الانقلابات البيضاء في بريطانيا

الصراعات الحزبية على المنصب الأهم تنهي زعامة أقوى رؤساء الوزراء

TT

«اهم ما يؤثر على قيادة الحزب هو التصور الشعبي لقابلية قائد الحزب على الحكم»، هكذا شرح رئيس قسم السياسة في جامعة «غولد سميث» البريطانية ريتشارد غريسون الاسباب وراء الصراع الدائر حالياً في حزب العمال البريطاني ومحاولات الاطاحة بقائده رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وتنطبق هذه النظرية بشكل عام على الصراعات على السلطة التي تعصف بين حين وآخر بويستمنستر ـ مقر البرلمان البريطاني، الذي يتسلم رئيس الحزب الحاكم فيه رئاسة الحكومة في لندن. فعندما يقرر الحزب أن قائده غير قادر على الحكم، او على الاقل يظهر بأنه غير قادر على الحكم، يتخذ الحزب اموره بنفسه ويقرر ازاحة الرئيس من اجل بقاء الحزب في السلطة. وشهدت الساحة السياسية البريطانية صراعا عنيفا، شبَّهه البعض بـ«حرب اهلية»، هز الحكومة البريطانية الاسبوع الماضي ولم ينته بعد، اذ اخذ عشرات من نواب حزب العمال يطالبون علناً باستقالة بلير من منصبه. وقد انشغلت وسائل الاعلام البريطانية بأدق تفاصيل الصراعات الداخلية في حزب العمال بسبب تأثيرها المباشر على اداء الحكومة وخاصة بعد استقالة 8 مسؤولين حكوميين من مناصبهم وإرسال رسائل مفتوحة الى بلير تطالب باستقالته الفورية.

وعلى الرغم من ان بداية الصراع الحالي تعود الى سنوات عدة، الا انها طفحت الى سطح السياسة البريطانية بسبب الاعتراض المباشر على رئيس الوزراء نفسه وخاصة في ظل الحرب على العراق. وبينما تنكشف المستجدات اليومية للخلاف بين مؤيدي بلير ومؤيدي وزير خزانته غوردون براون، الذي من المتوقع ان يخلفه، تعود ذاكرة المحللين الى ازمات مشابهة شهدتها الساحة السياسية البريطانية، وفي مقدمتها نهاية «المرأة الحديدية» مارغريت ثاتشر التي تركت منصبها باكية ومنكسرة بعد 11 سنة و6 اشهر من اقوى فترات الحكم في بريطانيا انتهت بسبب صراعات داخلية ادت الى انكسار قضبتها على الحكم. واصبحت صورة ثاتشر، التي استقالت من منصب رئاسة الوزراء في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1990 وهي تترك مقر رئاسة الوزراء «10 داونينغ ستريت» ودموعها تتساقط، من الصور الخالدة في ذاكرة الشعب البريطاني للقرن العشرين. وكان وراء دموع ثاتشر اشهر صراع على السلطة في التاريخ البريطاني المعاصر، اذ تجمع معارضوها ليجبروها على الاستقالة. وفي حينها كان من الغريب ان تقرر رئيسة وزراء ـ يذكر ان ثاتشر أول سيدة تتبوأ منصب رئيسة وزراء في بريطانيا ـ التخلي عن منصبها على رغم نجاح حزبها بقيادتها في الفوز بثلاثة انتخابات عامة ضمنت لحزب العمال عقد الثمانينات من القرن الماضي كله وهو في السلطة. وكما حصل مع بلير، بدأت مشاكل ثاتشر السياسية بصراعات داخلية اعتبرها البعض بسيطة. فأعلن النائب المحافظ انتوني ماير عزمه على الوقوف ضد ثاتشر ومنافستها على قيادة الحزب. وعلى الرغم من ان ماير كان ضعيفاً داخل حزبه ولم تكن لديه فرصة حقيقية لمنافسة ثاتشر، خاصة انه لم يكن يتمتع بمنصب حكومي، الا ان اعلانه عن تحديها بحد ذاته كان المسمار الاول في تابوت حياة ثاتشر السياسية، اذ اظهر انه من الممكن مواجهة «المرأة الحديدية»، واخذت اصوات المعارضة تعلو ضد ثاتشر. ومنذ ذلك الوقت، تعرضت شعبية ثاتشر، ومن خلالها شعبية حزبها، الى تراجعات عدة ادت ليس فقط الى استقالتها، بل خسارة حزب المحافظين مكانته على الحكم بسبب الصراعات الداخلية التي استغرقت حوالي 10 اعوام لتلتئم جراحها. وتعرضت ثاتشر للصراعات الداخلية لأسباب عدة، من المعارضة لسياستها الداخلية المتعلقة بإدخال ضريبة سكن، الى السياسة الخارجية المتعلقة بانضمام بريطانيا الى الاتحاد الاوروبي، وكان يعرف في حينها «مجتمع اوروبا الاقتصادي».

