أحكم نفسك.. بنفسك

الجمعيات الأهلية في المغرب.. تجاوزت الـ30 ألفا بعد بداية خجولة حتى باتت تخيف الأحزاب

TT

فيما تشتكي الاحزاب السياسية في المغرب من تراجع اعداد اعضائها وضعف تأثيرها الجماهيري، تنتعش الجمعيات الاهلية بشكل مطرد، وتتراوح بين الجمعيات المدنية (المنظمات الأهلية) التي لا يسمع بها أحد، والجمعيات التي يتردد اسمها في وسائل الإعلام صباح مساء حتى يطغى اسمها على أسماء الأحزاب والزعماء السياسيين. وابتدأ عمل الجمعيات في المغرب بشكل خجول بعد الاستقلال، حيث كان عددها لا يتعدى بضع عشرات في كامل مناطق البلاد، ليصبح اليوم عددها بالآلاف، وتقدر مصادر غير رسمية عددها بأزيد من 30 ألف جمعية، تعمل في كل الاتجاهات والقطاعات، وهناك جمعيات تملك ملايين الدولارات، وأخرى لا تملك درهما واحدا. غير ان الذي يجمع هذه الجمعيات هي أنها أثرت على ثقافة مئات الالاف من المغاربة، وجعلتهم يميلون الى العمل بشكل مستقل في المجالات الخيرية والتنموية. ويقول مصدر من وزارة الداخلية المغربية لـ«الشرق الأوسط» ان الوزارة لا تتوفر على أرقام حول عدد الجمعيات في البلاد، وأن القضية من اختصاص الولايات (المحافظات)، بينما يطلب مسؤولو المحافظات الاتصال بوزارة الداخلية، وهكذا يصبح الحصول على رقم محدد لعدد الجمعيات في البلاد «سرا من أسرار الدولة».

وأدى تزايد عدد الجمعيات في البلاد إلى طفرة لم تكن متوقعة من قبل، على اعتبار أن الجمعيات كانت تخيف السياسيين الذين كانوا يريدون التحكم في كل دواليب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولأن الجمعيات في كثير من الأحيان عادة ما تمارس عملها بعيدا عن السياسة في البداية، غير أن تمرس أعضائها بالعمل الخيري أو التطوعي، يجعلهم يقتربون كل يوم أكثر من السياسة، وأحيانا ينخرطون في العمل السياسي مستغلين تجربتهم الجمعوية. أشهر الجمعيات في المغرب تتركز غالبا في مدن الدار البيضاء والرباط ومراكش وفاس، وأحيانا سلا ومراكش، وهي المدن التي أنجبت بشكل بارز النخب السياسية والاقتصادية التي حكمت المغرب قبل وبعد الاستقلال.

غير أن هناك قرى نائية في المغرب لا يكاد يسمع بها أحد قررت «حكم نفسها بنفسها» وأنشأت جمعيات غالبا ما تتكفل بمهمات غاية في البساطة مثل تنظيف القرية وتشذيب الأشجار، وفي أحيان أخرى مساعدة المحتاجين بمبالغ مالية بسيطة لشراء الأدوية أو السفر إلى المدن البعيدة بحثا عن العلاج. وهناك المئات من الجمعيات في المغرب داخل الحارات الشعبية، حيث يتم تنصيب رئيس لها عن طريق الاختيار الجماعي أو الانتخاب، وهو الذي يتكفل بالدفاع عن مصالح السكان أمام السلطات الرسمية، وهو ما يشبه بشكل كبير المهام التي يقوم بها المنتخبون، وهو ما يؤدي عادة إلى نشوب حزازات بين الطرفين، بسبب تداخل المهام. غير أن البعض ينظر إلى تزايد الجمعيات السياسية كونه تم وفق مخطط واضح من طرف الدولة «من أجل اضعاف العمل السياسي وتنفير الناس من الانضمام إلى الأحزاب السياسية وتشجيعهم على الانضمام إلى الجمعيات».

