاضافة الى الحصول على بعض الاجهزة المتطورة لرصد الاجسام المشبوهة. وأوضح ان فرق الجيش تغطي 92 في المائة من عمليات التنظيف، اما النسبة المتبقية فتتقاسمها شركات اجنبية دولية وغير حكومية منها «ماغ» و«باكتيك» البريطانيتان. وفي ما يتعلق بحملات التوعية، فتتعاون بعض الجمعيات وفي مقدمتها «المساعدات الشعبية النرويجية» «NPA» وجمعية SRSA السويدية بالاضافة الى اليونيسيف ومنظمة الامم المتحدة لشؤون الاغاثة. ولفت الى ان الامارات كانت من الدول الاكثر تعاونا حين وضعت مشروعا كلفته 33 مليون دولار خلال العامين 2002 و2004 لنزع الالغام، آملا ان يتجدد التعاون «لان المشكلة التي تتهدد اللبنانيين خطيرة». وقدّر مسؤول الجيش الذي رفض الكشف عن هويته الكلفة الاجمالية لعمليات التنظيف بخمسين مليون دولار بمعدّل 6 دولارات لكل متر مربع مرجحا انتهاءها خلال 5 سنوات «إذا توافر التمويل أما اذا لم نجد جهات مستعدة للمساعدة في هذا المجال فستمتد المشكلة الى فترة مجهولة». وقال ان عدد الضحايا انخفض تدريجا من 119 ضحية في عام 2000 الى الصفر في عام 2006 ليرتفع خلال 3 اسابيع الى 85 ضحية. منذ عام 1975 أسقطت الالغام 3976 ضحية منهم 1836 قتيلا. وأشار الى ان الكتيبة الصينية في قوات «اليونيفيل» في الجنوب تنزع الالغام في اطار عملها العسكري و«لا تؤدي مهمات لاهداف انسانية أي انها غير مسؤولة عن تنظيف قرية أو حقل». وحذر المسؤول المواطنين من الاقتراب من المساحات المقصوفة وعدم لمس أي جسم مشبوه أو ان يعمدوا الى جمع القنابل العنقودية «لان هذا الامر يصعب عمل الفرق المختصة»، كما دعاهم الى عدم ري مزروعاتهم لان الارض الرطبة او الموحلة تطمر الاجسام وتصعّب عمليات المسح. وقال مدير العمليات التقنية في «ماغ» اندرو غليسن لـ«الشرق الأوسط» خلال تنظيف قرية يحمر ان «خمسة فرق تعمل وستنهي مسح القرية وتنظيفها بعد 3 أسابيع، وسننتقل لاحقا لتنظيف قريتي زوطر الغربية والشقيف. وفي موازاة ذلك، تنشط 8 فرق في صور. ونعمل لزيادة عددنا حتى يصل الى 22 فريقاً في الأول من اكتوبر (تشرين الاول). كما سننتهي من تدريب 300 فرد بعد عام». وأوضح ان «عمليات التنظيف ليست صعبة انما تحتاج الى عدد كبير من النقابين»، مشيرا الى ان الاولوية تعطى للمنازل والشوارع تليها الحدائق ثم الحقول واخيرا المراعي. وينتشر في محافظات الجنوب عدد من الجمعيات التي تتولى القيام بحملات توعية ومساعدة الضحايا وذلك بالتنسيق مع المكتب الوطني لنزع الالغام. وعرض المسؤول في «جمعية رعاية المعاق» غسان رمال لـ«الشرق الأوسط» عمل الجمعية الذي يتحدد بمتابعة ضحايا الالغام والقنابل العنقودية وتوفير الاطراف الصناعية لهم، فضلا عن اجراء مسح يساعد على تقويم حجم المشكلة وحملات توعية، مشيرا الى ان الحصة التعليمية الاولى للعام الدراسي المقبل ستخصص لتوعية الاطفال من أخطار الالغام والقنابل العنقودية.

وقال: «نعاني منذ السبعينات من وجود الالغام في قرى الجنوب ولكن القنابل العنقودية خطيرة لانها منتشرة في كل مكان، وقد سجلت 31 اصابة في قضاء النبطية بين 14 أغسطس (آب) و9 سبتمبر (ايلول) واكثر من 13 قتيلا، لذلك نركز في حملات التوعية على عبارة: لا تقترب، لا تلمس، بلّغ فورا». وأضاف: «كانت المشكلة قد حوصرت بفضل جهود الجيش والبرنامج الاماراتي ولكن الآن عدنا الى نقطة الصفر». وأشارت مصادر في الامم المتحدة الى ان اسرائيل قصفت نحو مائة ألف مستوعب من القذائف تحمل كل منها بين 80 و200 قنبلة عنقودية. و70 في المائة من الضحايا هم من الاطفال. وأوضح ان جمعية المساعدات النرويجية «توفر المال لانتاج مستلزمات التوعية من لافتات وبروشور والعاب للأطفال بالاضافة الى توفير قروض تتراوح بين 1500 دولار وألفي دولار لمساعدة الضحايا بعد اصابتهم بإعاقات وذلك لتمكينهم من تأسيس عمل أو تعلم مهنة تتيح لهم توفير لقمة العيش».