ووصل النزاع الداخلي ذروته عندما استقال نائب ثاتشر، نائب رئيس الوزراء، السير جيفري هاو من منصبه يوم 1 نوفمبر احتجاجاً على معارضة ثاتشر للوحدة الاوروبية. وبينما قللت ثاتشر من شأن استقالة هاو، الا انها كانت ضربة لحكومة ثاتشر وضربة لـ«المرأة الحديدية» هيأت الاجواء ليعلن أكثر منافسيها، وزير الدفاع السابق مايكل هسلتاين، عزمه خوض انتخابات حزبية لمنافسة ثاتشر على منصبها. وعلى الرغم من ان ثاتشر لم تهزم يوما في انتخابات عامة، استطاع هسلتاين الحصول على اصوات كافية في الجولة الاولى من الانتخابات الداخلية لتدخل المنافسة جولتها الثانية ولتبرز معارضة حقيقية لثاتشر ـ بين الاحتجاج على سياساتها ازاء نظام الضرائب والاتحاد الاوروبي وقيادتها هي شخصياً للحزب. وبعد التشاور مع مستشاريها قررت ثاتشر عدم خوض الجولة الثانية من الانتخابات كي لا تعرض نفسها لهزيمة علنية امام حزبها وشعبها. ولفت مدير مؤسسة «سنتر فورم» الفكرية ديفيد ماري الى ان «الشخص الذي يتمتع بالسلطة يواجه ضغوطا مستمرة من الذين يريدون منصبه، وهذا ما حصل مع ثاتشر ويحصل اليوم مع بلير». وعند اعلانها يوم 22 نوفمبر انسحابها من انتخابات حزبها، رمت ثاتشر ثقلها وراء وزير خزانتها جون ميجر، وعملا من اجل حرمان هسلتاين من المنصب. وعلى رغم نجاح هسلتاين في التخلص من ثاتشر، الا انه فشل في تحقيق حلمه برئاسة الحكومة بسبب الانقسامات في رأي اعضاء حزبه حول قيادته. واثبت الصراع في حزب المحافظين في حينها ضرورة اختيار رئيس لحزب معرض لانقسامات على اساس إجماع لا يؤدي الى اضعاف الحزب أكثر. كما ظهر بعد الصراع ان مطالبة احد قادة الحزب باقالة رئيسه لا تعني بالضرورة التبوء بهذا المنصب نفسه. وشرح الناطق باسم مؤسسة «افتحوا الديمقراطية» البريطانية لدراسة السياسة الداخلية البريطانية، جيمز غرايم ان «سقوط ثاتشر اظهر مشاكل تآكل سلطة اي رئيس وزراء يبقى في الحكم فترة طويلة تدفع منافسيه بالمطالبة باستقالته من اجل التمتع بالسلطة». وبعد اكثر من 15 عاما على سقوط ثاتشر، تشهد بريطانيا صراعا مماثلا. فبعد ما اتفق بلير وبراون قبل تولي حزبهما السلطة على القيادة المشتركة لبريطانيا وتولي براون من بعد بلير الحكم، استطاع بلير قيادة حزبه ليفوز بثلاثة انتخابات تشريعية. وبسبب الانتقادات الداخلية الموجهة اليه، وخاصة مع الحرب في العراق، اعلن بلير في شهر اكتوبر (تشرين الاول) عام 2004 عزمه على عدم خوض الانتخابات العامة لمرة رابعة، فاتحاً الطريق لتساؤلات في حزبه والاعلام عن الموعد النهائي لتخليه عن السلطة وفسح المجال لغيره. واشار مسؤول في مؤسسة «إن إل جي إن» البريطانية للدراسات السياسية، جيمز هيوم، الى انه «من الصعب جداً على رئيس وزراء ناجح ـ وبلير نجح بالفوز في الانتخابات وتقوية الاقتصاد البريطاني واصلاح المؤسسات العامة ـ ان يترك منصبه، لأنه يتصور دائماً ان لديه المزيد مما يمكن تقديمه للشعب». ومع تراجع شعبية حزب العمال، يخشى براون من ان تفلت الفرصة من بين يديه الى قيادة حزبه لفوز رابع في الانتخابات المقبلة. وهذا ما دفع بمؤيدي براون الى المطالبة باستقالة بلير من منصبه. وبسبب الاتفاق غير المعلن رسمياً داخل حزب العمال لتولي براون السلطة بعد بلير، يرى المحللون ان من المستبعد ان يخسر براون فرصة رئاسة حكومة بريطانيا، على الاقل حتى الانتخابات البريطانية المقبلة. الا ان براون حريص على الا يظهر بأنه «توج» بمنصب رئاسة الوزراء، مطالباً في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية «بي بي سي» الاسبوع الماضي بإجراء انتخابات حزبية جادة من اجل اثبات قدرته على قيادة الحزب. وقال ماري: «حتى وان كان براون يتمتع بشعبية كافية لتولي قيادة حزبه، فقد يختار