ويقول محمد زيان، نقيب هيئة المحامين في الرباط، ووزير حقوق الانسان الاسبق لـ«الشرق الأوسط» إن عملية تمييع الحياة السياسية بدأت منذ أسست تلك الجمعيات التي تحمل أسماء الأنهار والجبال والسهول والمدن، كوسيلة من وسائل سحب البساط من تحت أرجل الأحزاب السياسية والمناضلين الحزبيين، «تأسيس الجمعيات المدنية كان محاولة من الحكومة لطمس العمل السياسي للحد من سلطة الأحزاب وتأثيرها في المجتمع ومن أجل تحقير ممارسة السياسة». وحول نجاح جمعيات مثل جمعية محاربة الإيدز (السيدا)، يقول زيان إنه ما كان لها أن تنجح لو لم تجند لها الدولة وسائل أخرى مثل التلفزيون والحملات الإعلامية الضخمة، وأن كل ذلك «من تمويل أفراد الشعب».

وحول وجود جمعيات أخرى لا يمكن القول إنها تحظى بدعم الدولة مثل جمعية حماية المال العام من الاختلاسات، وجمعية «ترانسبارانسي لمحاربة الرشوة» يقول زيان إنه من دون إرادة حقيقية للدولة من أجل محاربة الاختلاسات فإن هذه المعضلة ستظل قائمة، وأن مثل هذه الجمعيات لا يجب أن تعتبر نفسها خارج الأحزاب والهيئات السياسية، بل يجب أن تمارس عملها من داخل هذه الهيئات، وأن على الأحزاب السياسية أن تخصص ترشيحات خاصة لناشطي هذه الجمعيات في البرلمان أو المجالس البلدية إذا كانوا يمارسون نشاطهم داخلها، وسيكون ذلك مفيدا للجميع، لكن الدولة تضع الجمعيات كنقيض للأحزاب السياسية، وهي بذلك تهدّ الجميع». لكن آخرين يرون أنه ليس من الضروري أن تتعارض وسائل عمل الجمعيات مع عمل الحكومة أو تتنافر معها. وتعطي رئيسة الجمعية المغربية لمحاربة داء الإيدز (السيدا) نموذجا لطريقة تآلف العمل الجمعوي في المغرب مع العمل الحكومي. وتقول حكيمة حميش، رئيسة الجمعية، وهي واحدة من أبرز الجمعيات في البلاد، إنه لا يمكن تصور أن تعمل الحكومة من دون جمعيات، وأن هذه الأخيرة تعتبر غاية في الأهمية، ليس للعمل الاجتماعي فقط، بل إن عملها مكمّل للعمل الحكومي الرسمي ولا تعارض بينهما. وتقول حميش لـ«الشرق الأوسط» إن عمل جمعيتها لا يتعارض مطلقا مع العمل الحكومي، وأنه لا غنى لطرف عن الآخر. «أنشأنا جمعية محاربة السيدا لأن وزارة الصحة لا يمكنها أن تقوم بكل العمل المطلوب، ولا يمكن أن تصل إلى الأهداف المطلوبة لوحدها. لا بد من أن تشارك الجمعيات في هذا العمل لأن لها دورا أساسيا في ذلك، فعندما أسسنا جمعيتنا سنة 1988، لم يكن أحد يجرؤ على القول إن الدعارة موجودة في البلاد، لم يكن أحد يعترف بهذه الظاهرة بشكل رسمي، لكن الجمعيات كان يمكنها أن تقول ذلك وتعمل من أجل الحد منها وتشتغل إلى جانب المومسات، وهو شيء لم يكن ممكنا لوزارة الصحة أن تقوم به، وهكذا عملنا بشكل تكاملي مع الوزارة».

وتضيف حميش، موضحة طبيعة عمل جمعيتها، «لدينا مراكز في 14 مدينة مغربية نجري فيها مجانا تحليل الكشف عن فيروس الإيدز، إن الجمعية تمنح المركز والأطباء المتطوعين، بينما وزارة الصحة توفر لنا التجهيزات وتعطي نتائج التحاليل، أي أن كل طرف له عمله، فالوزارة لا يمكنها أن تكون جمعية، وجمعيتنا لا يمكنها أن تكون وزارة». وتشير حميش إلى زاوية أساسية من عمل الجمعيات، وهي أنها تحظى أكثر بثقة الناس الذين لا يتهيّبون كثيرا في الوصول إليها كما يتهيّبون من الدوائر الرسمية. وتقول ان «أعضاء الجمعية متطوعون ولديهم أناس يراقبون المومسات عن قرب، وهذا شيء لا تمارسه الوزارة ولا يمكنها أن تمارسه. كما أن الناس الذين يريدون فحصهم بخصوص إصابتهم بمرض الإيدز يفضلون المجيء عندنا لأننا لا نلزمهم بكشف هوياتهم، وكل المعطيات الخاصة بهم تبقى سرا، وهذا ما لن يجدوه في الدوائر الرسمية».

عمل جمعية محاربة السيدا في المغرب يعتبر نموذجا لعمل عشرات الجمعيات الأخرى في البلاد، سواء من حيث متطوعيها أو طبيعة مهامهم.

وفي ظل وجود مئات الجمعيات في البلاد، فإنه توجد جمعيات تعتبر غنية وتدور الكثير من الملايين في ميزانيتها، ومن بينها جمعيات تنظم مهرجانات للسينما أو الأغاني أو أنشطة فنية أو سياسية، وهي أنشطة غالبا ما تتطلب مبالغ مالية كبيرة لا تستطيع الحكومة توفيرها. وفي الوقت التي نظمت فيه مثلا جمعية أبي رقراق في مدينة سلا (شمال الرباط)، الدورة الثانية هذا العام للمهرجان الدولي لفيلم المرأة، واستضافت فيه ممثلين ونقاد ومخرجين وصحافيين كثيرين على نفقتها أو نفقة ممولين آخرين، إلا أن هناك جمعيات لا تملك لنفسها مقرا، وتضطر إلى الاجتماع في المقاهي أو على شاطئ البحر أحيانا، وهناك جمعيات يضم «مجلسها الإداري» الأب وزوجته وأبناؤه وأبناء وبنات العم والخال، وهي في الغالب جمعيات تجمع الصدقات والتبرعات لتعيل نفسها وتحارب فقر أفرادها.

وكما أن هناك جمعيات لا يتجاوز صدى اسمها القرية أو الحارة التي توجد فيها، فإن هناك جمعيات تقوم بأعمال ومهمات تترك أصداء واسعة على المستوى الدولي، مثلما هو الحال مثلا لجمعية محاربة الرشوة، أو جمعية حماية المال العام أو منظمات حقوق الإنسان بشكل عام.

ويشترط القانون المغربي الصادر سنة 1958، في ألا تمارس الجمعيات أي نشاط سياسي، غير أن تطور الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، جعل الكثير من الجمعيات الحقوقية والسياسية تمارس ضغطا قويا على الدولة وتأخذ زمام المبادرة في الكثير من الأحيان من الأحزاب السياسية والنقابات. وكان لظهور المنظمة المغربية لحقوق الإنسان في يونيو (حزيران) 1979، وقع المفاجأة على الساحة المغربية في وقت كانت البلاد تحاول أن تلملم مشاكلها بعد التوتر السياسي الصعب بين الحكم والمعارضة طوال عقد الستينات وبداية السبعينات، غير أن ذلك كان بداية لتأسيس جمعيات أخرى مثل العصبة المغربية لحقوق الإنسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وجمعيات أخرى محلية وإقليمية، أو فروعا لجمعيات دولية مثل فرع المغرب لجمعية ترانسبارنسي (الشفافية) الدولية، التي تراقب مقدار الفساد أو النزاهة في البلدان التي توجد فيها.

وفي الوقت الذي تجد بعض الجمعيات صعوبات كبيرة في عملها بسبب تماس خط عملها مع الحدود السياسية، وهو ما يمنعه القانون المغربي، فإن هناك جمعيات تعتبر محظوظة وتتلقى دعما من الدولة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهناك جمعيات شبه رسمية تمارس عملها وكأنها جزء من الحكومة، مثل «جمعية آفاق» التي يسمع المغاربة اسمها يتردد باستمرار خلال الوصلات الإعلانية التي تدعو الناس إلى تحسين سلوكهم في الحياة العامة، وهي وصلات تبث بتنسيق مع الاتحاد الأوروبي. الزحام الكبير الذي يعرفه «سوق الجمعيات» في المغرب يبدو أنه يسير في خط تصاعدي في ظل تأسيس المزيد كل يوم. وفي الوقت الذي تشتكي الأحزاب وتولول من تراجع شعبيتها، فإن الكثير من الناس فضلوا إنشاء جمعيات لتنظيف حاراتهم من الأزبال أو حمايتها من المنحرفين أو الحصول على منافع مادية وأدبية، وهو ما يريح الحكومة إلى حد كبير، شرط ألا تقترب هذه الجمعيات من السياسة.