قياديون في الحزب، مثل وزير التعليم الان جونسون، منافسته على المنصب من اجل كسب الاهتمام الاعلامي الكافي ليعطيهم فرصة لانتخابات اخرى في المستقبل وليعرفوا الشعب بتصورات للبلاد». وتعود الاسباب وراء الصراعات في الاحزاب الحاكمة في بريطانيا الى اسباب عدة، على رأسها النظام السياسي البريطاني الذي لا يضع حداً لولاية حكم رئيس الوزراء الذي يستطيع ان يواصل حكمه حتى يخسر انتخابات تشريعية تعقد كل 5 سنوات وفي التوقيت الذي يعلنه هو. وبسبب ذلك، لا يلزم رئيس الوزراء على ترك منصبه خلال فترة زمنية معينة مثلما يحصل في دول اخرى، وأشهر مثال على ذلك الولايات المتحدة التي تحدد فترة حكم رئيسها بول ايتين. وشرح غريسون أن: «في حال تدني شعبية زعيم الحزب، يضطر الحزب على ارغامه على الاستقالة من اجل تحسين فرص فوز الانتخابات المقبلة». وهذا بالفعل ما يطلبه بعض اعضاء حزب العمال الذين يخشون من خسارة حزب العمال في الانتخابات المحلية المقبلة في مايو (ايار) المقبل بعد خسارة كبيرة للحزب في الانتخابات التشريعية في مايو السابق، اذ خسر 47 نائبا عماليا مقعده في البرلمان. وكان حزبا المعارضة، حزب المحافظين والليبراليين الديمقراطيين، المستفيدين من تلك الانتخابات التي يخشى حزب العمال من انها بادرة لخسارة غالبية المقاعد في البرلمان البريطاني في الانتخابات التي من المرتقب عقدها عام 2009. وعلى الرغم من انه كان يتوجب على بلير التمسك بمنصبه حتى نهاية عام 2008، ليكون في الحكم فترة اطول من ثاتشر، الا ان الضغوط الداخلية اجبرته على التخلي عن حلمه لتكون فترة حكمه الاطول في تاريخ اية حكومة عمالية، ولكن ليست الاطول في تاريخ حزبه. وقال غريسون: «ربما يستطيع بلير حكم البلاد على الرغم من الصراعات الداخلية لحزبه، الا ان الشعب اصبح اقل ثقة بقدرته على الحكم، ما يعني ان ذلك قد يؤثر مباشرة على انتخابهم لحزب العمال بقيادة بلير». واظهرت استطلاعات الرأي الاخيرة تدني شعبية بلير بالمقارنة مع رئيس حزب المحافظين الجديد، ديفيد كاميرون، ما دفع بحزبه للمطالبة باقالته في وقت اسرع. وبحسب احصاء نشرته صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية في يونيو (حزيران) الماضي، يفضل 30 في المائة من الشعب البريطاني تولي كاميرون منصب رئيس الوزراء، بينما 20 في المائة فقط يرغبون بحكم بلير، وعلى الرغم من ان القائدين لم يحصلا على غالبية واضحة في الاحصاء، الا انه اظهر مدى تراجع شعبية بلير الذي كان سابقاً من اكثر رؤساء الوزراء شعبية. ويذكر ان الاحزاب المعارضة البريطانية تعاني من مشاكل في قيادتها ايضاً، فعلى سبيل المثال، غير حزب المحافظين رئيسه 4 مرات منذ خسارته في انتخابات عام 1997 ولم يعد الاستقرار للحزب إلا بعد تولي الرئيس الحالي ديفيد كاميرون منصبه. الا ان غرايم يلفت الى ان «الاحزاب المعارضة تستطيع خوض صراعات قد تستغرق اشهرا من دون التأثير على البلاد كلها، بينما الصراعات في الحزب الحاكم تؤثر على الحكومة نفسها». ويضيف غرايم ان «الصراعات الداخلية في بعض الاحيان ضرورية من اجل التجديد وتغيير مسار الحزب ليناسب ما يطلبه الشعب»، الا انه اضاف: «ولكن في حال تصبح الصراعات شخصية ومحورها الطموحات الخاصة وليست الافكار السياسية، فان الحزب والبلاد يتعرضان الى عدم استقرار». وبعد ما وصفه بلير بأنه «اسبوع صعب»، اعترف بلير بضرورة ترك منصبه واعلن عزمه التخلي عن السلطة قبل الخريف المقبل. ويعني ذلك انه بعد عقد من رئاسة وزراء بلير، ينتظر الشعب البريطاني الصورة التذكارية لتركه مقر «10 داونينغ ستريت» لتعلق بجانب صورة ثاتشر الباكية ولتثبت ان الانتخابات النزيهة والمسؤولية امام الحزب والشعب تعنيان ان السلطة لا تدوم لأحد في بريطانيا.